تبرز الدولة الإثيوبية الحالية بحدودها كمثال على قيام دولة إفريقية توسعية، ضمت أقاليم مجاورة على فترات زمنية متعاقبة من القرن التاسع عشر، حتى ستينيات القرن الماضي؛ وفيما راجت فكرة أن إثيوبيا أبرز دول القارة المستقلة، أو التي لم تخضع لاستعمار أوروبي؛ فإن حقيقة قيامها بالأساس على سياسات استعمارية، مدعومة إما من قوى أوروبية مباشرة، وإما على وقع التنافس بين عدد من هذه القوى (والاستفادة المباشرة منه في مراحل عدة)، تظل حقيقة راسخة عند قراءة تاريخ قيام هذه الدولة بغض النظر عن تلوينات وتفسيرات هذا التاريخ التي تبرر قمع “مملكة الحبشة” لشعوب مجاورة مثل، الأورومو والصوماليين والعفر، فيما يعرف حاليًا بجمهورية إثيوبيا الفيدرالية.

وعلى خلفية هذا التاريخ القائم على التوسع والهيمنة والقسر، تأتي دعوات إثيوبيا الحالية بضرورة الحصول على منفذ بحري، متدثرة بأطماع خبَرتها دولُ الجوار بدرجات متفاوتة: فإريتريا، التي نالت استقلالها عن إثيوبيا في العام 1993 بعد صراع دامٍ، نجحت فيه القوى الوطنية المسلحة الإريترية في النهاية في فرض إرادتها، حذرت مرارًا من خطورة “التهديدات الإثيوبية” بالحصول على منفذ بحري في أراضيها مرة بكل السبل الممكنة (تصريحات آبي أحمد نوفمبر 2023، والتي تراجع عنها بشكل متكرر حتى مايو 2025)، كما رفضت جيبوتي في منتصف يونيو الجاري، منح إثيوبيا نفاذًا “سياديًا” لأحد مواني الأولى وسط تقارير بضغوط إثيوبية مشددة على جيبوتي في هذا المسار، ولا يخفى أن التورط الإثيوبي في الصومال للحصول على منفذ بحري (ضمن حزمة سياسات وصائية على مقديشو)، بات يتعارض تمامًا (بصيغته الإثيوبية الراهنة) مع ما رَسخ من اعتبارات السيادة وسلامة الأراضي الصومالية. ومع تجدد المطالب الإثيوبية (من منافذ رسمية وبحثية وشعبية متنوعة) بالحصول على منفذ بحري، واتهام أديس أبابا المبطن، لدول تطل على البحر الأحمر بعرقلة تحقيق هذه المطالب، فإنه ثمة مخاوف حقيقية من تمكن أديس أبابا من تحقيق هذه المطالب تحت لافتات جديدة أبرزها، “التعاون الإقليمي” برعاية أمريكية وإسرائيلية وخليجية، وضمن سيناريو فرض واقع جديد في كل إقليم الشرق الأوسط والقرن الإفريقي.

تجدد مطالب إثيوبيا على وقع الحرب الإسرائيلية- الإيرانية

رغم اللغة الدبلوماسية التي غلبت على مطالب الحكومة الإثيوبية، وقطاعات نخبوية مهمة، بالحصول على منفذ بحري (سيادي بطبيعة الحال، حيث ترى حكومة آبي أحمد أحقية إثيوبيا في ذلك، حتى لا يمثل “الامتياز” أداة ضغط أو ابتزاز إقليمي ضدها مستقبلًا، حسب دعواها)؛ فإن جنوح رئيس الوزراء الإثيوبي الواضح، كما كشفت تقارير محلية وإقليمية مكثفة في يونيو الجاري، لتبني سياسة إقليمية متشددة على غرار سياسات نظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بات أمرًا أكثر وضوحًا خلال أيام الحرب الإسرائيلية الإيرانية التي شغلت العالم أجمع (13- 24 يونيو بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف إطلاق النار “بين الجانبين”). فقد تجاهلت إثيوبيا تمامًا اتخاذ موقف واضح من الحرب (مثل، إدانة الهجوم الإسرائيلي المباغت أو تبنيه بشكل صريح)، رغم مبادرة الاتحاد الإفريقي بإصدار مثل هذه الإدانة في الساعات الأولى من هجوم 13 يونيو. وبدا من متابعة تغطية الميديا الإثيوبية “للحرب”، أن الأخيرة تمثل ظرفًا مثاليًا لتعميق أديس أبابا توجهاتها للحصول على منفذ بحري. كما لفت مراقبون في الإقليم إلى رجحان توجه آبي أحمد لتبني سياسات القوة لتحقيق غاية الوصول إلى البحر الأحمر، اقتداء بسياسات روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة التي تنتهك أبسط قواعد القانون الدولي دون محاسبة تذكر، ووسط توقعات بانهماك القوى الإقليمية المهمة المطلة على البحر الأحمر (مثل السعودية ومصر) في مسألة الحرب بين إسرائيل وإيران، (حتى بعد إعلان ترامب وقف إطلاق النار بينهما) وتداعياتها في الفترة المقبلة، عوضًا عن حسابات إثيوبية غير دقيقة بمراجعة مصر أولويات سياساتها الخارجية في القرن الإفريقي.

