تبنت إيران الناصرية بدون عبد الناصر، تبنت الناصرية مرتين، المرة الأولى قبل أن يظهر عبد الناصر على مسرح الشرق الأوسط، وكانت على يد الزعيم الوطني الدكتور محمد مصدق 1951 – 1953، والمرة الثانية على يد الزعيم الديني آية الله الخميني مع الثورة الإسلامية 1979، حتى لحظة كتابة هذا المقال في صيف يونيو 2025. في حالة الدكتور مصدق، كان بزعامته ملهماً لزعامة عبد الناصر فيما بعد. في حالة الخميني، كانت زعامة عبد الناصر ملهمة للرؤية التي ترى بها ثورة إيران الشرق والغرب. الدكتور مصدق، كان هو النحاس باشاً في وطنيته، لكن مضافاً إليه ثورية عبد الناصر المقتحمة، وليس ثورية النحاس الحكيمة المحسوبة الحذرة. الإمام الخميني، كان هو عبد الناصر الفارسي، كان هو عبد الناصر بكل تمرده، على كل ما يمثل هيمنة الغرب على الشرق، كان هو عبد الناصر مُضافاً إليه طبائع الفقيه الديني المحترف، كان الخميني مُعجباً بشخص وفكر وزعامة عبد الناصر، وفي ثورة الخميني المبكرة 1963، كان عبد الناصر حاضراً بقوة داخل الثورة، يدعمها بكافة الوسائل بما فيها التمويل والتدريب والإعلام الموجه، وكانت أجهزة الشاه تصنف الخميني عميلاً للمخابرات المصرية.
الناصرية قبل عبد الناصر، ثم معه، ثم بعده، كانت ومضة عبقرية مختصرة، توجز نضالات كافة الشعوب المقهورة، التي قهرها المستعمرون الغربيون، توجزها، ثم تعيد التعبير عنها بروح نضالية ملهمة مشرقة، تبث في ضمائر الضعفاء روح الثورة على طغيان الغرب الذي يتغير شكله، وتبقى حقيقته تتجدد اليوم والغد، كانت عبقرية عبد الناصر تتجسد في هذه القيمة الروحية التي ما مست شيئاً، حتى حركت فيه أصابع الاتهام ضد الغرب. لم ينزعج الغرب من فكرة شرق أوسطية، مثلما أزعجته الناصرية، عندما نجحت في استبطان واستلهام تراث الثورات ضد الغرب بين شعوب القارتين آسيا وإفريقيا، وبين هذه الشعوب كان الإيرانيون مثلهم مثل الروس من أسبق شعوب آسيا في الثورة، حيث انتفض الروس 1905، وانتفض الإيرانيون 1906، وعاش الشعبان القرن العشرين كله في ثورة دائمة. كذلك كان المصريون ومعهم الهنود أسبق شعوب المستعمرات لروح الثورة التي تزامنت في وقت واحد في مصر والهند 1919، ثم تبعهم العراقيون 1920، ثم السوريون 1952. عبقرية عبد الناصر أنه بغير مشقة ولا تكلف عرف كيف يتكلم، فتسمعه، ثم تفهمه، ثم تتجاوب معه شعوب مقهورة مختلفة اللغات والتواريخ والأجناس والأعراق والحضارات ودرجات التطور الاقتصادي والاجتماعي، سقطت الحواجز بينه وبين كل هؤلاء، فسمعوه، ثم فهموه، ثم تجاوبوا معه، وهذا لم يحدث مثله لزعيم من قبل، وهذا هو الخطر الذي كان يمثله عبد الناصر، والذي كان يلزم التخلص منه.
جملة المبادئ الأساسية التي دافع عنها عبد الناصر، كانت هي جملة الطموحات الوطنية التي ناضل لأجلها المصريين جيلاً بعد جيل من قبل تولية محمد علي باشا في مطلع القرن التاسع عشر، وحتى نهاية حكم سلالته في منتصف القرن العشرين، ثم مدرسة الوطنية المصرية التي ناضلت لأجل الاستقلال وحكم الدستور والقانون في فترة ما بين الثورتين 1919 – 1952، هذه المدرسة العظيمة سلمت عبد الناصر المواد التي تشكلت منها زعامته: لا للأحلاف العسكرية الغربية ومعها كافة أشكال الهيمنة بما فيها الأمريكية الصاعدة في ذلك الوقت، ثم لا للسلام مع العدو الإسرائيلي الذي اغتصب أرضاً عربية، ثم نعم للتضامن العربي بكل صورة ممكنة. ثم زاد عليها عبد الناصر من سحره الشخصي، ما رفع من معناها وعمق مغزاها، وذهب بصوتها وصداها إلى أبعد ركن في القارات الست.
