في خضم الحروب المعقدة والأزمات الممتدة في إفريقيا، لا تُعد الميليشيات ظاهرة جديدة، لكن ما نشهده اليوم هو صعود متسارع لدورها في مراكز القرار والسيطرة وتحولها إلى قوى سياسية– عسكرية– اقتصادية، تعيد تشكيل الواقع، وتُهدد مفاهيم السيادة والشرعية والنظام، هذا النمط الصاعد لا يُقاس فقط بما تملكه هذه الجماعات من سلاح، بل بما تفرضه من وقائع بديلة، تتجاوز منطق الدولة وتنافسها على السلطة والموارد.
في السودان، ومع تصدع مؤسسات الدولة بفعل الحرب، لم تعد الساحة محكومة بمنطق الدولة المركزية، بل أفسحت المجال أمام صعود كيانات مسلحة، تعيد إنتاج السلطة على طريقتها، وتؤسس لأشكال هجينة من الحكم خارج البنى القانونية التقليدية.
تُعد قوات الدعم السريع النموذج الأبرز لهذا التحول. فبمزيج من العنف والتحالفات القبلية والسيطرة على الموارد والتغلغل في شبكات التهريب العابر للحدود، ترسّخ وجودها كسلطة أمر واقع في مناطق شاسعة من البلاد، وتمددت لتؤثر في معادلات الأمن الإقليمي من ليبيا إلى تشاد، ومن دارفور إلى جمهورية إفريقيا الوسطى.
في هذا السياق، لم تعد التهديدات الناشئة مجرد شأن داخلي سوداني، بل أضحت قضية أمن إقليمي ودولي، تنعكس آثارها على المنظومة الدولية والإقليمية وطرق التجارة، وتوازنات القوى في الإقليم. وبينما تتعامل بعض الأطراف مع هذه الجماعات كأمر واقع، فإن ذلك يطرح تساؤلات خطيرة حول مستقبل الدولة وحدود الشرعية ومصير المجتمعات التي أصبحت رهينة لبنادق، تتحدث باسمها واقتصاد لا يعترف بالقانون.
هذا التقرير، يحاول قراءة هذا المشهد المتشابك عبر تتبع مسار صعود الميليشيات، وتحولها إلى فاعلين سياسيين واقتصاديين، يتجاوزون حدود الدولة، مركزًا على حالة الدعم السريع كنموذج لصياغة “نظام موازٍ”، يُدار من السلاح، ويُموَّل من الحرب.
اقتصاد الحرب والتحالفات العابرة للحدود
خلف المشهد العسكري لقوات الدعم السريع، تتمدد بنية اقتصادية موازية، تُغذي استمرارها، وتحوّل الحرب من مأساة وطنية إلى مشروع طويل الأمد. لم تعد هذه الجماعة المسلحة مجرد فصيل متمرد، بل تحوّلت إلى فاعل رئيسي ضمن اقتصاد غير نظامي عابر للحدود، يقوم على الذهب، والتهريب، والجبايات، والموارد الخارجة عن سيطرة الدولة.
ساعدها في هذا التحول تماهيها العميق مع مكونات قبلية ذات تاريخ راسخ في التجارة غير الرسمية، أبرزها قبائل الشنابلة والمجانين وغيرها، المنتشرة في المثلث الحدودي بين السودان وتشاد وليبيا وإفريقيا الوسطى. هذه المكونات لم تتحرك ضمن منطق الدولة أو القانون، بل ضمن منطق القوة والمصالح المشتركة، والحدود القبلية المرنة.
هذا التماهي لم يكن طارئًا، بل تشكّل كمنظومة مترابطة. وفرت هذه القبائل الدعم اللوجستي، والممرات الآمنة والحماية داخل بيئات التهريب، فيما منحتها الميليشيا الحصانة والسيطرة، ومنافع النفوذ المسلح. وبهذا، نشأ تحالف عضوي بين العنف والاقتصاد الموازي، بين السلطة والسلاح، وبين الحرب والتجارة، ليتكوّن ما يشبه النظام البديل— شبكة هجينة، تتجاوز مؤسسات الدولة، وتفرض منطقها الخاص في الإدارة والتمويل والسيطرة.
توسّع هذا النفوذ خارج الحدود، فامتدت شبكات الدعم السريع نحو العمق الليبي، حيث ترتبط بعمليات تهريب السلع والوقود والأسلحة. وفي تشاد، انتشر مقاتلوه على امتداد الحدود محصنين بتحالفات قبلية متداخلة. أما في جمهورية إفريقيا الوسطى، فباتت مناطق الشمال الشرقي— حيث تغيب الدولة— مجالًا مفتوحًا لاختراق الجماعة والنشاط المسلح، وتسهيل التهريب.
