الحرب التي بدأتها إسرائيل على إيران، هي سابقة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث منذ تبلورت الفكرة الصهيونية في شكل دولة على أرض فلسطين العربية، وكانت إيران أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف اعترافاً فعلياً واقعياً بإسرائيل منذ إعلان قيامها 1948، لكن تأخرت في إعلان الاعتراف الرسمي الدبلوماسي القانوني إلى مارس 1950، حيث كانت تركيا قد سبقتها إلى الاعتراف بشهرين أي في يناير 1950، إيران أول اعتراف واقعي، تركيا أول اعتراف رسمي، وبهذا تأكد أمران: خروج الفرس والترك المبكر من الصراع، ثم بقاء الصراع محصوراً بين إسرائيل والعرب فقط. 

وللأمانة، لم تكن المواقف الحقيقية لكافة الحكومات العربية آنذاك ودون استثناء واحد، تختلف في جوهرها عن الموقفين الرسميين الإيراني والتركي، كان لدى الحكام العرب ذاك الوقت اعتقاد كامن وراسخ، أن إسرائيل جاءت لتبقى، ولذلك كان ثمة اعتقاد أن حرب 1948، لن تتكرر، ولذلك كانت اتفاقات الهدنة بين العرب وإسرائيل في مفاوضات رودس 1949 أشبه ما تكون باتفاقات سلام تحت لافتة الهدنة، ولهذا سعت إسرائيل فور أن توقفت الحرب إلى إرسال مشاريع السلام لعدد من الحكام العرب، ومنهم الملك فاروق الذي وصله مشروع مقترح للتفاوض في خريف 1948، أي قبل أن يكون غبار الحرب قد سكن. ولذلك فإن كافة الأنظمة العربية الجديدة التي جاءت بانقلابات بعد قيام إسرائيل لم يكن الصراع مع إسرائيل هو الأولوية الأولى على أجندتها، كانت الأولويات الأكثر أهمية تتعلق ببناء الداخل بما في ذلك الأنطمة المتعاقبة التي نتجت عن الانقلابات المتتالية في سوريا، ثم النظام الوليد في مصر عقب سيطرة الجيش على الحكم 23 يوليو 1952. 

معنى ما سبق: عقب قيام إسرائيل مباشرة، لم يكن لدى الفرس ولا الترك ولا العرب- أقصد الحكومات- نية معلنة ولا خفية لاستئناف صراع ممتد متجدد مع إسرائيل، كانت الفكرة السائدة من باب السياسة الواقعية هي التسليم، بمنطق أن إسرائيل جاءت المنطقة لتعيش فيها، وتبقى فيها. لكن هذا المنطق الواقعي لم يستمر، إلا قليلاً تحت وطأة عدة عوامل:

1-  ارتباط إسرائيل الوليدة بالأحلاف الغربية الناشئة، هذه الأحلاف كانت مصر- في الأربعينيات من القرن العشرين- تراها التطور الجديد للاستعمار، فكانت ترفضها، ثم لما قامت إسرائيل، ربطت بينها وبين الاستعمار، ولهذا أعلن وزير خارجية مصر في آخر حكومات الوفد- محمد صلاح الدين- أن مصر لن تدخل الأحلاف، ولن توقع سلاماً مع إسرائيل، وهذا هو الميراث الوطني الذي تلقته حكومة الضباط الأحرار عن حكومة الوفد الأخيرة من خريف 1950، حتى شتاء 1952، هذا الموقف بات من الثوابت الوطنية التي يستحيل أن يتراجع عنها الحكام الجدد من ضباط الجيش.

2- رغم اتفاقات الهدنة التي هي- في جوهرها- اتفاقات سلام، ورغم سعي إسرائيل المبكر لعقد اتفاقات سلام مع العرب الذين دخلوا معها في الحرب 1948، إلا أن المعلومات المؤكدة توافرت لدى القيادة المصرية الجديدة، أن إسرائيل في سباق مع الزمن لتكديس الأسلحة، بما يعني أنها في وارد الاستعداد لحرب جديدة، وقد صدقت الأيام ذلك بالفعل فقامت إسرائيل بالعدوان على غزة 1955- وكانت تحت الإدارة المصرية- فتحولت السياسة المصرية من التركيز على بناء الداخل إلى الاستعداد للمواجهة القادمة، بدأت مصر في الحصول على السلاح بالصفقة الروسية عبر تشيكوسلوفاكيا في العام ذاته، ثم في العام الذي يليه نشبت حرب 1956، حيث احتلت إسرائيل كامل سيناء، ومن هنا بدأ الصراع الفعلي، يستأنف مساره الذي كان قد توقف عقب الحرب الأولى 1948.