ويمكن رصد تجدد مطالب إثيوبيا تلك، مع تغير واضح في النبرة وحِدتها لصالح تسويق فكرة “التعاون الإقليمي”، منذ منتصف مارس الماضي، عندما استبعد آبي أحمد بشكل واضح سعي حكومته للصراع مع حكومة إريتريا حول مسألة الوصول للبحر الأحمر. وفي الأسبوع الأول من يونيو الجاري، أطلقت إثيوبيا حملة جديدة لتأمين وصولها لمنفذ بحري على البحر الأحمر مع ادعاء آبي أحمد (في كلمة متلفزة، بثتها وكالة الأنباء الإثيوبية في 9 يونيو الجاري)، أن وضع بلاده “كدولة حبيسة” يمثل “ظلمًا جليًا”، وأعاد للأجواء التوتر الإثيوبي الإريتري واحتمالاته المفتوحة، راهنًا بتذكيره بالندم “على الطريقة التي فقدنا بها ميناء (عصب الإريتري)، “وأن التقاليد الدولية بخصوص الدول الحبيسة قد تم انتهاكها في حالة إثيوبيا”، وأن مساعي بلاده للوصول للبحر الأحمر ستظل “سلمية تمامًا وملتزمة بالقانون الدولي، ورافضة لأية مقاربة عسكرية”.

وتكشف المواقف الإثيوبية، وعلى رأسها الخاصة بآبي أحمد، عن تبني خطاب متناقض للغاية بين حرص أديس أبابا على علاقات التعاون الإقليمي مع دول الجوار واحترام سيادتها واستقلالها، وتبنيها (إثيوبيا) فعليًا سياسات جامدة بتصور وحيد للحصول على منفذ بحري بشروط سيادية، تضمن لها الاستغلال الكامل والأمثل لهذا المنفذ (تجاريًا وعسكريًا) بمنأى عن اعتبارات وتحفظات الدولة التي سيقع عليها الاختيار.     

إريتريا والمواجهة المؤجلة

يظل ميناء عصب الإريتري هو الخيار الأمثل لإثيوبيا في مساعيها للوصول إلى البحر لعدة اعتبارات منها: وقوعه في قلب الحوض الجنوبي للبحر الأحمر، وبالقرب من مضيق باب المندب (على مسافة في حدود مائة كيلومتر فقط)، مما يعني تمركزًا إثيوبيًا حاكمًا وأكثر قربًا من شركاء مثل، السعودية وإسرائيل والاتحاد الأوروبي مرورًا بقناة السويس، وما يمثله الميناء من قيمة مضافة لإثيوبيا كشريك إقليمي في البحر الأحمر والقرن الإفريقي لدول مثل، الإمارات وفرنسا وغيرهما (بغض النظر عن تحليل دور التخادم الذي تلعبه أديس أبابا بالفعل لصالح مثل هذه القوى في الإقليم)؛ ويرتبط بالنقطة السابقة تأمين إثيوبيا تمويلًا ودعمًا سياسيًا من قبل الإمارات على وجه الخصوص (في شكل استثمارات ومشروعات مقترحة في إثيوبيا وإريتريا، تم طرحها منذ العام 2018 دون المضي قدمًا في تنفيذها بالفعل) لتحقيق هذا النفاذ، إضافة إلى ضمان تطبيع العلاقات مع جارة إثيوبيا اللدود: إريتريا بضوابط اقتصادية صارمة، وهو اعتبار تتفق عليه سياسات دولية وإقليمية لاحتواء الدولة الإريترية بشكل عام؛ إضافة إلى هدف آن لأديس أبابا يتمثل في تسوية الصراع الحدودي المزمن مع إريتريا بشكل نهائي، وضمن ترتيبات اتفاق ميناء عصب المرتقبة حسب رؤية إثيوبيا.

