موجات من العنف المتواصل تتنزل على شعوب الشرق الأوسط منذ غزوة نابليون لمصر والشام 1798، حتى زيارة دونالد ترامب لثلاث دول خليجية انتهت 15 مايو 2025، بالتزامن مع ذكرى تأسيس دولة العدوان الصهيوني في 15 مايو 1948، مسلسل من الإجرام الغربي لم يتوقف، ولن يتوقف بل سوف يزداد. كان فوق القدرة على التخيل أن تتزامن زيارة الرئيس الأمريكي مع ذروة الوحشية الصهيونية، حيث انفلت العنف الإسرائيلي من كل قيد ليصب الجحيم على غزة وأهلها، يحصد الأرواح، ويمزق الأشلاء ويخرب ما بقي فيها من عمران البيوت والمستشفيات، حتى الملاذات والملاجئ والخيام، في ثلاثة أيام هي فترة الزيارة، كان الرئيس الأمريكي مع القادة الخليجيين الثلاثة يتبادلون كلمات الحب والتقدير والإعجاب، وفي اللحظة ذاتها، تجلت صورة إسرائيل لتؤكد نفسها قوة مطلقة في الإقليم بغير رادع، فباستثناء المقاومة التي تم استنزافها، فإن حرب الإبادة الصهيونية على غزة من 7 أكتوبر 2023 حتى يومنا هذا في مايو 2025، أثبتت الحقيقة الصلبة التي سوف يتأسس عليها الشرق الأوسط الجديد، هذه الحقيقة هي باختصار شديد: إسرائيل هي القوة العسكرية المهيمنة على الشرق الأوسط ، ومن علامات الهيمنة أنها لم تجد رادعاً واحداً، يؤثر عليها قيد أنملة طوال ما يقرب من عامين، اقترفت فيها مجازر إبادة وحشية متواصلة ضد شعب عربي مسلم في إقليم عربي مسلم سني، لم تصدر أية مقاومة إلا من المقاومة الفلسطينية في غزة ومن ساندها من ذوي الصلة الوثيقة بإيران سواء من الشيعة العرب في لبنان والعراق أو الشيعة الزيدية في اليمن مع قليل من الإسناد الخفي من إيران التي باتت في موقع أضعف بعد تدمير القوة العسكرية والصف القيادي لحزب الله في لبنان، وضعف موقفها في سوريا بعد سقوط الأسد ومجيء نظام جديد معاد لها، ومتعهد بعدم تصدير أدنى إزعاج لإسرائيل، كان هذا أحد بنود الترتيبات التي جاء وفقاً لها النظام الجديد في سوريا برعاية تركيا ذات أكبر جيش وأكبر اقتصاد في المنطقة، وذات الدور المحوري في الشرق الأوسط الجديد تحت السيادة الإسرائيلية العليا، وقد أثبتت تركيا جدارة لهذا الدور طوال عامي حرب الإبادة، إذ جمعت بين النقيضين بمهارة مكيافيللية نادرة المثال، حيث أنتجت أكبر وأقوى تصريحات في التعاطف مع ضحايا الإبادة وفي الوقت ذاته، لم تحرك ساكناً لوقف الإبادة، إذ تساوت همتها- وهي ذات أكبر اقتصاد وأكبر جيش- مع دول ودويلات عربية وإسلامية من ذوات أضعف اقتصادات وأضعف جيوش. الشرق الأوسط الجديد فوقه إسرائيل، ثم عن يمينها تركيا، ثم عن شمالها الثلاثة الأنشط من دول الخليج.
