القضية ليست إيران وحدها.

مصير المنطقة كلها على المحك.

“نحن أمام نقطة تحول تاريخية، سيكون هناك شرق أوسط مختلف”.

كانت تلك صياغة جديدة لرئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” منتشيا بتأهب الولايات المتحدة للانخراط في الحرب على إيران.

طوال الوقت دأب على ترديد ذلك المعنى، لكنه في هذه اللحظة يكتسب كامل خطورته ووحشيته.

إذا هزمت إيران، فإن التهجير القسري من غزة إلى سيناء سوف يحدث وتفرض الحرب إجباريا على مصر.

بتعبير “نتنياهو”: “مخطط تهجير سكان غزة ما يزال ساريا”.

لا يخف أهدافه ومراميه القريبة والبعيدة فـ”العالم العربي مفتوح لنا، ما يهددنا حاليا هو الإمبراطورية الإيرانية”.

لا يمكن تلخيص أهداف الحرب على إيران في تفكيك مشروعيها النووي والصاروخي، ولا حتى إسقاط النظام نفسه بإثارة الفوضى في جنبات البلاد.

الدور على مصر، التي توصف بأنها “الجائزة الكبرى” في نهاية المطاف.

بالكاد ندرك أن صمود المقاومة الفلسطينية على مدى يقارب العامين في حربي الإبادة والتجويع يمثل حائط حماية للأمن القومي المصري في سيناء.

وبالكاد ندرك، أن خروج إيران من معادلات الإقليم يقوض التوازن فيه، ويفسح المجال لتهديد مصر في صميم أمنها القومي ووجودها نفسه.

“نعرف أين يختبئ المرشد، ونستطيع أن نصل إليه بسهولة، لكن ليس في الوقت الحالي”.

كان ذلك تصريحا لـ”دونالد ترامب” متفلتا في لغته ورسالته.

إنها لغة رئيس عصابة مافيا، لا رئيس أكبر وأقوى دولة في عالمنا المعاصر.

هذه رسالة للإقليم كله، لا لإيران وحدها.

تماهى بصورة شبه مطلقة مع اليمين الصهيوني المتطرف داعيا إلى إخلاء العاصمة طهران من سكانها بذريعة حمايتهم، فيما هو يشارك دون خجل في ترهيب المدنيين.

إنه يطلب إذلال إيران، حتى تكون عبرة للإقليم كله، ويكون ممكنا لـ”نتنياهو” أن يعلن بدء الحقبة الإسرائيلية في الشرق الأوسط.

هذا طلب شبه مستحيل، فإيران دولة عريقة، لا يمكن أن تقبل الذِلة.

في رد فعل مضاد، دعا رئيس الأركان الإيراني سكان تل أبيب وحيفا إلى إخلاء العاصمتين السياسية والاقتصادية.

بقوة الإرث الوطني سوف تقاتل إيران حتى النهاية، ولن ترفع الرايات البيضاء.

شرعية النظام تلخصها في هذه اللحظة إرادة المقاومة.

يعكس التدخل الأمريكي المحتمل خطورة المأزق العسكري والسياسي، الذي تجد إسرائيل نفسها فيه.

لا تقدر على إنهاء المهمة وحدها، أو خوض الحرب بمفردها حتى النهاية.

استدعاء التدخل الأمريكي للوصول إلى منشأة فوردو النووية بالغة التحصين، هو نوع من الاعتراف بعدم القدرة على حسم الملف عسكريا.

حسب تقارير أمريكية، فإن ما يتوافر للإسرائيليين من ذخائر ضرورية في منظوماتها الدفاعية يكفي عشرة أيام، بعدها لا تتوافر لأجوائها أية حماية.

يستهدف التدخل الأمريكي حماية إسرائيل من مغبة وتبعات المواجهة المفتوحة مع إيران بغير سقف زمني، أو أهداف محددة.

