الاستبداد والديكتاتورية والطغيان والحكم بالقمع والقهر، هو الأصل في التاريخ منذ اخترع الإنسان فكرة السياسة كتنظيم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، الديمقراطية وحكم الشعب وسيادة القانون وإقامة العدل، كانت- بل، وما زالت- المسار الهامشي للتاريخ، الحداثة والتكنولوجيا والتصنيع وبناء المدن وتوسع الحضر وانتهاء الاقطاع والرق وانتشار التعليم النظامي والتجنيد الإلزامي والصحافة والإعلام الجماهيري، وثورة المعلومات والدساتير والبرلمانات والأحزاب والنقابات كل ذلك خدم الاتجاهين معاً: خدم تعميق الاستبداد والديكتاتورية والطغيان والحكم بالقمع والقهر، كما خدم تعميق التحول نحو الديمقراطية وسيادة القانون وإقامة العدل واحترام مبدأ المساواة. لهذا كان القرن العشرون ذروة الحداثة، كما هو ذروة الديكتاتورية معاً، بل يمتاز القرن العشرون بابتكار الشكل الأعمق والأشمل من كافة أنواع الطغيان والقمع السابقة عليه، فيما سبقه من القرون.

 القرن العشرون، وما تلاه، شهد ميلاد الشمولية، حيث يتمكن الحاكم ليس فقط من اغتصاب السلطة العامة، وليس فقط اغتصاب حق الشعب في الاختيار والمشاركة والقرار، وليس فقط القضاء الكامل على المجال العام الذي هو مجال حركة الناس، والذي هو شرط الحرية- كما ترى حنا آرندت في الفصل الرابع والأخير من كتابها “النظام الشمولي”- لكن تمكن الحاكم من غسل دماغ كتلة المواطنين وبرمجة عقولهم، وصب ضمائرهم في قوالب من صنعه وصناعة وعيهم على النحو الذي يكفي لتزييف فهمهم، بحيث يتوافق مع رؤية الحاكم ومصلحته هو ومن معه، باسم الثورة، وباسم الوطنية، وباسم القومية، وباسم شعارات كثيرة، تم توظيف منابر الأحزاب والنقابات الصحافة والإعلام والتعليم والدراما والسينما والأدب لشرعنة حق الحاكم في اغتصاب السلطة، وواجب الشعب في الرضا بذلك، وتقبل فكرة الحرمان من أي هامش للحركة أو أي هامش للحرية، باختصار تسعى الشمولية- كذروة للطغيان- لاغتيال مبدأ سيادة القانون، وأن يتم ذلك الاغتيال برضا الشعب، ثم يحل محله مبدأ سيادة الرعب، ومبدأ سيادة الرعب من ابتكار حنا آرندت في فصل عنوانه “الأيديولوجيا والرعب: نوع جديد من الأنظمة” . وهي لا تغفل حقيقة هامة، وهي أن هذه الأنظمة الشمولية، إنما تجد طريقها سهلاً ميسراً، حيث المجتمعات التي تشهد نوعاً من الإفلاس الكامل لكافة التيارات السياسية سواء ليبرالية أو اشتراكية أو وطنية…إلخ، وهي ملاحظة سليمة وفي محلها، إذ لا ينجح حاكم فردي مطلق في الاستبداد، ثم الطغيان ثم القهر المادي ثم القهر المعنوي ثم القهر الروحي ثم قهر الضمائر ثم تشكيل المشاعر ثم تزييف الوجود الكلي للمواطنين، إلا في حالة مجتمع أفلست، نضبت أفكاره وأفلست نخبه، وخارت قواه وضاعت بوصلته واهترأت عزيمته وفقد همته بالكلية، بحيث لا يكون أمامه من خيار إلا الاستسلام للحكم الشمولي، من حيث هو قهر شامل مادي وأدبي ومعنوي، يستدعي اخضاع كل مواطن اخضاعاً تاماً كاملاً شاملاً بلا استثناء لمواطن واحد، فالقهر واجب قومي يضوي الجميع تحت مخالبه.

المشكلة في مبدأ سيادة الرعب، أنه ليس فقط يعطل مبدأ سيادة القانون، لكن المشكلة هي أن سيادة الرعب يتحول ليصير هو القانون السائد، ومن ثم تكون استباحة الحريات والحقوق المدنية هي الطابع العام لأداء السلطة، ومن ثم يكون من البديهي القضاء الكامل على كافة هوامش الحركة، فلا توازن بين السلطات، ولا حدود تقف عندها السلطة التنفيذية في تغولها على سلطتي التشريع والقضاء، وينفلت عقال الإدارة البيروقراطية والأمنية من كل قيد، فتتصرف دون خوف من رقيب أو حسيب، سواء كان من الشعب أو من المؤسسات المعنية بالرقابة داخل جهاز الدولة، وفي الخلاصة، تكون المعادلة كالتالي: حاكم يستبيح السلطة، سلطة تستبيح الشعب، شعب يتقبل الاستباحة، تبرير كل ذلك بالوطنية والقومية والمصلحة العليا للبلد التي تستدعي الوقوف صفاً واحداً على قلب رجل واحد.