3- بروز قيادة عبد الناصر في الشرق الأوسط، حيث في العام 1955 نجح في كسر احتكار توريد السلاح بالصفقة التشيكية، ثم برز كواحد من كبار القادة الجدد في العام الثالث في مؤتمر باندونج مع نهرو- الهند ومع تيتو- يوغوسلافيا، ثم في العام 1956 جمعت له الأقدار عدة انتصارات حيث: جلاء آخر جندي إنجليزي عن منطقة قناة السويس بعد ثلاثة أرباع قرن من الاحتلال، ثم انتخابه رئيسا للجمهورية في استفتاء عام، ثم هزيمة العدوان الثلاثي بفضل التوازن الدولي، حيث رفضه السوفيت والأمريكان معاً، وحيث تأميم قناة السويس، فخرج عبد الناصر من العامين 1955 و1956 بطلاً قومياً في الداخل، كما تجلى زعيماً ثورياً لدى كافة الشعوب التي عانت ويلات الاستعمار.

4- أسست قيادة عبد الناصر نموذجاً جديداً للحكم، استلهمه كثيرون في الشرق والغرب، بمن فيهم الخميني بعد الثورة الإيرانية 1979، نموذج غير غربي، غير ديمقراطي، غير ليبرالي، كالذي تأسس في مصر بعد ثورة 1919، كما هو نموذج غير شرقي، غير شيوعي كالذي تأسس في كثير من بلدان العالم الثالث في ذلك الوقت، استلهاماً من النموذج السوفيتي، أسس عبد الناصر نموذجاً للاستبداد الشرقي القديم، حيث الحاكم منفرداً في أعلى القمة، وحيث تحته بيروقراطية كبيرة عسكرية وإدارية وأمنية متربطة بشخصه وتأتمر بأمره، نموذج عبد الناصر أعاد إنتاج نموذج محمد علي باشا، ونموذج محمد علي باشا أحيا تراث الحكم الفرعوني المهيمن، هذا النموذج كان واحداً من مصادر إلهام عبد الناصر في الشرق الأوسط، حيث اقتبس منه كثيرون، بمن فيهم الخميني الذي اعتبر نظام عبد الناصر لا شرقياً ولا غربياً، فأعاد إنتاج الاستبداد الفارسي القديم تحت عمامة الفقيه السوداء، وليس تاج الشاهنشاه.

5- لأكثر من عشر سنوات كاملة 1955 – 1967، كان زمام الشرق الأوسط في يد عبد الناصر، لم يترك عبد الناصر فراغاً، يتسلل منه سواه، زاحم القوتين العظميين، كان هو من يقرر، ما يجوز وما لا يجوز، وما هو مقبول وغير مقبول، هذا النموذج كان لا بد أن ينتهي، وقد انتهى بالفعل صباح 5 يونيو 1967، وكان الشرق الأوسط في حاجة لعشر سنوات 1977، حتى يبدأ عهد ما بعد عبد الناصر، عهد القيادة فيه لأمريكا وإسرائيل بتعاون عربي، بدأ من زيارة القدس 1977، حتى وصل الذروة مع اتفاقات إبراهام 2020.

6- خمس سنوات بين اتفاقات إبراهام  2020، والحرب الفارسية- الإسرائيلية الأولى 13 يونيو 2025، عندما انعقدت اتفاقات إبراهام، ظن كثيرون، أن إسرائيل توسدت عرش القيادة في الشرق الأوسط، كما ظنوا أن القضية الفلسطينية ماتت، ثم اندفنت، وأنه لم يعد أمام أي طرف في الشرق الأوسط من خيار، إلا أن يزاحم حتى يجد له موضع قدم في قطار إبراهام بقيادة إسرائيل، ثم خابت كل الظنون، وكذبت مع الزلزال الذي اهتزت له إسرائيل من الأعماق مع اندلاع حرب طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023، وقد أعقبته حرب إبادة، جمعت بين وحشية الحروب الصليبية مع وحشية الحروب المغولية اللتين دمرتا الشرق الأوسط على مدى القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين.

