لم يزل يحدونا الأمل في التراجع عن إصدار قانون الإجراءات الجنائية الجديد، بعد أن تمت الموافقة عليه من قبل مجلس النواب، إذ أنه الآن في محطته الأخيرة، وهي محطة موافقة رئيس الجمهورية عليه وإصداره. وذلك يمثل النموذج التطبيقي لنص المادة 123 من الدستور المصري، والتي تمنح رئيس الجمهورية الحق في الاعتراض على القوانين التي يقرها مجلس النواب، وذلك خلال ثلاثين يوما من إبلاغه بها من قبل مجلس النواب.
وبعيدا عن الجدل الفقهي حول تكييف كينونة ذلك الحق الممنوح دستوريا لرئيس الدولة، ومدى علاقته بمبدأ الفصل بين السلطات، ومدى قدرة السلطة التشريعية على رقابة أعمال السلطة التنفيذية، وجعل من الأخيرة سلطة فوقية في الاعتراض على القوانين، أو إصدارها، إلا أن ما يعنينا هنا، أنها المحطة الختامية في مراحل إصدار قانون الإجراءات الجنائية على الرغم من كثرة الاعتراضات المجتمعية التي أثيرت حوله، منذ أن كان مشروعاً، إلى أن تم إصداره، وعلى الرغم من عدم تيقني من جدوى الأمر، لكون مشروع القانون منذ لحظته الأولى، يمثل نتاجاً للسلطة التنفيذية، وبالتالي فستكون حريصة على نفاذه.
وإذ أن هذه هي الخطوة الأخيرة، فإننا في مرحلة النداء الأخير على عدم إصدار ذلك القانون، وإعادته مرة ثانية إلى مجلس النواب، للعمل عليه بما قد يحقق توافقا مجتمعيا وقانونيا وحقوقيا له، وذلك لكثرة السلبيات التي توجد بين نصوصه، تشكل مصادرة أو تضييقا على العديد من الحقوق والحريات، سواء للمحامين أو المواطنين، وهي في النهاية تصب في خانة إرهاق حقوق المواطنين، وهذا يكمن في العديد من النقاط الجوهرية والحيوية لهذا القانون، وذلك لكونه يزيد من المساحة الممنوحة للنيابة العامة في التحقيق والاتهام والإحالة، بما قد يغل يد الدفاع، لكونه يسمح بذلك في غيبة المحامين، ذلك بخلاف كونه يسمح بصلاحية التحقيق لمأموري الضبط القضائي، بعيدا عن رقابة النيابة العامة أو وجودها، علاوة على منحه سلطة التحقيق في مقار الأمن الوطني أو مقار الداخلية بشكل أوسع.
فقد جاء نص المادتين 375، 419 مكررا/ 9، بما يتناقض بشكل أو بآخر مع ضمانات الحق في الدفاع بحسبها أهم ضمانات المحاكمات العادلة، حيث نصت المادة 357 المستحدثة على أنه “فيما عدا حالة العذر أو المانع الذي يثبت صحته، يجب على المحامي سواء أكان موكلاً من قبل المتهم، أم كان منتدباً من قبل النيابة العامة أو قاضي التحقيق، أو رئيس محكمة الجنايات بدرجتيها، أن يدافع عن المتهم في الجلسة أو أن ينيب محامياً غيره، وإلا حكم عليه من محكمة الجنايات بدرجتيها بغرامة، لا تتجاوز ثلاثمائة جنيه مع عدم الإخلال بالمحاكمة التأديبية، إذا كان ذلك مقتض”. ثم جاءت الفقرة الثانية من المادة 419 مكررً/ 9، من أنه “إذا تخلف المحكوم عليه أو وكيله بغير عذر عن الحضور في الجلسة المحددة لنظر الاستئناف أو في أي جلسة تالية، تندب له المحكمة محامياً للدفاع عنه، وتفصل في الاستئناف”. ويعد الحق في الدفاع من الحقوق الأساسية للإنسان، التي لا يجوز أن يُنتقص منها أو يتم التضييق عليها، ولا يملك المشرع سوى إقرارها بشكل يحقق التوازن بين حقوق الأفراد وحرياتهم وبين مصالح الدولة، وهذه المكنات تخول للخصم إثبات ادعاءاته القانونية أمام القضاء والرد على كل دفاع مضاد في ظل محاكمة عادلة، يكفلها النظام القانوني، ويمثل ذلك قيمة ومبدأ أساسياُ، وخصوصاً في ارتباطه بقرينة البراءة وهي أحد المبادئ الأصولية التي ترتكز عليها حقوق الإنسان، فمجرّد توجيه الاتهام إلى شخص معيّن بارتكاب جريمة، لا يعني ثبوت إدانته، وصفته كمتّهم لا تقوم إلا متى توفرت دلائل جديّة على ارتكاب الجريمة وصدور حكم بات بالإدانة بعد توفّر الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه، ويتطلّب احترام هذا الأصل ضمانات لحماية الحريّة الشخصيّة للمتّهم، ويلتزم القاضي بضمان هذه الحريّة بعدم الخروج عن الإطار الذي حدّده قانون الإجراءات الجزائية لتطبيق العقوبات، والإطار الذي حدّدته الاتفاقيّات والإعلانات الدولية التي تبناها المشرّع.
