عادت في الربيع الحالي أجواء اشتداد الأزمة بين إثيوبيا وإريتريا لتنذر باندلاع حرب “إقليمية” مجددًا بين البلدين، ومن ثم إعادة إقليم القرن الإفريقي برمته إلى حالة الصراعات المفتوحة بين دوله، والتي تتشابك بدورها مع أزمات هذه الدول الداخلية المستحكمة. وبنظرة مقربة على طبيعة العلاقات الإريترية الإثيوبية بعد وصول رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لحكم بلاده قبل نحو سبعة أعوام، فإن أهم ما يمكن ملاحظته غلبة التقارب الحذر والعداء الكامن في هذه العلاقات. وعلى سبيل المثال، شعرت إريتريا، التي دعمت نظام آبي أحمد دعمًا كاملًا خلال حربه ضد جبهة تحرير التيجراي، بالمباغتة عندما انفرد آبي أحمد بإعلان نهاية الحرب مع إقليم التيجراي في نوفمبر 2023 بمقتضى “اتفاق بريتوريا”، والذي تم دون أي تشاور مع إريتريا رغم الشراكة بين الأخيرة وإثيوبيا عسكريًا وسياسيًا. وتفاقم الفتور في العلاقات في مطلع العام الجاري مع إعلان آبي أحمد عزم بلاده الحصول على ميناء على البحر الأحمر بتوقيع اتفاق- مثير للجدل حتى اللحظة- مع إقليم أرض الصومال، إذ بادرت أسمرة على الفور بتوقيع اتفاق أمني مع مصر والصومال “لمواجهة تحرك إثيوبيا المحتمل في الأخير”. وتلا هذا التحرك الإريتري نشر إثيوبيا قواتها الفيدرالية على الحدود مع إريتريا، وإعلان الأخيرة التعبئة العامة، مما يثير المخاوف باندلاع الحرب بين البلدين.
آبي أحمد وأفورقي.. الشبيهان
يبدو أن ما يجمع بين الزعيمين الإريتري أسياس أفورقي، والإثيوبي آبي احمد يفوق بكثير أوجه الاختلاف في شخصيتهما؛ فالأخير يمثل نسخة أحدث من طبقة المستبدين الأفارقة، الذين يأتي أفورقي في قمة الأحياء منهم، بمسحة إصلاحية، حظيت لسنوات بدعم غربي- أمريكي كامل دون أي سند من الواقع حينذاك. وقد نجح آبي أحمد، كما أفورقي، في قمع أية مطالب إصلاحية وطنية حقيقية عبر استغلال أزمات البلاد الداخلية وإرهاب القوى السياسية المعارضة، واستباق تصدير الأزمات للداخل في بعض الأقاليم (مثل الإقليم الصومالي، وأوروميا، وغيرهما). ويرى بعض المراقبين، أن أية حرب محتملة مع إريتريا ستمثل شريان حياة محتمل لآبي أحمد، الذي يبدو في حاجة ماسة لحرب أكثر من نظيره الإريتري، على الأقل لإبعاد شبح الانقسامات العرقية المتزايدة في إثيوبيا، وإسكات المعارضة وإحكام قبضته على إدارة البلاد دون منافس حقيقي.
ويمكن مقارنة إجراءات آبي أحمد على الأرض (من قبيل “تأميم” الحياة السياسية لصالح حزب الازدهار الحاكم، وممارسة ضغوط أمنية هائلة على مناوئيه، والتحكم في تنمية الأقاليم الإثيوبية وفق قواعد “الولاء” لشخصه ونظامه) بنظام أفورقي الذي يفرض حكمًا للقانون، يقوم على تجريم عدد من ممارسة معتقدات” خارجة عن مظلة القانون الإريتري”، وتكوين أحزاب معارضة، والتبليغ عن انتهاكات الدولة لحقوق الإنسان، ورفض الالتحاق بالخدمة العسكرية. حيث عمد الزعيمان إلى فرض الاستبداد والقمع الداخليين بغطاء من تهديدات وجودية، تتعرض لها بلديهما من وقت لآخر (الحرب الإريترية- الإثيوبية، النزاع الحدودي الإريتري- الجيبوتي، وقبله مع اليمن، وإرهاصات الحرب الحالية بين أسمرا وأديس أبابا- أما إثيوبيا فإنها لم تجنح لتهدئة الأزمة مع مصر تهدئة حقيقية، واستمرت في لعب أدوار تدخل في شؤون جميع دول جوارها (باستثناء كينيا)، مثل السودان وجيبوتي والصومال وجنوب السودان بسبل مختلفة، وبشكل مباشر أو عبر تنسيق أدوار مع قوى إقليمية فاعلة في شؤون هذه الدول، والعمل على ترويج التصور الإثيوبي لفكرة التعاون الإقليمي كوسيلة للهيمنة والتدخل (بأدوات عسكرية واقتصادية مباشرة) في شؤون هذه الدول.
