لثمانية وخمسين عاما لم تتوقف حملات تكريس الهزيمة العسكرية في (5) يونيو (1967) عقدة مستحكمة بالوجدان العام.
إنها حرب حقيقية على الذاكرة العامة، حتى تختلط أمامها الوقائع، فلا تفرق بين الأخطاء، التي أفضت إلى الهزيمة وأسباب إسرائيل، المعلنة والخفية في العدوان على مصر.
استبيحت الحقائق في ملفين على درجة عالية من الأهمية والحساسية التدخل العسكري في اليمن، ومشروع الصواريخ المصرية “القاهر والظافر”.
“لقد أغلقت اليمن الأبواب على نفسها ألف سنة، فلم يختفِ منها الشعر، ولكن المشكلة الحقيقية هي متى يغزوها العلم؟!”.
كانت تلك صورة بلد عربي معزول عن العالم وعلمه الحديث كما سجلها “نجيب محفوظ” في قصته القصيرة “ثلاثة أيام في اليمن”، التي نشرت عام (١٩٦٩) من ضمن مجموعة “تحت المظلة”.
“هل ثمة فرصة لأكتب كلمة سريعة؟
أخي العزيز..
كم وددت أن أودعك قبل الرحيل. أذكرك بالحب والإكبار، وأنا على وشك العودة إلى أرض الوطن. ستعود إليه ذات يوم منتصرًا راضيًا بإذن الله. اهنأ الآن، بأنك تحارب في سبيل قضية عادلة، قضية التقدم للإنسان العربي. ومهما تكن العوائق، ومهما تكن العواقب، فإنك بذرت في الأرض بذرة من طبيعتها النمو والازدهار”.
كانت تلك رسالة الراوي- “محفوظ” نفسه- إلى جندي يحارب في اليمن.
على الرغم من كل ما هو منسوب للدور المصري في حرب اليمن من أخطاء، فإنه نقل هذا البلد العربي من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة.
هناك عشرات الشهادات بأقلام مثقفين يمنيين عن مدى الصدمة، التي انتابتهم عند الخروج إلى العالم ومعاينة وسائل حياة عادية، لم تكن تخطر لهم على بال.
القيمة السياسية لشهادة “محفوظ” أكبر من الأدبية، فهي ليست من أعماله التي تستوقف النقاد والقراء.
المثير أنه نشرها بعد أن وقعت الهزيمة العسكرية، ونُسب إلى حرب اليمن ما نُسب.
لم يتردد أن ينشر نصه، كما كتبه في حينه، غير أنه عاد عام (١٩٨٢) عبر إحدى شخصيات رواية “الباقي من الزمن ساعة” للتعريض بحرب اليمن:
“أسمعت ما يُقال عن أغنية أم كلثوم أسيبك للزمن!
يقال إن الأصل أسيبك لليمن”.
عبقريته في قدرته على التقاط الدراما من قلب الحياة وتحولاتها السياسية والاجتماعية، لا في آرائه السياسية.
من الناحية الاستراتيجية، ساعد التدخل العسكري في اليمن على تحرير جنوبه من الاحتلال البريطاني والسيطرة على مضيق باب المندب، حتى بات البحر الأحمر عربيًا بالكامل.
حسب شهادة مسجلة للفريق “سعد الدين الشاذلي”، الذي حارب في اليمن.
أثناء حرب أكتوبر (١٩٧٣) أغلق المضيق في وجه الملاحة الإسرائيلية.
ومن الناحية العسكرية، نصبت كمائن حتى تكون حرب اليمن مستنقعًا للقوات المصرية، يصعب الخروج منه.
كانت التجربة قاسية بكل معنى عسكري بالنظر إلى الطبيعة الجغرافية لليمن وحجم التدخلات المباشرة سعودية وأمريكية وإسرائيلية.
مالت حسابات “جمال عبد الناصر”، عندما أطيح بالحكم الإمامي عام (١٩٦٢)، إلى أنه لا يصح التردد في الوقوف بجوار الثورة اليمنية، وإلا فإنه إخلال جسيم بالدور الذي تضطلع به الثورة المصرية في عالمها العربي.
بالتوقيت جاء الحدث اليمني الكبير بعد انفصال الوحدة المصرية- السورية وتراجع حركة القومية العربية.
كانت تلك فرصة استراتيجية على البحر الأحمر بالقرب من منافع النفط لرد الضربة بأقوى منها.
كان تقديره أن تدخل بعض قوات الصاعقة، وسرب واحد من الطيران يكفي.
وفق شهادة الأستاذ “محمد حسنين هيكل” بالقرب من صنع القرار، فإن الحرب اتسعت “لا لأن هذا الطرف العربي، أو ذاك تدخل فيها، وإنما اتسعت الحرب، حينما تدخلت قوى السيطرة العالمية، وفي مقدمتها إدارة المخابرات المركزية الأمريكية، التي جندت للحرب آلافًا من الجنود المرتزقة الأجانب، إنجليزًا وألمانًا وفرنسيين وأمريكيين. وقصة هؤلاء ذائعة مشهورة، ولكن ذاكرتنا ضعيفة ننسى بسهولة، ما هو حق لنا ونبتلع بسهولة دعاوى الآخرين علينا.. ننسى أنه في وقت من الأوقات كان هناك أكثر من خمسة عشر ألفًا من الجنود المرتزقة الأجانب في اليمن.. وننسى أن لندن ـ كما حدث في حالة أنجولا ـ كانت مركز تجنيدهم وتسليحهم وإرسالهم إلى اليمن”.
كان “أنور السادات” يتولى إدارة الجهد السياسي المصري في اليمن، لكنه عندما آلت إليه مقادير الرئاسة، رعى حملات التشهير، كأنه لم يكن المسئول السياسي الأول عن الملف.
