عندما يبدأ التطبيع من دمشق، فهو لا يشبه ما حدث في أبو ظبي أو المنامة. فسوريا، بما تمثّله من عمق في الوعي القومي العربي، وموقع مركزي في خطاب “الممانعة”، لا تطبّع فقط كدولة، بل تنقل معها طبقة واسعة من المعاني والتاريخ والصراع. ولذلك، فإن تطبيع سوريا مع إسرائيل في ظل النظام الجديد بقيادة أحمد الشرع، لن يكون مجرد اتفاق سياسي، بل زلزال فكري وعقائدي، يهز الجماعات الإسلامية من الجذور، ويفرض على الجميع إعادة تعريف المفاهيم الكبرى: المقاومة، الجهاد، العدو، والولاء..
سقوط المظلة العقائدية للمقاومة: من شعارات التحرير إلى مصالح الأمن
منذ السبعينيات، اعتمدت غالبية التيارات الإسلامية– السنية منها والشيعية– على سردية واحدة لتثبيت شرعيتها: “نحن في معسكر المقاومة”. كانت فلسطين هي البوصلة، ومواجهة إسرائيل هي التجلي الأعلى للفريضة الغائبة أو المعركة المؤجلة. هذا الخطاب نجح في تعبئة الجماهير، وتجنيد المقاتلين، وفي شرعنه بناء كيانات عابرة للدول، بحجة النفير العام..
بدأت هذه المظلة تتآكل تدريجيًا منذ توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد عام 1979. وعلى الرغم من الرفض الإسلامي الحاد لها حينها، إلا أن الجماعات– خاصة في عهد مبارك ـ عادت لاحقًا للعمل من داخل الدولة، مقدمةً مبررات برجماتية تحت عنوان: “نختلف مع النظام… لكن لا نصطدم به”.
ثم جاء تطبيع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، فحدث تحوّل نوعي: لم تكتف الجماعات برفض لفظي، بل انسحب بعضها من المشهد كليًا– كما في الحالة الإماراتية– أو أعاد ترتيب أوراقه، بما ينسجم مع الواقع الجديد. في السعودية، واجه التيار الصحوي حملة تفكيك ممنهجة؛ أدت إلى صعود “الوعاظ الوطنيين” الذين روّجوا للتطبيع ضمن سردية “المصلحة العليا”، و”الحكمة السياسية”، وهي مفاهيم أعيد توظيفها دينيًا لتبرير التحول.
سوريا والتطبيع من موقع الضعف: التأثير العميق في البنية العقائدية
اليوم، تتكرر التجربة في سوريا، ولكن في سياق أكثر هشاشة وحساسية. فسوريا لا تطبّع من موقع قوة اقتصادية أو نفوذ إقليمي، بل من موقع دولة خارجة من حرب، محطمة البنية، تعيد تركيب مؤسساتها تحت وصاية دولية. وبالتالي، فإن التطبيع لا يأتي كثمرة انتصار سياسي، بل كجزء من صفقة شاملة، تفرض إعادة ضبط العقيدة السياسية والدينية للسلطة الجديدة، ومن خلفها المجتمع.
وهنا يكون الأثر أعمق من مجرد “تطبيع سياسي”، بل يُنتج تطبيعًا داخل البنية الرمزية للجماعات الإسلامية– حتى تلك المعارضة– ويعيد تعريف العلاقة مع “العدو” ضمن مفهوم “مصلحة الدولة”، لا “فريضة المقاومة”.
التيارات الإسلامية في سوريا: من التصفية إلى إعادة التدوير العقائدي.
في المرحلة الراهنة، وبعد استلام الحكومة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع زمام السلطة، برزت سياسة واضحة، تهدف إلى تفكيك البنية العقائدية والتنظيمية للتيارات الإسلامية التي تشكلت خلال الثورة أو قبلها. هذه السياسة لا تعتمد فقط على القمع الأمني، بل على إعادة هندسة فكرية موجهة، تُمارس تحت غطاء إعادة بناء الدولة، وترسيخ السلم المجتمعي، والتجاوب مع متطلبات “الشرعية الدولية”.
بعض الفصائل الإسلامية تم حلها رسميًا بقرارات من الحكومة، كجزء من عملية “إعادة توحيد المؤسسات المسلحة”، في حين جرى دمج أخرى ضمن أجهزة الأمن والشرطة أو هيئات مدنية محلية، بشرط الالتزام بالخط الوطني الجديد”، وهو تعبير يستخدم للدلالة على خطاب ديني منزوع السلاح، منزوع العقيدة الصراعية، ومندمج ضمن السياسات العامة للدولة..