ويمكن أن يفسر وجه الشبه بين الزعيمين الاحتمالات التي تظل مفتوحة لتجدد الحرب بين البلدين رغم خطورتها ومآلاتها على شعبيهما، على الأقل من زاوية قناعتهما الشخصية بكونهما قائدين مختارين لقيادة بلديهما، ومن ثم سلامة جميع قراراتهما السياسية بغض النظر عن آثارها السلبية الواضحة داخل إريتريا وإثيوبيا.
تحديات الداخل وحلول تصدير الأزمة
يواجه نظاما آبي أحمد وأسياس أفورقي في الشهور الأخيرة حزمة من الأزمات الطاحنة، تتراوح بين صراع إثني متجدد وتخبط اقتصادي واضح في إثيوبيا، وإرهاصات تزايد العزلة الدولية للنظام الإريتري (أدرجت إريتريا في لائحة محتملة لغلق السفارات الأمريكية في الخارج، في مؤشر إلى تراجع محتمل في العلاقات الأمريكية الإريترية بعد أعوام وجيزة من الدفء في العلاقات بعد توقيع اتفاق السلام مع إثيوبيا في العام 2018، بفضل جهود أمريكية- خليجية ملفتة بإدارة الدبلوماسي الأمريكي المخضرم في القرن الإفريقي دوانلد ياماموتو).
فنظام آبي أحمد، لا يزال يواجه مشكلات إحكام سيطرته على كامل الدولة الإثيوبية مع نمو المعارضة في أقاليم أوروميا والصومالي الإثيوبي، وتجددا واضحا لمناهضته في إقليم التيجراي؛ إلى جانب حالة عدم الاستقرار الظاهرة في الاقتصاد الإثيوبي. فيما يتوقع معنيون من إقليم التيجراي (Modern Diplomacy, May 2, 2025) إمكان إقدام آبي أحمد على حشد موارد بلاده لخوض حرب مع إريتريا بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول العربية والخليجية الراغبة في إحكام السيطرة على إريتريا ودورها في حوض البحر الأحمر (في إشارة غير مباشرة للإمارات، والسعودية بدرجة أقل ربما)؛ أملًا في أن يحصل آبي احمد على مزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية على خلفية هذه الحرب (التي ستمتد على حدود إقليم التيجراي المعادي بالأساس لآبي أحمد) ضد نظام أسياس أفورقي. كما تشير التقارير إلى تنوع أسباب ترجيح آبي أحمد لخيار الحرب، مثل احتلال القوات الإريترية بالفعل أراضي إثيوبية حتى بعد نهاية حرب التيجراي (نوفمبر 2020- نوفمبر 2022)، وما تعتبره أديس أبابًا دعمًا إريتريًا لأهم قوى المعارضة لنظام آبي أحمد في إثيوبيا. كما لا يخفى، بناء على تجارب سابقة لآبي أحمد منذ توليه اسللطة في العام 2018، احتمال أن تكون الحرب أداة حاسمة لتخفيف الضغوط الداخلية عليه في السنوات القليلة المقبلة.
