لم يدر صناع قانون العمل الجديد، أن الغرض الرئيسي من صناعة القوانين هو تنظيم احتياجات مجتمعية، وعلائق بين المواطنين وتحديد أطر الاستفادة من المعروض من خلال التقنين، أو بمعنى أدق، أن القانون إنما يعني تلك القواعد القانونية الناتجة عن عملية التشريع أو المسطرة التشريعية المحددة في الدستور التي تحتكم لها جماعة معينة، فمنذ وجود الإنسان، وجدت معه قواعد، قام بإبداعها من أجل التحكم في سلوكياته. أما المجتمع بكل بساطة هو مجموعة من الأفراد يتفاعلون فيما بينهم، وتربطهم علاقات سواء على المستوى الواقعي أو الافتراضي؛ بغية إنتاج ثقافة معينة. لكن السؤال المطروح هو، ما هي العلاقة التي تربط بين القانون والمجتمع؟ وهل هناك حاجة للإنسان في علاقاته الاجتماعية للقانون؟. إن إعادة طرح هذا السؤال ليس إلا من أجل التأكيد على أهميته ومشروعيته في هذا الطرح، حتى يتسنى لنا القول، بأن القانون ليس إلا منظومة من المنظومات المكونة للمجتمع، وهذا ما يعني أن القانون حقل من الحقول السوسيولوجية، أو أن القانون ظاهرة اجتماعية موجود بيننا بشكل دائم، فرضته علينا حاجة تنظيم علاقاتنا الاجتماعية. وهذا ما عبر عنه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي المعاصر إيدجار موران بقوله، إن المجتمع أنتج القانون الذي أنتجه، بمعنى أن هناك نوعا من العلاقة الوجودية بين القانون والمجتمع، فالمجتمع ينتج القانون، وهذا الأخير هو بدوره ينتج المجتمع من خلال تلك القواعد التي يسطرها، وكذا الكوابح التي ينهجها.
وإذا كان يُقصد بمفهوم القانون مجموعة القواعد القانونية الناتجة عن عملية التشريع بمراحلها المختلفة، وأنه من المفترض أن تكون النصوص القانونية ناتجة عن احتياجات المجتمع، وبالتالي يجب أن يخرج التشريع بعد نقاش عمومي من الجماعات المخاطبة بأحكامه، وذلك للوقوف على مدى احتياجهم، وألا تكون صناعة القانون منفصلة عن الاحتياج المجتمعي أو منفصلة عن المجتمع، حيث يمثل القانون ظاهرة اجتماعية، تفرضه دوما احتياجات المجتمع، وهذا ما يعني ألا يتم فرض القانون جبراً على المواطنين المخاطبين بأحكامه من خلال سطات جبرية أو من خلال جماعات فوقية من خلال تحكميتها في إطار ومنظومة التشريع، سواء من خلال السيطرة على المجلس التشريعي، أو فرض قوتها على الهيئة التشريعية بشكل أو بآخر، وتجدر الإشارة، إلى أن الضغط الذي تمارسه هذه الجماعات لا تمارسه فقط على البرلمان، بل تمارسه أيضا على الجهاز الحكومي على حد سواء، فهذا الوضع يجعل القاعدة القانونية أو النصوص القانونية على العموم وسيلة لتحقيق المصالح، بحيث تسقط في دواليب الصراع حول هذه الأخيرة بين بعض الجهات المهنية كالجمعيات المهنية والنقابات، إذ أنه من المتعارف عليه بين أوساط الباحثين والمهتمين والمختصين في علم الاجتماع القانوني والعلوم المساعدة للقانون، هو أن وجود القانون وخروجه إلى حيز الوجود في كل مجتمع هي ضرورة، تمليها الإرادة العامة للمجتمع المنظم، بحيث يكون القانون هو المرآة العاكسة للمبادئ والقيم التي يؤمن بها أفراد هذا المجتمع.