هذا تصور واقعي، لكنه واقع مؤقت وغير قابل للاستمرار، لأن استمراره يعني سلسلة من الحروب الباردة بين هذا التجمع الإسرائيلي التركي الخليجي المؤقت، وبين باقي الإقليم وفي صدارته القوة الشيعية الأولى، وهي إيران ثم القوة العربية السنية الأولى وهي مصر، لن تستمر طويلاً خطط محاصرة إيران، إذ تكفي غضبة إيرانية عابرة، تغلق مضيق هرمز ليفكر العالم كله والغرب بالذات في التكلفة المدمرة لمثل هذه النزوة العابرة، في مثل هذا الحصار الذي سوف يطول، السودان سوف ينتقل من سيئ إلى أسوأ، ليبيا سوف تنتقل من سيئ إلى أسوأ، غزة سوف تنتقل من سيئ إلى أسوأ، البحر الأحمر سوف ينتقل من سيئ إلى أسوأ، ليس أمام مصر ترف اللجوء إلى أي مغامرة أو نزوة عابرة، ليس أمام مصر إلا خيار القنفذ، إذ تتحصن داخل أشواكها الطبيعية كي لا ترتد يد، تمتد إليها بسوء إلا وقد نزفت دماً، هذه الأشواك الطبيعية هي الشعب ذاته، وما بناه عبر الزمن من مؤسسات ومرافق وقيم العيش المشترك التي ترجمها المصريون في نضالهم من أجل دولة الدستور والقانون، هذه فترة ليس فيها حلفاء مخلصون لا في النظام الدولي، ولا الإقليمي ولا العربي، هذه فترة سيولة كلها شكوك وريبة وغموض والتباس، ولا يقين فيها ولا ثقة ولا وضوح، حليف مصر فيها هو شعبها بالدرجة الأولى والأخيرة، لا يوجد بلد في العالم- غير مصر- تشتعل النيران حولها من كافة الجوانب، مصر هي البلد الوحيد في العالم الذي يحتفظ بسلامه الأهلي وتماسكه الترابي وأمانه الاجتماعي، بينما كل جيرانه دون استثناء واحد، دول قد تساقطت ولا أمل في قيامها، ومجتمعات قد تفككت ثم تحاربت ثم باتت الحروب الأهلية هي الوضع الطبيعي، حتى تناست تلك المجتمعات الوضع الطبيعي وانساقت مع الحروب الأهلية موجة وراء موجة، ولا أمل في شاطئ للخلاص، يبدو ولو من بعيد. مصر لا تملك القدرة على نزوة عابرة لكن مدمرة مثل إيران.
لكن مصر تملك ما هو أهم لو أرادت، ثم لو أدركت قوتها، ثم لو قررت المخاطرة، حين لا يكون أمامها من خيار غير المخاطرة، مصر تملك- وحدها- إفشال خطط الشرق الأوسط الجديد، مصر تملك- وحدها- إفشال التجمع الرباعي الجديد من إسرائيل وأمريكا وثلاثي الخليج وتركيا، فقط تمتنع، فقط تعلن الامتناع، فقط تعلن أن هذا الرباعي يخلق تكتلاً، يستدعي تكتلاً مضاداً، بما يدفع الشرق الأوسط نحو مصادر جديدة للتوتر والاضطراب، هو في غنى عنها؛ لأن عنده منها ما يكفيه، وبات لا يحتمل المزيد، الأوضاع الاقتصادية لا ينبغي أن تكون قيداً على حركة مصر السياسية، فمصر مطلوبة في كل الأحوال، ويستحيل نجاح أي تصور للشرق الأوسط دون موافقتها، والتصور الجاري تنفيذه، يستحيل أن ينال رضا مصر، إنه تصور يذهب بالإقليم إلى المزيد من التفكك والتفكيك والانقسام والتقسيم والاقتتال والحروب الأهلية المفتوحة، إنه تصور جهنمي يقوم- لتأمين مستقبل الدولة الصهيونية- على إمكانية إسالة وتسييل الإقليم كله على مراحل وعلى فسحة من الوقت ثم إعادة صب هذه السائل في قوالب دول ومجتمعات وثقافات تتوفر فيها شروط بقاء وأمان وسيادة الدولة الصهيونية في الشرق الأوسط، باختصار هذا مخطط لإنتاج شرق أوسط صهيوني.
مقاومة هذا المشروع ليست صعبة، بل محاصرته سهلة، وذلك بإنتاج موقف مصري مبدئي وعملي، مقنع للمصريين ومقنع لشعوب المنطقة، كافة شعوب المنطقة في قرارة نفسها لا تثق في المشروع الصهيوني، ولا تأمن له ولا تركن إليه، وإسرائيل هي أول من يعلم هذه الحقيقة، إسرائيل لا تطمئن لشعوب المنطقة وتعلم أن هذه الشعوب تنظر إليها كمشروع عدوان واحتلال واغتصاب لأرض الشعب الفلسطيني، بل كان من تداعيات حرب طوفان الأقصى أو حرب الإبادة، أن توسعت هذه النظرة السلبية ضد إسرائيل بين الشعوب في العالم كله وبالذات في أوروبا التي أنتجت، ثم صدرت ثم كفلت قيام الدولة الصهيونية.