أما نظام أسياس أفورقي، الذي قدم دعمًا لا يستهان به لمؤسسات الدولة السودانية الوطنية، وفي مقدمتها القوات المسلحة لمواجهة اعتداءات قوات الدعم السريع، ويعمق علاقاته على نحو واضح مع مصر والصومال، فإنه بات أكثر قوة في السنوات الأخيرة وتأثيرًا في التحولات الإقليمية الجارية. وقد تبنى نظام أفورقي سياسة واضحة بمواجهة الأطماع الإثيوبية في الوصول لمنفذ “سيادي” على البحر الأحمر حتى في دولة أخرى غير إريتريا (التي ظلت مرشحة لمثل هذا السيناريو في سنوات مع بعد اتفاق السلام بدعم سعودي وإماراتي متباين الأسس والدوافع). وتثير المواقف الإريترية تحديات للسياسة الأمريكية الراهنة التي تميل إلى تفكيك سيادة دول إقليم القرن الإفريقي لصالح حزمة من المشروعات العسكرية والاقتصادية الجديدة (بتنسيق مع أطراف إقليمية مثل، تركيا والإمارات وقطر والسعودية، وحضور إثيوبي تقليدي كحليف غربي راسخ في الإقليم) التي تغير من خريطة الإقليم الجيو سياسية بشكل كامل تقريبًا.
بأي حال، فإن الحرب بين البلدين ستؤدي حتمًا إلى تجميد التفاعلات السلمية الداخلية المناهضة لنظامين تمرسا على الاستبداد، وتجاوز المطالب الشعبية– منذ عقود في واقع الأمر- تحت لافتات الأزمات الخارجية.
إثيوبيا وإريتريا وتمدد الحرب الإقليمية
تشير قراءة تطورات إقليم القرن الإفريقي الكبير إلى تصاعد حظوظ نشوب حروب متفاوتة، ويأتي التصعيد الإثيوبي الإريتري “المستدام” في سياق هذه التطورات؛ إذ لا يمكن فصله عن مجمل الأخيرة وتداعياتها. فإثيوبيا لم تتعاف بعد من حرب التيجراي (انتهت نوفمبر 2022)، كما لم تتمكن من التطبيق الناجع لاتفاق بريتوريا مع جبهة تحرير التيجراي بشكل أمين، ويحترم حقوق شعب التيجراي؛ الأمر الذي أدى بدوره إلى التوتر الحالي في الإقليم. إضافة إلى ذلك، فإن الفوضى العارمة التي تضرب أكبر أقاليم إثيوبيا (أوروميا) وصلت لمستويات خطيرة، تنذر بالعودة إلى خطوط العام 2015، (عندما أدى التوتر بين الأورومو إلى سنوات من الفوضى، انتهت بتولي آبي أحمد ذي الأصول الأوروموية). كما بات نظام آبي أحمد يعول بقوة مفرطة على الوساطة التركية في نزع فتيل أزماته مع الصومال؛ الأمر الذي يؤشر على مدى هشاشة موقف أديس أبابا في مساعيها لنيل منفذ على البحر الأحمر بشروط سيادية، انتهت في واقع الأمر على ترقب جائزة “منفذ بحري” لإثيوبيا في سياق التغيرات الدولية والإقليمية الجارية للسيطرة على مقدرات إقليم القرن الإفريقي.
كما تكشف المواقف المتغيرة بشكل ملفت من قبل أديس أبابا وأسمرا تجاه الأزمة في السودان (على سبيل المثال قامت إريتريا في يوليو 2024 بطرد القائم بأعمال السودان في إريتريا على خلفية زيارة آبي أحمد لبورتسودان) عن حجم التنافسية والتوتر في العلاقات داخل الإقليم رغم الخطاب الرسمي الإثيوبي بإعمال مبادئ التعاون الإقليمي، وترقب إريتريا بالغ الحساسية تجاه نجاح إثيوبيا في تلبية الحدود الدنيا من مساعيها الوصول لمنفذ بحري على البحر الأحمر، لما سيعنيه ذلك من خصم كبير من مكانة إريتريا الاقتصادية والاستراتيجية في الإقليم (كما الحال في جيبوتي جارة إثيوبيا الصغيرة).
وهكذا، فإن سيناريوهات الحرب بين إثيوبيا وإريتريا تظل قائمة رغم أية جهود معلنة لوقفها، لأن هذه الحرب تبدو خيارًا مثاليًا لآبي أحمد وأفورقي لسبب قد يبدو متماثلا لدى الطرفين وهو السعي للهروب من أزماتهما الداخلية عبر تصديرها للخارج.