صبيحة (٥) يونيو، تبدت مشكلة مستعصية مع بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية، أن الجيش المصري كان موزعًا على جبهتين بينهما آلاف الكيلو مترات.
كان استنزاف الجيش المصري في اليمن مقصودًا لأهداف استراتيجية تتعدى الصراع في هذه البقعة الاستراتيجية إلى انتظار لحظة انتقام عبر الحدود الشرقية.
أسوأ معالجة ممكنة لحرب اليمن والدور المصري فيها الانتقائية بالأهواء وتصفية الحسابات، فلا نعرف ما الذي جرى حقًا؟
الملف الآخر، وقد استخدم في التشهير الإعلامي الموسع دون تحرٍ للحقائق، هو ملف المشروع الصاروخي المصري.
كان من بين أهداف العمل العسكري الإسرائيلي وقف نمو القدرات التسليحية المصرية.
هذه حقيقة ثابتة بالوقائع والوثائق.
بعبارة حزينة، تضمنها كتيب عن “قصة صناعة الصواريخ والطائرات المصرية” لـ”محمد ضيائي نافع”، أحد المشاركين في المشروع: “سامحهم الله من كانوا السبب في إيقاف هذه الصناعة”.
القصة شبه مجهولة، ونالتها تشويهات، انتقصت من حقيقتها، وسخرت منها بالعمد، أو بالجهل.
بدأت صناعة الصواريخ والطائرات المصرية أواخر عام (١٩٥٩).
كان عملًا جادًا ودؤوبًا ومشتركًا مع فريق ألماني من كبار العلماء والخبراء ترأسه البروفيسير “فولفجانج بيلز”.
في نحو الساعة السادسة من مساء أحد أيام شهر ديسمبر (١٩٦٢)، وصلت رسالة إلى بيت البروفيسير “بيلز”، مصمم صاروخي “القاهر” و”الظافر”.
كان يجلس على رأس مائدة اجتماعات وحوله عدد من كبار مساعديه.
شرعت سكرتيرته في فرز الرسائل قبل عرضها عليه.
فجأة دوى انفجار شديد.
كانت الرسالة تحتوي على مادة شديدة الانفجار، ومفجر متصل بدائرة كهربائية وبطارية دقيقة جدًا ورقيقة، لا شك أنها مثل التي تستخدم في الساعات حاليًا.
بمجرد أن سحب ما بداخل المظروف وإخراجه حتى اكتملت الدائرة.
أصيبت السكرتيرة بالعمى الكامل، ونالتها أضرار جسيمة أخرى.
بعد الحادث فرضت إجراءات أمنية مشددة لحماية الخبراء الألمان كعدم فتح أية طرود واردة من الخارج، إلا عن طريق خبراء المفرقعات.
بالمخالفة للتعليمات، فتح طرد، جاء من برلين يحتوي كتبًا علمية حديثة طلبها الخبراء الألمان، قبل أن يُعرض على خبراء المفرقعات، فحدث انفجار مدوٍ آخر خلّف فزعًا.
في توقيت مقارب، جرت محاولات اغتيال للخبير المسئول عن توجيه الصواريخ “كلاين نختر” أثناء زيارة أهله في ألمانيا، وتعرض لمحاولة مماثلة الدكتور “هانز كلاينفستر”، أصيب بجراح ونجا بمعجزة، واختُطِف الدكتور “هاينز كروجر” في ميونيخ، وأرسل بطريقة ما إلى إسرائيل، وطلب المستشار الألماني “لودفيج إيرهارد” من رئيس الخبراء الألمان الدكتور “بيلز” ـ باسم ألمانيا ومصالحها، أن يجد لنفسه نشاطًا آخر خارج مصر ـ حسب ما رواه “هيكل”.
ما هو متاح من أوراق ووثائق، لا يوفر قصة متكاملة، غير أنه من المؤكد، أن الاستخبارات الإسرائيلية عملت على ترويع الخبراء الألمان، وإغرائهم في نفس الوقت برواتب أكبر في أماكن أخرى.
في عام (١٩٦٣) بدأت عمليات التجريب على إطلاق الصواريخ.
كان هناك تعجل يطلب، أن تلحق الصواريخ احتفالات (٢٣) يوليو.
لم يُكتب للتجربة النجاح، وعندما اقترب خبير ألماني من الصاروخ ليعاين بنفسه أسباب إخفاق التجربة، لحقت به إصابات جسيمة.
كانت المحاولة الأولى تعمل على ضبط التوجيه الصحيح للصاروخ، وهو من أهم مراحل تصنيعه.
وكانت الاستخبارات الإسرائيلية تعرف، أن ذلك سوف يكون رادعًا لسلاح طيرانها.
بحسب تقديرات أمريكية تتضمنها وثائق ،فإن الصواريخ المصرية، سوف تكون جاهزة عام (١٩٧٠).
من أسوأ ما قيل بعد يونيو (١٩٦٧) السخرية من المشروع الصاروخي المصري، دون أي التفات إلى جديته والحرب الإسرائيلية عليه.
لا أحد ـ تقريبًا ـ يريد أن يتذكر قصة رجل “الموساد” “وولف جانج لوتز”، وهو ألماني الجنسية اتخذ من تربية الخيول ستارًا لمهمته في وقف تعاون الخبراء الألمان مع الصناعات العسكرية المصرية لإنتاج الصواريخ الباليستية وصناعة الطائرات، قبل أن يُقبض عليه.
أحد أهداف العدوان على مصر في يونيو (1967) استباق المشروع المصري وإجهاضه.
ذلك ما حدث.