لو أردت مزيداً، عما يمكن أن تفعله مصر، يكفي أن تعلم أن تاريخ المشروع الصهيوني في الشرق الأوسط تأسس على أربع لحظات: 1- الأولى كانت المؤتمر الصهيوني الأول في بازل- سويسرا 29 أغسطس 1897. 2- كانت الثانية صدور وعد بلفور بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين 2 نوفمبر 1917. 3- كانت الثالثة إعلان قيام الدولة الصهيونية 15 مايو 1848. 4- اللحظة الرابعة كانت زيارة السادات للقدس ومعه مبادرة للسلام 19 نوفمبر 1977. اللحظة الأولى بلورت الحلم، اللحظة الثانية أدخلته الشرق الأوسط، اللحظة الثالثة جسدته في دولة، اللحظة الرابعة ضمنت له البقاء، قبل زيارة القدس كانت فكرة زوال إسرائيل هي الهاجس الشاغل للصهيونية، بعد الزيارة بدأت تتبلور فكرة أن إسرائيل ولدت لتعيش، وتعيش لتبقى وتبقى لتهيمن فبدون الهيمنة، لا يتأكد بل يتهدد البقاء.
هذه اللحظة الرابعة كما منحتها مصر تستطيع أن تسلبها وقد لا يكون الوقت اليوم ملائماً فربما يكون ملائماً في أجل قريب أو بعيد، فلا يعرف التاريخ لحظات سرمدية تستمر بلا انتهاء ولم يعرف تاريخ السلام والحرب في العالم معاهدة تدوم إلى أبد الآبدين، تستطيع الصهيونية أن تعقد مؤتمراً في 1897، وتستطيع الصهيونية، أن تنال وعداً 1917، وتستطيع الصهيونية، أن تتجسد في دولة 1948، لكن لا تستطيع الصهيونية ضمان فكرة، أنها جاءت لتبقى وتبقى لتهيمن، فلن يحدث ذلك ما دامت بقيت مصر هي مصر الخالدة، رغم المحن التي نعرفها، وما دام بقي التاريخ هو التاريخ الذي لا يتوقف عن التغير ولا يكف عن التقلب، ما دار الليل والنهار. مصر كونت أفضل أجيالها، وأنجزت أفضل منجزاتها في عصور المواجهات، وليس في عصور السلام، أنجزت مصر أفضل إنجازاتها مرتين: مرة في عقود المواجهة مع الإمبراطورية البريطانية في العقود الثلاثة بعد ثورة 1919، ثم مرة ثانية ضد الصهيونية والأمريكان في العقود الثلاثة بعد حرب 1948، مصر الدولة والشعب تطهر نفسها، وتكتشف مكامن قوتها، وتتخلص من قوى البلادة والكسل والغباء في أحقاب المواجهة، وليس في أحقاب الوداعة والطراوة والرخاوة .