فهل استرعى صناع قانون العمل الجديد هذه القواعد، بكل ما تحمله من ضمانات حقيقية لوجود قانون، يسعى إلى تحقيق مطالب مجتمعية، أو الحفاظ على مجموعة من القيم أو الحقوق، أم كان استصدار هذا التشريع بمثابة استرضاء لجماعات رؤوس الأموال، لحماية وجودهم، والضغط على جماعة العمال في ظل احتياجاتهم الحياتية للعيش، وسد الرمق وتحقيق مطلبهم أو مطالب ذويهم في أقل صور ممكنة؟
ذلك، إذ أن السياسة التشريعية في قانون العمل المصري الجديد تهدف إلى تحقيق توازن بين مصالح العمال وأصحاب العمل، مع التركيز على الحفاظ على حقوق العاملين، وتعزيز بيئة عمل صحية وذات كفاءة. القانون يهدف إلى تحديث التشريعات؛ لكي تواكب التغيرات في سوق العمل، وتوفير الحماية الاجتماعية للعاملين، ولا يجب أن يركن إلى جهة أصحاب الأعمال تحت مظنة حماية الاستثمار، وتدفق الأموال في ظل الظروف الاقتصادية التي تعيشها الدولة المصرية، دونما مراعاة بشكل متوازن لحقوق العمال في الأجر المساوي للجهد، والذي يجب أن يكون متناسباً مع الاحتياجات المجتمعية، كما أنه يجب أن تكون سياسة القانون داعمة لحماية العمال من مغبة الفصل التعسفي، وحماية مكتساباتهم في الإجازات والأمن العام داخل البيئة العمالية، وما إلى ذلك من اشتراطات يجب توافرها، ليس بصورة مجتمعية فقط، ولكن يجب أن تكون متماشية أو متسقة مع الاتفاقيات الدولية والحقوقية التي صادقت عليها الدولة المصرية، وبشكل أخص ما يتعلق منها بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية وحقوق العمال.
ولكن لا نجد صدى لذلك في قانون العمل الجديد، إذ أنه لم يحقق التوازن المطلوب في عقود العمال، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تآكل الأمان الوظيفي. منح القانون أصحاب العمل حرية استخدام العقود محددة المدة في جميع أنواع الوظائف، بما فيها الوظائف المستقرة وغير المؤقتة. كما يُمَكِّن أصحاب العمل من الامتناع عن تجديد العقد دون تقديم مبرر أو التعرض لأي مساءلة قانونية، إلا في حال تجاوز العامل خمس سنوات من الخدمة، ما يُلزِم صاحب العمل بدفع تعويض قدره أجر شهر عن كل سنة عمل. يُحذر الخبراء من أن هذه البنية القانونية تتيح الفصل التعسفي دون تعويض مستحق وكافٍ، تحت غطاء “انتهاء مدة العقد”.
كما أن القانون الجديد لم يقدم الحماية المطلوبة أو التنظيم التشريعي الضامن لحماية فئة العمالة غير المنتظمة، إذ أنه قد اكتفى بمجرد الاعتراف بوجودهم دون معالجة حقيقية أو شاملة، لما هو يحقق كيفية تسجيلهم وإدماجهم بشكل فعال في منظومة الحماية الاجتماعية. ولم يُلزم القانون المقاولين أو أصحاب العمل في القطاع الخاص بالإفصاح عن بيانات العمالة غير المنتظمة، كما لم يُقدم حوافز تشجِّع العمال من هذه الفئة على التسجيل في برامج التأمينات الاجتماعية. ذلك بخلاف قضية العمالة المنزلية، وهي من القضايا العالقة منذ فترة ليست بالقصيرة، ولكن غفل المشرع بشكل عمدي عن محاولة وضع حلول لها، في ظل وجود مشكلات مجتمعية عديدة، نتجت خلال الفترة الأخيرة عن غياب وجود تنظيم تشريعي لهذه الفئة.
فهل يصح أن يصدر تشريع بشكل غير متسق في زاويا عديدة، كان من الأجدر شمولها وتفنيدها، وتحديد كيفية تنظيمها، أم أن هناك أمورا، كانت دافعة لصدور هذا التشريع بهذه الطريقة المتسرعة، قبل أن تنفض الدورة التشريعية الأخيرة لمجلس النواب، والذي بدوره كان يقدم أوراق اعتماده للسلطة التنفيذية في كل مشروعاتها القانونية، آملاً في الحصول على دورة قادة تمنح فيها كراسي البرلمان حصانات وضمانات ووجاهة اجتماعية لازمة لأصحابها، ولا تحقق أية ضمانات مجتمعية لجموع الشعب الممثل لكتلة الناخبين والمستحق لذلك.