بقلم: ماجدة القاضي

منذ اللحظة التي تأسست فيها دولة “إسرائيل” عام 1948، ظل المشروع التوسعي حاضراً في بنيتها الفكرية والسياسية، بوصفه ليس مجرد خيار استراتيجي، بل ركيزة وجودية ترتكز عليها سرديتها الأمنية والعقائدية. تطورت هذه الرؤية عبر الحروب الكبرى التي خاضتها إسرائيل، بدءاً من 1948، مروراً بـ1967 و1973، ووصولاً إلى العمليات العسكرية الواسعة في الجنوب اللبناني وغزة. ومع بروز بنيامين نتنياهو كزعيم محوري في المشهد الإسرائيلي، أخذ هذا المشروع بعداً جديداً، يمتزج فيه الخطاب القومي الديني بالسياسات الواقعية المبنية على الهيمنة والسيطرة والردع المستمر.

نتنياهو ليس فقط أطول من شغل منصب رئيس الوزراء في تاريخ إسرائيل، بل هو أيضًا أكثر من أعاد تعريف العقيدة الأمنية والسياسية للدولة. في سنوات حكمه، دفع باتجاه توسيع الاستيطان، سن قوانين، تُكرّس يهودية الدولة (مثل قانون القومية لعام 2018)، عزز التحالف مع اليمين الديني المتطرف، ووسع العلاقات مع الأنظمة العربية في سياق “اتفاقات إبراهام”، كل ذلك في سبيل تثبيت أمر واقع جديد، يُعيد تشكيل الشرق الأوسط، على أسس تكرّس التفوق الإسرائيلي بكل أشكاله. لم يكن التوسع بالنسبة لنتنياهو خيارًا ظرفيًا، بل جوهر الرؤية الصهيونية كما يراها: أرض أكبر، سكان أقل (فلسطينيين)، وجيران في حالة ضعف أو تطبيع أو تفكك.

لكن هذا المشروع التوسعي لا يمكن أن يستمر بلا حدود، إذ يواجه جملة من العوائق البنيوية والسياسية والجيوستراتيجية التي قد تعيق اندفاعه. تتوزع هذه العوائق بين أطراف داخلية (أزمات إسرائيلية متفاقمة)، وإقليمية (المقاومة، الردع الإيراني)، ودولية (التغير في المزاج الغربي). ومن هنا يُطرح سؤال جوهري: من يملك القدرة فعليًا على وقف هذا المشروع؟ هل هو تحالف دولي؟ محور مقاومة؟ أم توازن ردع نووي جديد؟

على المستوى الدولي، تمثل الولايات المتحدة الأمريكية الطرف الأكثر قدرة– نظريًا– على التأثير في السلوك الإسرائيلي، نظرًا لعلاقات الدعم غير المشروط التي تربط الطرفين، سواء عسكريًا أو ماليًا أو دبلوماسيًا. ومع ذلك، فإن ما شهدناه خلال العقود الماضية هو نوع من التواطؤ المقنّع أو التغاضي الاستراتيجي عن السياسات التوسعية، خاصة في الضفة الغربية. رغم انتقادات إدارة أوباما، ومراوغات إدارة بايدن، لم تُتخذ أي خطوات عملية لكبح جماح الاستيطان، بل جرى تمويل إسرائيل بشكل مضاعف تحت بند “الدفاع عن النفس”.

لكن ثمة تحولات مهمة تظهر في المشهد الأمريكي: الجناح التقدمي داخل الحزب الديمقراطي، بدأ يضغط باتجاه مساءلة إسرائيل، كما أن الجامعات الأمريكية شهدت حراكًا واسعًا في 2024 ضد الدعم الأمريكي غير المشروط، وأصبحت بعض وسائل الإعلام الأمريكية (مثل NPR وThe Intercept) تنشر تغطيات أكثر توازنًا. هذا لا يعني تغييراً جذرياً في الموقف الرسمي الأمريكي، لكنه يعكس تصدعات في صورة الدعم التقليدي لإسرائيل، مما قد يترجم على المدى المتوسط إلى أدوات ضغط حقيقية، مثل تقليص المساعدات، أو فرض شروط سياسية مقابل التمويل.