إذا انتصر مبدأ سيادة الرعب، فإنه يسود لفترة طويلة، حيث يتعود عليه الناس في أغلبيتهم، وحيث لا يستغني عنه الحكام، وحيث تتطبع به كافة مؤسسات الدولة، وحيث يصير جزءًا عضوياً من ثقافة البلد ومزاجها وتكوينها العميق، لهذا لا يتحمس الحكام للفكاك منه، حتى لو كانوا قادرين على الحكم بدونه، ولا يتحمسون لإنهاء العمل به، حتى لو اقتنعوا بكثرة ما ترتب عليه من مظالم ومفاسد، إنهم يترددون كثيراً جداً في الابتعاد عن التمسك بمبدأ سيادة الرعب، ولو قليلاً كما يترددون كثيراً في الذهاب ولو بأقل الخطى نحو مبدأ سيادة القانون، صعب ثم صعب ثم صعب على الذين تعودوا على الحكم بسيادة الرعب، أن يحكموا بسيادة القانون، حتى ولو ثبت لهم أن مصالحهم في البقاء في السلطة تقتضي ذلك، وحتى لو حدثتهم ضمائرهم أن ضخامة ما اقترفوه من مظالم، باتت تسد عليهم طريق البقاء الآمن في السلطة، ولا نقول الخروج الآمن منها، ففكرة الخروج من السلطة في الأنظمة الشمولية غير واردة بتاتاً، ولو كانت واردة لما كان هناك داع للشمولية التي هي أعلى درجات القمع والقهر والاستبداد والطغيان والديكتاتورية.

قبل القرن العشرين، كانت الديكتاتوريات تحافظ على نفسها بطريقتين: 1- مستوى معين من القمع لا تنزل عنه، حتى تضمن فرض كلمتها وبسط إرادتها وضمان السلم والأمن والاستقرار، بما يكفل سلامة الديكتاتورية ذاتها وبقائها واستمرارها. 2- وضع اليد على الثروات العامة بما يمكنها من إعطاء الموالين والمستعدين للموالاة وحرمان المعاندين والمستعدين للعناد.

 وعلى حسب شدة أو لين مستوى القمع تكون شدة أو لين الديكتاتورية، فمثلما عرف التاريخ ديكتاتوريات عنيفة، فإنه كذلك عرف ديكتاتوريات حميدة، تكتفي من القمع، بما يسمح لها بالبقاء في السلطة، ثم التمتع بخيرات السلطة ثم الحصانة من المساءلة ثم الترفع فوق القانون، فلا تخضع له، تكتفي الديكتاتوريات الحميدة بالقمع الذي يكفل لها الهناء والمتعة دون الجور الكامل على مواطنيها أو رعاياها، بل تكون حريصة على أن تترك لهم هوامش للحركة والتنفس والترقي الاجتماعي والحراك الاقتصادي تحت سقوف مرسومة سلفاً. ثم هذه الديكتاتوريات الحميدة تكتفي من استباحة المال العام، ما يكفل لها حياة باذخة ومستقبلاً مضموناً وبجانب ذلك، تسمح للمقربين منها بالإثراء وبالحياة المترفة، ولهذا تسعى لإعادة صياغة الطبقات الاجتماعية، فتكسر بعضها وترفع بعضها على قاعدة سيف المعز وذهبه. ديكتاتوريات ما قبل القرن العشرين، لم تكن مخدومة بهذه الشبكات المهولة من الجيوش النظامية والشرطة العلنية والسرية المتمددة في كل شبر وجحر من البلدان، كما لم تكن مخدومة بهذه التكنولوجيا المرعبة التي تؤمن للحكام سيطرة مطلقة على أنفاس مواطنيها، حيثما كانوا، لهذا كان دائما في ديكتاتوريات ما قبل القرن العشرين مجال ما أمام الناس للحركة، ولانتزاع ما يستطيعون انتزاعه من حرياتهم وحقوقهم العامة والخاصة، سواء كانت ديكتاتورية عنيفة أو رشيدة.

هذا القدر أو الهامش من الحركة أو المناورة أو الحرية ينجح الحاكم في النظام الشمولي في نسفه من جذوره، ثم محوه من فوق الأرض ومن تحتها محواً كاملاً، يساعده في ذلك التطبيق الناجح لمبدأ سيادة الرعب، لكن هذا لا يضمن للحاكم كل ما يريد، فقط يضمن له سحق خصومه، سحق معارضيه، إسكات كل صوت أو همس، لكن لا يضمن له أهم أمرين: لا يضمن له البقاء الدائم في السلطة، كما لا يضمن له الخروج الدائم من السلطة. وهذه هي معضلة الحاكم الشمولي، فهو يغسل أدمغة الشعب في دورات تدريبية يجعلها شرطاً لتولية أي وظيفة حكومية، لكنه يفشل في غسل دماغه هو شخصياً، من أمرين: الشك في كل من حوله، الخوف من المستقبل القريب والبعيد. ومرد هذه المعضلة هي يقين الحاكم الشمولي- بالتجربة والخبرة- أنه يملك السلطة لكن لا يملك النظام ذاته، ولا يملك الولاء الدائم للنظام، هو يعلم أن النظام الذي يخضع له اليوم خضوعاً كاملاً، ربما يأتي يوم قريب أو بعيد ينفض منه يديه، ويسحب ولاءه له، ويبيعه عند اللزوم، الخديوي إسماعيل باعه رجاله ساعة حاجته إليهم، الملك فاروق باعه الجميع، الرئيس مبارك تنصل منه أقرب رجاله.

مبدأ سيادة الرعب يقدم للحاكم الشمولي حلولاً قصيرة الأجل، تكفل له إخضاعاً كاملاً شاملاً لكل المواطنين، لكن هذا المبدأ ذاته يخلق له مشاكل عميقة وطويلة الأجل، تحاصره من كل الاتجاهات، فيلزم مكانه مقيداً فيه فاقداً- رغم السلطة المطلقة- القدرة على الحركة المرنة سواء للخلف أو إلى الأمام، إنها السلطة المفرطة عندنا، تؤذي نفسها بنفسها فتنعدم الخيارات أمامها.