لم تسترح إسرائيل وأمريكا وأوروبا وعرب الجزيرة وعرب الخليج وإيران الشاه وتركيا الجنرالات العلمانيين، إلا بعد إخلاء الشرق الأوسط من الناصرية، وذلك عبر ثلاث: هزيمته 1967، ثم وفاته 1970، ثم خليفته السادات. ولا ندري، هل كانت زعامة عبد الناصر قد انطفأت جذوتها في نفسه وروحه وضميره مع انطفاء وهجها الخارجي؛ بسبب هزيمته أم لا. بعبارة أخرى: هل كانت الناصرية قد ماتت في روح عبد الناصر، قبل أن يموت جسد عبد الناصر؟ بمعنى: هل كان عبد الناصر بعد الهزيمة لديه اضطرار للانسحاب من ناصريته أو الانقلاب عليها بالقبول بدور منكفئ داخل مصر فقط، وغير ميال لقيادة الأحداث في الشرق الأوسط، كما كان قد تعود؟ بصيغة أخرى: هل مات عبد الناصر، ولديه تفكير في مثل تفكير السادات أي يحارب، ثم يستكمل باتفاق سلام؟ وفي الأخير: هل السادات انقلب على عبد الناصر الزعيم الثائر، أم أنجز، ما كان يميل إليه عبد الناصر المهزوم؟ هذه أسئلة، سوف تظل معلقة، حتى تتوفر الأجوبة عبر جهد الباحثين الجادين من الأجيال المقبلة.
لكن المؤكد، أنه في 1979 اتخذ التاريخ وجهتين متناقضتين: انعقدت اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، فانتهت الناصرية كزعامة مصرية وعربية وشرق أوسطية، ونجحت الثورة الإيرانية، فهاجرت الناصرية من القاهرة إلى طهران، ومن العرب إلى الفرس، لتبدأ مع زعامة الخميني طبعة جديدة من الناصرية الفارسية: لا للغرب، ولا لهيمنة الغرب، ولا للصهيونية، ولا للسلام الذي عقده الشاه مع إسرائيل، ويا كل الشعوب المغلوبة المقهورة، تعالوا نتوحد ونتضامن.
ظهر في الشرق الأوسط، ناصر جديد، لكنه فقيه شيعي تحت عمامة سوداء، ناصر فارسي معجب بناصر العربي، ويستلهم تراثه، ولا ينسى أن عبد الناصر من 1952 حتى 1970، لم تطأ قدماه تراب أي بلد غربي، لا في أوروبا ولا في أمريكا، ناصر العربي كان روح الشرق في وجه غطرسة الغرب، وكذلك كان ناصر الفارسي الذي استعان فور وصوله لحكم إيران بعدد من الكوادر الثورية الذين كان قد تم تدريبهم في السنوات من 1963 – 1970 في معسكرات مصرية داخل مصر بتوجيه من الرئيس عبد الناصر، بمن فيهم الثائر مصطفى جمران أول وزير للدفاع في عهد الجمهورية الإسلامية، وكان قد تلقى تدريباته العسكرية في معسكرات أنشاص تحت قيادة قوات الصاعقة المصرية. اجتمع العرب- باستثناء سوريا- مع أمريكا والغرب على حرب الناصرية الفارسية بكافة أشكال الحرب المستمرة، وكافة أشكال الحصار والمقاطعة، لم تلتقط الناصرية الفارسية أنفاسها يوماً واحداً، لعبت بالسلاح وبالفكر وبالدعاية وبالسياسة والثقافة والفن، عاشت قريباً من نصف قرن، تصحو على جبهة، وتمسي على جبهة، وتقعد على جبهة، وتقوم على جبهة، وهكذا ثورة تلبست في دولة، ودولة تلبست في ثورة، شعلة نار تتوهج وتخبو، يُطفئونها ولا تنطفئ، يحاصرونها، وتتمدد حتى تلتف من حولهم، ثم يكتشفون، أنها تحاصرهم.
إلى أن سقطت أفغانستان 2001، ثم العراق 2003، وكلاهما كان محكوما بقوى من السنة، تعمل كحوائط صد طبيعية ضد تمدد النفوذ الإيراني، سقوطهما سمح لإيران بعصر ذهبي، بانتشار إمبراطوري، وفي الوقت ذاته، فشلت أمريكا في خلق نظم موالية لها في البلدين، بل فشلت في خلق حالة من الاستقرار والأمن فيها، فقط نجحت في تحويل البلدين لمسارح عنف وإرهاب، هي أول من يدفع ثمنه، وفي كل ذلك، كانت إيران هي من يكسب.
في ذلك الوقت، بعد 2003، كانت أمريكا تضع خطط إعادة هيكلة الشرق الأوسط، وعقدت لهذا الغرض أول محفل علني رسمي في الرباط في 12 من ديسمبر 2004، وكان الشرق الأوسط المعني في هذا المحفل، هو العالم العربي والإسلامي من موريتانيا في المغرب حتى الباكستان وإندونيسيا في المشرق، وكان الاستثناء دولتين اثنتين: سوريا وإيران، وقد تم في عشرين عاماً، إسقاط سوريا التي أصبحت دولة فصائل إسلامية مسلحة، لا يعرف أحد مصادر تمويلها ولا مصادر تسليحها ولا جهات تدريبها، كل ما يمكن معرفته، أن إسرائيل لا تمانع في حكم هذه الفصائل المسلحة لدولة مثل سوريا تحت إشراف تركيا أردوغان، ثم تحت كفالة أمريكا، سواء كانت في حكم ديمقراطيين أم جمهوريين.