بأي حال، فإن أسمرا كررت في الأسابيع الأخيرة رفضها لأية أفكار تتعلق باستغلال ميناء عصب، سواء بشروط تقليدية تتمثل في السماح بمرور التجارة الإثيوبية عبر الميناء دون مساس بسيادة إريتريا، أو منح إثيوبيا نفاذًا سياديًا للميناء. كما تعول أسمرا على ضخ السعودية استثمارات كبيرة في ميناء عصب، (حيث أشارت تقارير إريترية في مارس الفائت إلى عزم الرياض ضخ استثمارات، تتجاوز بليون دولار في الميناء، فيما يمثل تجاوزًا لأفكار إثيوبيا بتنسيق الاستثمارات الخليجية في الميناء وغيره في إريتريا عبر أديس أبابا نفسها).

ويمكن ملاحظة أن نجاح إثيوبيا في الوصول لميناء عصب (أو في إقليم أرض الصومال بجمهورية الصومال الفيدرالية) سيؤدي إلى فوضى إقليمية كبيرة، كما ستكون له تداعيات سلبية على دولة مثل جيبوتي التي تمثل راهنًا المنفذ الرئيس للتجارة الإثيوبية، ويعمق من توتر العلاقات بين البلدين. كما يتضح من سياسات الرئيس الجيبوتي عمر جيلة الحالية حرص بلاده على تنويع الاعتماد على حركة تجارة دول أخرى، إضافة إلى إثيوبيا، ومنها مصر وتركيا وروسيا وغيرها، لتفادي أية ضربة اقتصادية قاصمة حال خفض إثيوبيا اعتمادها على مواني جيبوتي.  

ومع نهاية يونيو الجاري، بدا أن الصدام بين إثيوبيا وإريتريا (على خلفية خلافات مستمرة، ومن بينها مسألة تهديد إثيوبيا بالوصول إلى ميناء عصب في أكثر من مناسبة)، قد أخذ في التصعيد (رغم إعادة فتح معابر هامة بين البلدين لمرور السكان للمرة الأولى منذ نحو أربعة أعوام) مع ظهور معلومات استخباراتية محلية باستعدادات عسكرية إريترية مهمة؛ لمواجهة “أطماع إثيوبيا” وسيناريوهات أي تحرك عسكري على حدود إريتريا مع إقليم التيجراي التي تشهد بدورها تصعيدًا خطيرًا منذ مطلع العام الجاري.

رهانات آبي أحمد

يواصل رئيس الوزراء الإثيوبي، فيما يواجه معضلات داخلية مزمنة، وتنذر بتجارب مماثلة لحرب التيجراي الخيرة، مساعيه للحصول على منفذ بحري في مواقع محتملة في أرض الصومال (بشروط سيادية مطلقة لصالح بلاده، وبالمخالفة لقواعد عمل الاتحاد الإفريقي الأساسية والمعتمدة منذ تكوين منظمة الوحدة الإفريقية في العام 1963، ومقرها في العاصمة أديس أبابا)، أو في جيبوتي (التي رفضت بدورها في يونيو الجاري مقترحات إثيوبية للحصول على ميناء دون أية رقابة من الحكومة الجيبوتية على سير العمل به)، أو في إريتريا بطبيعة الحال (عوضًا عن تعطل مشاروات استفادة إثيوبيا من ميناء بورتسودان). ويراهن آبي احمد على ارتباط تطلعاته بدور سياسات المواني التي تتبعها الإمارات في الإقليم، وتعهدات قوى مثل فرنسا وروسيا بتحديث “الأسطول الإثيوبي” في البحر الأحمر، وقدرة إثيوبيا على الضغط على دول الجوار، اقتداء بسياسات القوة التي تنتهجها قوى مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا، مع تراجع الاكتراث بردود فعل المجتمعين الدولي والإقليمي.

لكن هذه الرهانات تظل أسيرة تداعيات وتهديدات ستؤثر على الدولة الإثيوبية بشكل عام وأبرزها، مواجهة عزلة دبلوماسية، وتفاقم العداء نحوها من قبل دول مثل مصر وجيبوتي والصومال وعدد من الشركاء الدوليين (أبرزهم، ربما الصين التي تحتفظ بمكانتها شريكًا تجاريًا أولًا لإثيوبيا منذ نحو عقدين)؛ كما أن مضي أديس أبابا قدمًا في مساعي الحصول على ميناء في المناطق المستهدفة يزيد بقوة من تشكك جيبوتي في نوايا نظام آبي أحمد نحوها، (مضافًا لها شكوكًا سابقة جراء الارتباط الإثيوبي- الإماراتي الذي تزداد سمة كونه ارتباطا عضويا عامًا بعد آخر)؛ وإنهاك الاقتصاد الإثيوبي (الذي يتعافى بصعوبة بالغة) عبر الدخول في صراعات عسكرية أو أمنية جديدة؛ إضافة إلى تدمير صورة إثيوبيا كدولة إفريقية معنية بسبل التعاون الإقليمي، وحفظ السلم والاستقرار في أرجاء القارة.