لقد حصدت الصهيونية من تاريخ زيارة القدس 1977، حتى يومنا هذا ما لم يكن في خيالها الجامح، أن تحصد واحداً من المائة منه، لقد أعطاها السلام نصف قرن من التمدد، حتى تربعت على عرش الإقليم كقوة حرب وعقاب وتأديب وهيمنة متوحشة بربرية، ليس لها رادع من داخلها ولا من داخل الإقليم ولا من خارجه، وحش مطلق. الذين يحكمون على قدرات مصر في الفعل الجذري من قراءة لحظتها الراهنة قراءة عجولة، لا يقفون على حقيقة، ما يمكن أن تفعله مصر في قلب المعادلة التي يجري فرضها على الشرق الأوسط برباعي إسرائيل وأمريكا وتركيا وبعض الخليج، مثلما امتلكت مصر القدرة على المفاجأة في 19 نوفمبر 1977، فإنها تملك القدرة على المفاجأة بالقدر ذاته في التوقيت الذي تختاره وتراه. مصر في ضعفها، مثلما في قوتها، تملك مرونة هائلة في التجاوب مع موجات التاريخ، وهي تعلم أن لديها القدرة- حين تريد- على صُنع موجات التاريخ، فعلت ذلك مع محمد علي باشا، وانتقلت من ولاية عثمانية يتلاعب بها أراذل المماليك إلى إمبراطورية، تعمل لها إمبراطوريات أوروبا ألف حساب، ثم فعلت ذلك مع حفيده إسماعيل حين سبق أوروبا إلى إفريقيا، وبسط سلطة مصر على نهر النيل من مديرية خط الاستواء حتى البحر المتوسط، وفعلت ذلك مع ثورة 1919 حين أصبحت نموذجاً مضرب الأمثال خارج أوروبا الغربية، ثم فعلت ذلك مع عبد الناصر حين كانت مصر الناصرية هي من ترسم ملامح السياسة في الشرق الأوسط حتى 1967، مصر بما هي مصر تستطيع في أي لحظة تختارها أن تعيد توجيه البوصلة في هذا الإقليم، وليس أمامها خيار غير ذلك، لو أرادت أن تنفي عن نفسها تغول الأقربين والأبعدين معها، وإذا أرادت أن تتفادى خطر الأشقاء والأعداء معاً.
عرف الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية، خمس موجات من العنف طبعت الحياة فيه، لم تطبع فقط الحياة السياسية، لكن طبعت تفاصيل الحياة اليومية لشعوب الإقليم. 1- الأولى مع تأسيس إسرائيل 1948، وقد استمرت حتى معاهدة السلام في كامب ديفيد 1979، ثلاثة عقود شهدت ثلاثة حروب كبرى بين العرب والدولة الصهيونية، كما شهدت عدة انقلابات عسكرية تبعتها تحولات عاصفة في عدد من الدولة العربية. 2- الثانية مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران وغزو السوفيت لأفغانستان، ثم حرب العراق وإيران، كما الحرب الأهلية في لبنان، وقد بلغت هذه المرحلة ذروتها مع غزو العراق للكويت وحرب أمريكا على العراق وسقوط الاتحاد السوفيتي. 3- الثالثة بدأت مع تفرد أمريكا بالهيمنة على العالم وعلى الشرق الأوسط والعرب بالتحديد، وفيها انطفأت جذوة منظمة التحرير الفلسطينية، كما انطفأت قيادة ياسر عرفات بعقد اتفاق السلام وتأسيس سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني 1993. 4- الرابعة مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، والتي أعقبها ربع قرن من العدوان الأمريكي المتواصل على الشرق الأوسط، حيث شبت وتربت وترعرت أجيال على حضور الحروب الأمريكية على شعوب المنطقة، تملأ الشاشات ونشرات الأخبار في كل البيوت على مدار الساعة، هذه سابقة لم تحدث في تاريخ العنف، دولة عظمى لا منافس لها ولا رادع لها، تتعهد شعوب الشرق الأوسط بربع قرن من أبشع الحروب، حتى ولد ونهض جيل من الشباب على امتداد الإقليم، هو الآن في الخامسة والعشرين من العمر، يعرف أن الأصل الأصيل الثابت الوحيد في هذا الإقليم هو الحروب الأمريكية على شعوبه، أمريكا- في ربع قرن- خلقت هذا الشرق الأوسط العنيف، أسقطت الأنظمة، فككت الدول، قسمت الشعوب، هيأت الظروف لحروب أهلية، لا تنطفئ لها جذوة، لم يكن الشرق الأوسط بهذا العنف الذاتي الداخلي المتأجج بين أهله قبل ربع قرن من حروب أمريكا وخططها وهيمنتها على مصيره. 5- حرب الإبادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وهذه موجة عنف لن تترك أثرها فقط على شعوب الشرق الأوسط، بل تتعداه إلى حيث وجد على ظهر هذا الكوكب إنسان عاقل، يسمع الأخبار ويفهم معناها.
………………………
هل للشرق الأوسط مخرج من هذا العنف؟!
هذا مقال الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.