سقوط سوريا، أعقبه إخراج إيران منها، أعقبه إعادة تشكيل الحلف الخليجي التركي الإسرائيلي الأمريكي المعادي لإيران، أعقبه التفكير الجاد في إسقاط آخر قلاع الناصرية السياسية في الشرق الأوسط، إسقاط حكم الجمهورية الإسلامية في إيران. وكل الظروف تبدو مواتية: خمسة وأربعون عاماً من الاستنزاف الدائم عبر الحرب والحصار والمقاطعة والعقوبات وحظر توريد السلاح، خمسة وأربعون عاماً من الديكتاتورية والقبضة الأمنية والحكم بالحديد والنار، خمسة وأربعون عاماً من المعارضة السياسية المكبوتة، والشباب الذي تباعدت الفجوة بينه وبين فقهاء الحكم وأجهزته، خمسة وأربعون عاماً من صناعة شبكة عظيمة من الجواسيس والعملاء والمتعاونين، ومن يسعدهم إسقاط النظام، ولو على يد الشيطان، وليس فقط إسرائيل والغرب وعرب الخليج بقيادة الأمريكان، خمسة وأربعون عاماً من ترويض العرب والكرد والترك، وكل المنافسين التاريخيين للفرس، خمسة وأربعون عاماً من الاستنزاف قد حان الوقت المناسب لتنتهي بضربة قاصمة قاضية حاسمة، عدوان عنيف من الخارج مع تحرك المعارضين والجواسيس والعملاء والمتعاونين من الداخل، فيسقط النظام، وينتهي الإزعاج، تستريح كل الأطراف من هذا الصداع المزمن.
في 13 يونيو 2025، تلقت الناصرية الفارسية الضربة العنيفة التي تلقتها من قبل الناصرية العربية 5 يونيو 1976، وكرر التاريخ بعض مشاهده، نكسة 13 يونيو الفارسية 2025، نكسة 5 يونيو العربية 1976، لكن التاريخ ليس بهذا الكسل، ولا بهذه البلادة، ولا هو ينام، ثم يصحو ليكرر نفسه اليوم كما هو قبل أكثر من نصف قرن، ضُربت إيران كما ضُربت مصر، ضربة عسكرية موجعة، مع فارق أنهم في حالة إيران نجحوا في حصد رؤوس جيل من أرفع القيادات، وهو ما لم يحدث مثله في مصر، كذلك مع فارق، أنهم نجحوا في تحريك شبكات العملاء والجواسيس، فيسر ذلك من عنف الضربات وضخامة خسائرها. لكن استفادت الناصرية الفارسية عدم تكرار أكبر خطأين، وقعت فيهما الناصرية العربية، فلم يأمر القائد الأعلى بالانسحاب، لكن عند المساء كانت عاصمة الاحتلال تتعرض لأعظم هجوم بالصواريخ، لم تعرف مثله منذ تأسست دولة العدوان 1948، ثم لم يعلن القائد الأعلى خطاب التنحي.
كانت الناصرية العربية في أسبوع النكسة 5 يونيو 1976 تغرق في محيط من الشامتين العرب والفرس والترك، كما كانت في محيط من الشامتين بين صفوف قوى الإسلام السياسي التي كانت مكفولة بالمال الخليجي، ومن ورائه الدعم الأمريكي، لكن حظيت بتجديد الولاء والانتماء والثقة من جمهرة المصريين الذين احتشدوا خلف قيادة عبد الناصر، والذين لم يتذمروا من منغصات حرب الاستنزاف، والذين لم يترددوا في الاحتشاد لإعادة بناء القوات المسلحة، وتطوعوا بكل ما يملكون استعداداً للمعركة، عاش عبد الناصر محبوباً بين شعبه، كما كان قبلها، ومات محبوباً من شعبه، كما كان في حياته. نكسة 5 يونيو أسقطت الناصرية، ورفعت عبد الناصر، أسقطت الناصرية كمصدر إلهام، لكن رفعت عبد الناصر كأهل للثقة والاحترام، حتى وهو في وضع هزيمة مهينة مشينة مذلة مخجلة مخزية.
…………………………..
الوضع في إيران مختلف، لأن التركيبة السكانية والاجتماعية والمذهبية مختلفة، الشعب الذي تمسك بقيادة عبد الناصر، هو الجيل الذي عاش مع عبد الناصر لحظات مجيدة، كانت ما زالت حية في الذاكرة القومية، أما الشعب الإيراني بعد قريباً من نصف قرن من حكم آيات الله، فله قصة سوف نحكيها في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.