هذا التمدد لم يعد مجرد تحرك ميداني، بل أصبح يُعيد تعريف مفاهيم الدولة والسيادة. الميليشيات باتت تفاوض على الأمن، وتعرض خدماتها كسلطات بديلة، في ظل عجز الحكومات المركزية، وتراجع قدرتها على الضبط والسيطرة. ومع الوقت، تبلور نموذج جديد، يتقاسم فيه المسلحون والدولة النفوذ، أو يُقصى فيه دور الدولة تمامًا.
المفارقة، أن هذا التوسع يجري أحيانًا تحت غطاء “الواقعية” الإقليمية، حيث تتعامل بعض الأطراف مع هذه الجماعات كأمر واقع، لا بوصفها خطرًا وجوديًا على سيادة الدولة. في المقابل، يعزز هذا الصمت الدولي، أو القبول البرجماتي النفعي من شرعية الميليشيات، ويمنحها فرصة الترسخ والتوسع.
المشهد الميداني وتحولات السيادة
تُمثل مدينة نيالا، كبرى حواضر جنوب دارفور، نموذجًا دقيقًا، لفهم كيف تتحول الميليشيا من طرف مسلح إلى سلطة فعلية، تُدير الأرض والسكان. لم تعد نيالا مجرد مدينة، بل أصبحت مركزًا قياديًا ميدانيًا لقوات الدعم السريع. ومن داخلها، تُدار العمليات، وتُنظّم الأسواق، وتُفرض الجبايات، وتُرسم معالم سلطة الواقع.
في شهر يونيو وحده، عكست سلسلة من الحوادث حجم الانفلات وغياب الدولة: إغلاق الأسواق؛ بسبب الفوضى الأمنية ومقتل مدنيين برصاص طائش، تصاعد جرائم النهب، اختطاف أطباء وتجار، احتجاجات لمقاتلي الدعم السريع أنفسهم لغياب الرعاية الصحية، وصولًا إلى هجمات مسلحة بـ”قرنيت” وعودة ظاهرة الاختطاف الممنهج.
ما يجري في نيالا، ليس حالة استثنائية، بل عينة مكثفة من نمط جديد للسلطة. سلطة السلاح، لا القانون. شرعية القوة، لا المؤسسات. الأمن يُختزل في وجود الميليشيا، والاقتصاد يدور في شبكاتها، والسياسة تُدار عبر خطابها الدعائي.
وفي سياق موازٍ، أشارت تقارير أممية إلى تصاعد الهجمات ضد بعثات حفظ السلام في إفريقيا الوسطى، خاصة في 23 يونيو 2025، حين قُتل جندي أممي في شمال شرق البلاد، في هجوم نُسب إلى عناصر مسلحة سودانية. وبينما لم تُعلن أي جهة مسؤوليتها رسميًا، إلا أن الحادثة— المتزامنة مع توسع شبكات التهريب والعنف من دارفور نحو عمق إفريقيا— تؤكد تداخل الملف السوداني بالأمن الإقليمي، وتعقّد مشهد الفاعلين غير الرسميين.
جدير بالذكر، أن بعض التحليلات الإعلامية الصادرة من دوائر متماهية مع الدعم السريع، قدّمت هذا التوسع بوصفه إعادة تموضع أمني، يهدف لضبط الفوضى العابرة للحدود في محاولة لتطبيع نفوذ الميليشيا والترويج لدورها كضامن استقرار. غير أن الواقع الميداني من دارفور إلى إفريقيا الوسطى، يُظهر عكس ذلك تمامًا.
نحو معركة من أجل مفهوم الدولة
لقد أصبح واضحًا، أن الميليشيات لا تسعى فقط للنفوذ داخل ساحات القتال، بل تُعيد تشكيل مفاهيم السلطة نفسها. خطرها لم يعد ميدانيًا فقط، بل مفاهيميًا: إذ تخلق نموذجًا يُنافس الدولة، يُفاوض باسمها، ويُغني عن مؤسساتها، وفي الأخير ينفيها.
إن مواجهة هذا النموذج لا يمكن أن تتم عبر حلول جزئية أو بيانات شجب. المطلوب هو تفكيك منظومة اقتصاد الحرب، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات، وإعادة بناء سلطة الدولة بوصفها الضامن الوحيد للأمن والعدالة، والمستقبل.
المعركة الحقيقية لم تعد فقط مع ميليشيا، بل مع المنطق الذي يجعل من الميليشيا فوق الدولة وبديلا لها.