الاتحاد الأوروبي من جانبه، يبدو أقل فاعلية. رغم إداناته المتكررة للاستيطان وسياسات التهويد، إلا أن تردده في تبني سياسة موحدة، وانقسامه الداخلي بين دول متعاطفة مع إسرائيل، وأخرى تنتقدها علنًا (مثل إسبانيا وإيرلندا)، جعله بلا أثر فعلي على الأرض. غير أن خطابًا جديدًا بدأ يتشكل، يُطالب بمساءلة إسرائيل في المحاكم الدولية، ويدعو لربط العلاقات الاقتصادية الأوروبية-الإسرائيلية بمبادئ حقوق الإنسان، كما ظهر في مواقف البرلمان الأوروبي في منتصف 2024.

أما العالم العربي، فرغم عودة النبض الشعبي المؤيد لفلسطين بعد حرب غزة الأخيرة، فإن مراكز القرار السياسي تبدو في حالة شلل أو تطبيع فعلي. مصر، الحاضنة التقليدية للقضية الفلسطينية، تُعاني أزمات اقتصادية وانكماشًا دبلوماسيًا، بينما انخرطت دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات، في شراكات علنية مع إسرائيل، شملت تعاونًا في مجالات الدفاع، الأمن السيبراني، والاستثمار. ومع أن بعض هذه الدول حاولت استخدام العلاقة للضغط “الإيجابي” على إسرائيل، إلا أن النتيجة العملية كانت توسيع شرعية نتنياهو الإقليمية، لا تقييد مشروعه.

يبقى الرادع الأكثر مباشرة متمثلاً في محور المقاومة، الذي وإن بدا غير متكافئ تقليديًا مع إسرائيل، إلا أنه فرض عليها حدودًا جديدة في سلوكها العسكري. غزة، رغم الحصار والتدمير، أثبتت قدرة على الصمود والتجدد، سواء في تكتيك الأنفاق أو في تطوير الصواريخ. حزب الله في لبنان رآكم خبرة عسكرية، ومعلومات استخباراتية، وقدرة على إطلاق آلاف الصواريخ الدقيقة. الحوثيون، الذين دخلوا على خط الصراع منذ 2023، باتوا يربكون الملاحة الإسرائيلية، ويشكّلون بعدًا إقليميًا جديدًا للمواجهة. العراق وسوريا بدورهما يقدمان عمقًا لوجستيًا واستراتيجيًا للمحور، رغم التحديات الداخلية.

لكن الرادع الذي قد يغيّر معادلة القوة جذريًا هو الملف النووي الإيراني. في حال امتلكت إيران سلاحًا نوويًا فعليًا– وهو احتمال لم يعد مستبعدًا وفقًا لتقديرات وكالة الطاقة الذرية وبعض التقارير الإسرائيلية– فإن المشروع التوسعي الإسرائيلي سيدخل في حالة من الجمود أو على الأقل إعادة التقييم الاستراتيجي. إسرائيل لم تواجه منذ تأسيسها خصمًا نوويًا مباشرًا في المنطقة. امتلاك إيران لهذا السلاح يعني أنها ستملك “مظلة ردع نووية”، تُعيد تعريف مفهوم الرد على الاعتداءات أو التوسع الإسرائيلي. فالتوسّع العسكري في بيئة نووية يصبح أكثر تكلفة، بل وقد يؤدي إلى تصعيد خارج السيطرة.

لكن هل ستكون القنبلة الإيرانية كافية لردع إسرائيل؟ من الناحية النظرية، نعم. فمنطق “الردع المتبادل المؤكد” الذي ساد في الحرب الباردة، أثبت فعاليته في منع نشوب حروب مباشرة بين قوى نووية. إسرائيل نفسها تحتفظ بسلاح نووي غير معلن، لكن معروف دوليًا، وتملك غواصات قادرة على تنفيذ ضربات نووية ثانية، ما يعني أن دخول إيران إلى هذا النادي سيفرض توازنًا غير مسبوق في المنطقة. من الناحية الواقعية، لا تزال إسرائيل تعتبر هذا السيناريو وجوديًا، وقد أشارت تقارير، إلى أن تل أبيب قد تُفكر بعمل عسكري استباقي ضد المنشآت الإيرانية، إذا شعرت أن طهران على وشك تصنيع قنبلة.

وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل ما مثّلته الضربة الأمريكية الأخيرة التي استهدفت أهدافًا مرتبطة بإيران، سواء كانت قواعد لفصائل حليفة لطهران في العراق وسوريا، أو بنى تحتية عسكرية ذات صلة مباشرة بالحرس الثوري. هذه الضربة، وإن قُدّمت ضمن إطار “الرد على هجمات الميليشيات”، إلا أن توقيتها ودقّتها وامتدادها الجغرافي يكشف عن رسائل سياسية وأمنية أعمق.

الولايات المتحدة عبر هذه الضربة لم توجه فقط إنذارًا لإيران، بل أعادت تأكيد موقعها كمُنسّق مركزي لتوازنات المنطقة. فهي تؤكد، من جهة، أن مشروع إيران الإقليمي– سواء عبر التخصيب النووي أو التمدد بواسطة الحلفاء– لن يُترك دون رد، ومن جهة أخرى، فإنها ترسل أيضًا تحذيرًا لإسرائيل بأن التصعيد غير المنضبط قد يؤدي إلى زعزعة النظام الإقليمي، بما فيه أمن إسرائيل نفسها. من هذا المنظور، فإن الضربة ليست فقط موجهة نحو طهران، بل هي شكل من أشكال إدارة الردع بين طرفين متناقضين ومتداخلين: إسرائيل التي تندفع نحو التوسع بدعم أمريكي ضمني، وإيران التي تسعى لترسيخ موقعها كقوة نووية إقليمية تحت عباءة “المقاومة”.

الأهم من ذلك، أن هذه الضربة أظهرت حدود “ردع إيران لإسرائيل” في الوقت الراهن. فإذا كانت إيران قريبة فعلاً من العتبة النووية، فإن الرد الأمريكي يشير بوضوح، إلى أن الردع النهائي لم يكتمل بعد. أي أن إيران لا تزال مكشوفة أمام الضغط العسكري الغربي، مما يمنح إسرائيل فسحة للمناورة التوسعية، لكنها في الوقت ذاته تتحرك في بيئة أكثر توتراً، وأكثر عرضة للانفجار الواسع، إن فشلت واشنطن في احتواء الجانبين.

من جانب آخر، قد يقرأ نتنياهو هذه الضربة كمؤشر، على أن واشنطن أكثر انشغالاً بردع إيران من مراقبة السياسات التوسعية الإسرائيلية، مما قد يشجعه على مواصلة خطواته في الضفة الغربية، أو حتى تكثيف الضربات في غزة، مستغلاً الغطاء الأمريكي غير المباشر. لكن هذه الحسابات قصيرة النظر، إذ أن استمرار التصعيد على جبهات متعددة سيجعل الولايات المتحدة أمام معضلة استراتيجية: كيف تضمن أمن إسرائيل، دون أن تخسر السيطرة على التوازن الإقليمي، أو تدخل في حرب مفتوحة، قد لا تملك إرادة خوضها؟

بجانب الردع، هناك عوامل أخرى داخلية، بدأت تؤثر على فاعلية المشروع التوسعي. إسرائيل تمر بأزمات سياسية غير مسبوقة: استقطاب مجتمعي عميق، احتجاجات ضد الحكومة، انقسام داخل الجيش بشأن التعامل مع غزة ولبنان، وارتفاع غير مسبوق في تكلفة الحرب اقتصاديًا وبشريًا. قطاع التكنولوجيا– العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي– بدأ يتأثر من موجات الهجرة العكسية ومن مخاوف المستثمرين. كل هذه المؤشرات تُظهر، أن القوة الإسرائيلية لم تعد متماسكة كما كانت قبل عقد، وأن سياسة التوسع قد تتحول من أداة قوة إلى مصدر تهديد داخلي.

في الختام، المشروع التوسعي الإسرائيلي كما يتصوره نتنياهو هو مشروع نشط وقيد التنفيذ، لكنه ليس قدرًا حتميًا. إيقافه لا يتطلب قوة خارقة، بل يحتاج إلى تفاعل متداخل بين أدوات متعددة: الضغط الأمريكي، تصعيد المقاومة، إعادة التموضع الإقليمي، وتوازن الردع الجديد الذي قد تخلقه إيران. حين تتقاطع هذه العوامل معاً، يُصبح بالإمكان كبح هذا المشروع أو حتى تقويضه. لكن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في امتلاك القوة، بل في وجود إرادة سياسية دولية وعربية فاعلة، تخرج من حالة الصمت أو المجاملة إلى المواجهة الدبلوماسية الحقيقية.