بعد أربعة وخمسين عاما على عاصفة (15) مايو (1971)، التي أفضت بنتائجها وتداعياتها إلى أخطر انقلاب استراتيجي في السياسات والتوجهات العامة بالعالم العربي، لا في مصر وحدها، فإننا بحاجة حقيقية لإعادة قراءة الحوادث في سياقها وظروفها حتى نفهم ما جرى لنا وبنا.. وكيف وصلنا إلى هنا؟

كان رحيل “جمال عبد الناصر” في (28) سبتمبر (1970) صاعقا، غير أن الحزن الغامر الذي ملأ الشوارع، لم يحل دون صراعات السلطة.

السلطة أية سلطة لا تعرف الفراغ.

لم يكن نائبه “أنور السادات” شخصية مجهولة، فسجله معروف والتحفظات عليه معلنة في أروقة التنظيم السياسي ودوائر الدولة، ومع ذلك مر بسهولة نسبية إلى مقعد الرجل الأول.

تكفلت المجموعة المهيمنة على مقاليد الأمور داخل مؤسسات الدولة بالدعوة إلى انتخابه رئيسا قبل أن يودعها السجون بعد زهاء سبعة أشهر بتهمة التآمر عليه، فيما سميت بـ”ثورة التصحيح”، أو “انقلاب ١٥ مايو” بتوصيف آخر.

هذه حقيقة أولى في قصة ما جرى.

كان “زكريا محيي الدين” خيار “محمد حسنين هيكل” الأول لخلافة “عبد الناصر”، لكن اسمه استبعد سريعا إثر تحركات واتصالات وتوافقات بين جماعات متعارضة على إبعاد أعضاء مجلس قيادة الثورة السابق عن أي دور.

في ظروف وتوازنات معقدة تقاسمت السلطة شخصيتان متناقضتان، “أنور السادات” رئيسا و”علي صبري” نائبا.

كانت اتفاقية الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا وليبيا، التي أعلنت في بني غازي يوم (١٧) إبريل (١٩٧١)، عنوان الصدام بين الرجلين لا جوهره.

عارض “علي صبري” توقيع الاتفاقية وصارح “السادات” برأيه أثناء وجودهما معا في بني غازي، طالبا تأجيل النقاش حولها لحين العودة للقاهرة.

لم يكن “السادات” وحدويا ولا كان “على صبري” معاديا للفكرة العروبية، انصب اعتراضه على التوقيت قبيل حرب محتمة تستعد لخوضها القوات المسلحة.

في اجتماع اللجنة التنفيذية العليا يوم (٢١) إبريل باستراحة القناطر الخيرية جرت مواجهات مباشرة بين الرئيس ونائبه، وكانت الأغلبية مع النائب.

بعد أربعة أيام نقل الصراع إلى مستوى أوسع في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، وخرجت أزمة السلطة إلى العلن.

طُرحت أسئلة كثيرة بينها مدى صلاحيات الرئيس، وإلى أي حد يلتزم بالقيادة الجماعية، وموعد الحرب وجاهزية الاستعداد لها.

تلاحقت مشاهد الأزمة.

عُزل “علي صبري” من منصبه نائبا للرئيس في الأول من مايو.

دبت خلافات بين المجموعة المهيمنة على الطريقة التي يتوجب عليهم التصرف بمقتضاها.

استقر الرأي بعد وقت قصير على تقديم استقالة جماعية، أعلنت من الإذاعة يوم (١٣) مايو.

كان ذلك خطأ فادحا في إدارة الأزمة أفضى إلى اعتقالهم واتهامهم بالتآمر.

حسب جميع الشهادات المعلنة للذين اتهموا بالتآمر لإطاحة “السادات”، فإن خطأهم الأكبر هو أنهم لم يتآمروا!

جرى وصفهم بـ”مجموعة علي صبري”، نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، رغم أنهم لم يبدوا حماسا للصعود بـ”الرجل القوي” إلى موقع رئيس الجمهورية بعد رحيل “عبد الناصر”، وفضّلوا بصورة أو أخرى “الرجل الضعيف” بظن أنه يمكن التحكم فيه.

هذه قصة معتادة في التاريخ المصري وأثمانها معروفة.

في أحداث مايو اختلطت أوراق وتداخلت اعتبارات متناقضة.

لم تكن هناك إدارة واحدة للأزمة، ولا كان هناك تجانس بين الذين ضمهم قفص واحد في المحاكمات التي جرت.

ما هو أكثر مأساوية أنه جرى ضربهم عن طريق معاونيهم وأوثق رجالهم.

تولى اللواء “ممدوح سالم” أقرب رجال أمين عام التنظيم الطليعي ووزير الداخلية “شعراوي جمعة”، السيطرة على الملف الأمني دون أي مقاومة.