إذا انهيت الحرب الآن دون التخلص من مشروعها النووي، فالمعنى أن إسرائيل قد هزمت، أو أن تعود إيران للمفاوضات مع الولايات المتحدة من موقع قوة.

بصورة أكثر سفورا، أنه تكرار لصلب الدور الأمريكي في الحرب على غزة.

عندما تبدت في السابع من أكتوبر (2023) بوادر هزيمة استراتيجية للجيش الإسرائيلي واستخباراته، نالت بفداحة من قدرته على فرض هيمنته فيما حوله تدخلت إدارة “جو بايدن” لإنقاذ حليفتها المهددة في صميم أدوارها.

أرسلت حاملة الطائرات “جيرالد فورد” إلى شرق المتوسط وبوارج بريطانية.

وصل إلى المكان نفسه ألفا جندي من المارينز للقتال مع الجيش الإسرائيلي، الذي فقد ثقته في نفسه.

هذا ما قد يحدث الآن.

نقلت حاملة طائرات أخرى “يو إس إس نيميتز” من بحر الصين الجنوبي إلى الشرق الأوسط، بقرار هذه المرة من “ترامب”.

نشرت قوات وطائرات في محيط المنطقة استعدادا للتدخل، خشية أن تتعرض إسرائيل لبوادر هزيمة أخرى أمام موجات الصواريخ الباليستة، التي نالت من مواقع استراتيجية حساسة، وأثارت الذعر في المجتمع الإسرائيلي بصورة غير مسبوقة.

بدت إسرائيل معلقة ما بين إجماع داخلي على ضرب القدرات النووية الإيرانية، وخشية أن تطول الحرب، بما هو فوق طاقتها على التحمل.

في الحربين المتتاليتين بدا أنه ليس بوسع الدولة العبرية أن تكسب حربا دون دعم سياسي واستراتيجي وعسكري أمريكي مباشر وغير مباشر.

كان رفض “ترامب” في قمة السبعة الكبار استصدار بيان، يدعو إلى عدم التصعيد في المواجهات الإيرانية الإسرائيلية، لا وقف إطلاق النار، لافتا بذاته.

وقف التصعيد دون أن تحقق العملية الإسرائيلية كامل أهدافها هو نوع من الهزيمة.

قطع “ترامب” مشاركته في القمة عائدا إلى واشنطن، داعيا في الطريق لانعقاد عاجل لمجلس الأمن القومي.

كانت تلك إشارة إلى توجهه لدخول الحرب، لكنه لم يصدر قرارا وتأجل الحسم لوقت آخر.

حسب استطلاعات الرأي العام، لا يؤيد الأمريكيون، خاصة في أوساط المؤيدين لـ”ترامب”، التورط في الحرب.

كان من دواعي صعوده مجددا إلى البيت الأبيض شعاره “أمريكا أولا”، والتعهد بعدم التورط في أي حروب خارجها.

إذا ما تدخلت الولايات المتحدة عسكريا، فإن قواتها ومصالحها في الشرق الأوسط سوف تتعرض لضربات موجعة.

مضيق هرمز مرشح للإغلاق أمام حركة الطاقة والغاز إلى أوروبا.

لهذا السبب بالذات، أجرت مفوضية الاتحاد الأوروبي اتصالات مع أطراف الحرب سعيا لـ”تهدئة الوضع”.

كان مثيرا للسخرية، ما صرح به “ترامب” تسويغا لتدخله العسكري الوشيك، أن هدفه من طلب “استسلام إيران بلا شروط”، أن “يعود الشرق الأوسط عظيما مرة أخرى”!

إنه يقصد أن يعود محطما ومستعمرا ومنهوبا، أو ألا ترتفع فيه راية مقاومة وكبرياء.

هذه لحظة مواجهة الحقائق في مصر قبل غيرها.

إما أن تنهض لتصنع مصيرها بنفسها، أو أن تدخل لعقود طويلة في ظلام دامس.