7- في حرب طوفان الأقصى، على مدار عامين، كانت إيران البلد الشرق أوسطي الوحيد الشريك في الحرب، لم تكن تركيا شريكاً، لم يكن أي بلد عربي شريكاً، فقط إيران كانت شريكاً وظهيراً فعالاً للمقاومة الفلسطينية عبر ذراعيها العربيين: حزب الله اللبناني في الشمال، حزب أنصار الله الحوثي في الجنوب، كما عبر الجسم الفلسطيني لصلب المقاومة نفسها في غزة. في هذا السياق، يأتي قرار إسرائيل بالحرب على إيران 13 يونيو 2025، والتي بدت في يومها الأول نكسة فارسية مستنسخة من النكسة العربية 1967، لكن في الأيام العشر التي أعقبت ذلك، دارت رحى الحرب سجالاً، حيث تبادل الطرفان ضربات موجعة، في أعز ما تملكه إيران، وفي أعز ما تملكه إسرائيل.

8- الحرب على إيران جاءت من حيث الترتيب الشكلي للأحداث في توقيت مناسب، بعد الإجهاز على قدرات المقاومة الفلسطينية، وبعد الإجهاز على قدرات حزب الله اللبناني، وبعد سقوط نظام الأسد، وتنصيب نظام مرتبط بتركيا والخليج، وليس له موقف عدائي من إسرائيل وأمريكا، بل له حزازات شديدة المرارة مع إيران بحكم تحالفها مع نظام الأسد الإجرامي، ثم إسرائيل، على يقين، أنه لا توجد ممانعة حقيقية لدى الحكام العرب من إسقاط النظام الإيراني، تماماً مثلما لم يكن لديهم اعتراض حقيقي على تصفية آخر قلاع المقاومة الفلسطينية.

9- عندما انطلقت الضربة الصاعقة من إسرائيل ضد إيران 13 يونيو 1925، غلب الظن أن النظام سوف يسرع ساقطاً على الأرض، فتقوم عليه ثورة شعبية، تتطور إلى حرب أهلية، تغرق فيها إيران، ما شاء الله لها من السنوات، بحيث يتم استنزافها، وفي النهاية تحصل على نظام مثل ذلك الذي حصلت عليه سوريا، ينشغل في بناء، ما هدمته سنوات الحرب الأهلية، لكن كانت المفاجأة أن إيران استوعبت الآثار بالغة التدمير، وعضت على جراحها، وردت على العدو، بما كشف تل أبيت- لأول مرة في تاريخ الدولة الصهيونية- كما لو كانت خيمة في صحراء تعبث بها الريح، وليست تلك الترسانة المحصنة من السلاح المسماة بإسرائيل، مثلما حطمت حرب 6 أكتوبر 1973 نظرية الأمن الإسرائيلي القائمة على الاحتماء خلف الساتر الترابي الحصين، المسمى خط بارليف، فإن الحرب الفارسية- الإسرائيلية الأولى حطمت وهم أن إسرائيل قلعة عصية على الاختراق، كما أثبتت حرب طوفان الأقصى وهم أن تصفية الحق الفلسطيني ممكن بالتواطؤ بين إسرائيل وشركائها من عرب إبراهام.

10- النظام الإيراني لم يسقط، مثلما لم يسقط عبد الناصر في 1956، ومثلما لم يسقط عبد الناصر في 1967، مع عدة فوارق: عبد الناصر كان محبوباً من المصريين، أحبوه بعيوبه، كما أحبوا من قبله سعد زغلول ومصطفى كامل بعيوبهما، الثلاث زعامات كاريزمية ساحرة، لا تعرف أن تبغضها، حتى لو كنت تختلف مع منطقها في كل شيء، عبد الناصر كان عند المصريين حالة ثورية، يرونها نزيهة وشريفة ونظيفة. أما النظام في إيران فهو- كنظام حكم- يعتبر ثورة ضد ثورة مضادة، لكثير مما ناضلت لأجله أجيال من الإيرانيين منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وعلى مدار القرن العشرين كله، هذا في مجال الحريات العامة والخاصة والحقوق المدنية. لكن النظام له وجه آخر محبب إلى الشخصية الفارسية، هو الوجه الاستقلالي غير الخاضع للغرب ولا للشرق، الشعب الإيراني لديه مرارات لا تنتهي من التدخل الأجنبي، بدءاً من الروس والإنجليز والفرنسيين، وحتى الأمريكان، وهم الأشد عداوة في الذاكرة الجمعية الإيرانية.

………………………………..

النظام لم يسقط لكن الحروب الفارسية- الإسرائيلية قد بدأت، ولم يعد أمام إسرائيل وحلفائها إلا التعامل مع اثنين من التحديات المعقدة: أولهما كيف يتم إسقاط النظام؟ وثانيهما كيف يمكن تكرار الحرب؟

وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.