كما أن الصياغة المفتوحة، والتي جاء عليها نص المادة 379 من ذلك القانون، والتي تجيز الاعتراض على سماع شهود، لم يتم الإعلان بأسمائهم من قبل النيابة العامة أو المتهم أو المدعي بالحقوق المدنية أو المسئول عنها، لهو من الأمور التي تؤثر بشكل يقيني على سريان المحاكمة، بما يحقق ضمانات كافية لأطراف النزاع، كما وأنه يبعد ذلك عن وجهة نظر المحكمة صاحبة القول الفصل في المحاكمة ذاتها، وقد كان الأحرى أن يكون أمر سماع الشهود من الأمور المتاحة والمضمونة؛ لتحقيق العدالة تحت رقابة المحكمة، ذلك بخلاف كون هذا التشريع، كان ينتظر منه أن تتم فيه معالجة جديدة لموضوع الحبس الاحتياطي، وهو الموضوع الذي بات يؤرق كافة القانونيين والحقوقيين على حد سواء، وذلك فيما يتعلق بمدد الحبس الاحتياطي، وعدم اللجوء للبدائل المتاحة، كما وأنه مما لا شك فيه، أن الحبس الاحتياطي يعتبر من أخطر إجراءات المحاكمة الجنائية السابقة على صدور الحكم القضائي البات، فهو يؤدي إلى إيذاء الفرد في سمعته ومصالحه وأسرته، فيعرض سمعة المتهم للتشويه، ولمعاناة مادية ومعنوية على جميع المستويات، العائلية أو المهنية أو الحياة الاجتماعية، بشكل أعم وأشمل، يعتبر الحبس الاحتياطي أحد إجراءات التحقيق، صادرًا عن السلطة المختصة، يتم بمقتضاه إيداع المتهم السجن فترة زمنية محددة قابلة للتجديد، حتى ينتهي الأمر إما بالإفراج عنه أثناء التحقيق الابتدائي أو المحاكمة، وإما بصدور حكم في الدعوى ببراءته أو بالإدانة والبدء بتنفيذ العقوبة عليه، هذا جميعه بخلاف الغلو في التغريم المالي والمنع من السفر، وما إلى ذلك من أمور، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحقوق الشخصية للمواطنين.
وإذ أن أوجه القصور أو السلبيات المتعلقة بالتضييق على حقوق المواطنين في قانون الإجراءات الجنائية، أكاد أجزم أنها أكبر من مساحة مقال أو ورقة بحثية، بل ربما تحتاج إلى مؤلفات من المتخصصين، وهو الأمر الذي يدق ناقوس الخطر على مسار التشريع في مصر بشكل عام، وبشكل أخص على ما هو ذو أهمية وارتباط بحقوق المواطنين وحرياتهم.
وإذ أن الأمر برمته معقود في الوقت الحالي بيد السلطة التنفيذية التي تسمح لها المقدرات الدستورية، أن تعيد هذا القانون مرة جديدة إلى مجلس النواب، وذلك لإعادة طرحه للنقاش من المتخصصين في الشأن العام والأمور القانونية، فإننا نتوجه بهذا الخطاب إلى رئاسة الجمهورية، آملين في الاستجابة إلى ذلك الطلب المجتمعي، بعدم إصدار قانون الإجراءات الجنائية وإعادته إلى مجلس النواب.