وتولى الفريق “محمد صادق”، رئيس هيئة الأركان حسم الموقف العسكري في مواجهة القائد العام، الفريق أول “محمد فوزي” بلا أي ممانعة.

بادر “محمد عبد السلام الزيات” بالسيطرة على وزارة الإعلام، بعد أن غادرها الوزير المستقيل “محمد فائق”، دون أن يكون معه أحد يسنده.

وتقدم اللواء “الليثي ناصف”، قائد الحرس الجمهوري لاعتقال المجموعة القيادية كلها بمن فيهم “سامي شرف” وزير رئاسة الجمهورية، الذي كان يأخذ منه تعليماته حتى أيام قليلة مضت.

شملت قائمة المعتقلين نائب رئيس الجمهورية علي صبري، والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول محمد فوزي، ووزير الداخلية شعراوي جمعة، ورئيس المخابرات العامة أحمد كامل، ووزير الإعلام محمد فائق، وعدد كبير من قيادات التنظيم السياسي ومنظمة الشباب الاشتراكي.

انهار كل شيء في لحظة واحدة وسقط النظام من داخله.

كما هو معروف وشائع فإن الأستاذ “هيكل” هو من اقترح اتباع الخطوات الدستورية والاستقرار على شخص النائب كانتقال سلمي وآمن للسلطة في أوضاع حرب.

وكما هو معروف وشائع فإنه قال للرئيس شبه اليائس أثناء أحداث مايو (1971) “إن الشخصين الرئيسيين في الموقف فيما يتعلق بك هما اللواء الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري، والفريق محمد أحمد صادق، رئيس أركان القوات المسلحة”، لافتا انتباهه أن “الشرعية معك”.

بصورة أو أخرى كان دوره محوريا في إدارة الأزمة.

لماذا انحاز إلى “السادات” في الصراع على السلطة؟

لم تكن كامل توجهاته استبانت، وقد عارض جذريا إدارته السياسية لحرب أكتوبر كما لم يعارضها أحد آخر، وأُدخل السجن بسببها في اعتقالات سبتمبر (1981)، كما لم تكن تحفظاته على “مجموعة مايو” تسمح بأي رهان عليها، بل لعله كان يستشعر أنها تود إذا ما آلت السلطة لها أن تودعه خلف القضبان.

هذه حقيقة شبه غائبة في كل السجالات التي جرت على مدى (54) عاما.

راجع “تجربة مايو” في حلقات مسجلة عن سيرة حياته، وهو يستعرض ما قبل حرب أكتوبر (1973)، لم يتسن لها أن تبث حتى الآن.

في نهاية شهر مارس (1971)، قبل شهر ونصف الشهر من العاصفة، حسب مذكرات الفريق أول “محمد صادق”، جرت واقعة كاشفة للفجوات والتعقيدات بين الأستاذ “هيكل” و”مجموعة مايو”.

أثناء دخول الفريق أول “محمد فوزي” مبنى الوزارة بكوبري القبة لاحظ وجود المحرر العسكري لـ”الأهرام” “عبده مباشر”، واصل صعود السلم وانتظر بالشرفة المطلة على المدخل، ومن خلفه القادة الذين كانوا بصحبته، وما أن رأى محرر “الأهرام” يدخل من الباب، وقبل أن يتجه يمينا بالدور الأرضي في الطريق إلى مكتب رئيس الأركان ناداه قائلا: “يا مباشر.. قل لهيكل يتلم!”.

رد عليه: “يا سيادة الوزير أنتم ناس كبار مع بعض، وتستطيع أن تبلغه ذلك بنفسك، أما أنا فلا أستطيع نقل مثل هذه الرسائل”.

قال “فوزي”: “طيب يا مباشر”.

في ذلك اليوم- حسب شهادة “صادق”- فإن القادة المرافقين للوزير فوجئوا بما حدث، وكل من في المبنى أصابته المفاجأة.

كانت تلك الحدة في الألفاظ تعبيرا عن فجوات واسعة استدعت بردات الفعل مواقف شبه إجبارية.

لعلي لعبت دورا في إذابة الجليد بين الطرفين المتصارعين في أحداث مايو، لكن ما جرى كان قد جرى.

تبدت في شهادة “صادق” إشارتان جوهريتان:

الأولى، لم يكن الرئيس “السادات” على علم بما يجري داخل القوات المسلحة، وأنه كان خلال تلك الفترة في حالة هلع وفزع – كما كتب حرفيا.

والثانية، أنه من بادر بالاتصال بالأستاذ “هيكل” لإبلاغه بحقيقة موقفه من الأزمة.

أسست النتائج السياسية لعاصفة (15) مايو لكل الانقلابات التي جرت في مصر وأوصلتنا إلى ما نحن فيه.

الملف كله يستحق المراجعة بأكبر قدر من الموضوعية حتى نستوفي حقائق، ما جرى لنا وبنا لأكثر من (54) عاما.