لكن الأهم من ذلك هو ما حدث على مستوى إعادة تشكيل الفكر الإسلامي نفسه. فقد تبنّت الحكومة الانتقالية، بدعم من شركاء دوليين وإقليميين، مشروعًا يهدف إلى “تحديث الخطاب الديني”، يتضمن مراجعة المناهج، والخطب، والفتاوى، والمراكز الدينية. هذا التحديث لا يستهدف فقط اللغة، بل يُعيد تعريف المفاهيم المركزية في العقيدة السياسية الإسلامية، مثل:
العدو: لم يعد الكيان الصهيوني، بل كل من “يهدد وحدة الدولة واستقرارها”.
الولاء والبراء: لم يعد على أساس ديني أممي، بل على قاعدة “الانتماء الوطني”.
الجهاد: لم يعد فريضة مقاومة، بل صار يُنظر إليه كـتطرف غير واقعي في سياق الدولة الحديثة”.
وتُظهر وثائق مسربة من “المجلس الوطني للخطاب الديني”– وهو هيئة أُنشئت بإشراف حكومي– كيف تُعاد صياغة مفردات “العقيدة والهوية” ضمن لغة تنموية- وطنية، تراعي “مصلحة الدولة وعلاقاتها الدولية”.
وبذلك، لم يعد الإسلام السياسي في سوريا مشروعًا مقاوِمًا، كما كان، بل بات مشروعًا إداريًا دينيًا وظيفيًا، يخضع لرقابة الدولة، ويتبنى سرديتها الجديدة، بما في ذلك التطبيع مع إسرائيل كضرورة سيادية لا مجال لمعارضتها عقائديًا..
“المتأسلمون الجدد”: إسلام منزوع الصراع
في هذه البيئة المتبدلة، يظهر جيل جديد من الإسلاميين، لا ينتمي للإخوان ولا للتيارات الجهادية، بل يُقدّم خطابًا دينيًا منزوع الصراع، متصالحًا مع التطبيع، ومرتبطًا بمصالح الدولة لا بمبادئ المقاومة.
هذا التيار الذي يمكن تسميته– بتحفظ نقدي– بـالمتأسلمين المتصهينين”، لا يُجاهر بعدائه للمقاومة، لكنه لا يؤمن بها عمليًا. يبرر التطبيع عبر فتاوى انتقائية، ويتبنى مفهوم “السلم المجتمعي” بشكل يلائم السياسة الرسمية. بعضهم يظهر في المنصات التعليمية، وبعضهم في الإعلام، ويعيدون تعريف العدو، على أنه “أي طرف يُعكر استقرار الدولة” بدلًا من أن يكون محتلًا لأرض، وهنا، لا يصبح الدين محركا للرفض، بل أداة للإقناع والتطبيع، بل والهيمنة الفكرية، ولكن بمنطلق جديد يناسب استراتيجيه جديدة معدلة ومنظمة لسياق وواقع مرسوم بدقة.
النخب الدينية في ورطة والمجتمعات في ارتباك
اللافت في الحالة السورية– كما في غيرها– هو صمت كثير من النخب الدينية، أو ميلها إلى براغماتية مفرطة. شخصيات دينية بارزة، كانت تُعرف سابقًا بمواقفها الصارمة ضد إسرائيل، باتت اليوم تتحدث عن “مصلحة الأمة”، أو تلوّح بمفاهيم مثل، “فقه الموازنات”، دون أن تتطرق صراحة لفكرة التطبيع. بعض خطب الجمعة الأخيرة في دمشق وريفها– بحسب رصد غير رسمي– تطرّقت إلى قضايا أخلاقية واجتماعية، متجنبة أي ذكر لفلسطين أو إسرائيل، رغم التغيرات السياسية الجوهرية.
في الخارج، يلتزم العديد من العلماء السوريين التقليديين– سواء من المؤسسة الأزهرية أو من التيارات الإسلامية الكلاسيكية– صمتًا شبه كامل، خشية أن يُفسَّر أي موقف، على أنه تسيس أو تهديد لعلاقاتهم مع دول الإقامة. وهناك من لجأ إلى تأويلات دينية، تُبعد موضوع التطبيع عن حلبة الفقه، وتُدخله في باب “الشأن السياسي الذي يُقدّره ولي الأمر”.
من جهة أخرى، تمّت إعادة تدوير بعض الأئمة المحليين داخل المؤسسات الرسمية، وأُعيد توجيه خطابهم للحديث عن “السلم المجتمعي”، و”استقرار الدولة”، دون أي إشارة إلى العدو التقليدي، ما جعل بعض المساجد، تُصبح منصات للتطبيع الصامت، بدلا أن تكون منابر للمقاومة الرمزية، كما كانت سابقًا.
هذا الصمت، او الانسحاب، او التبرير، لا يعني بالضرورة تأييد التطبيع، لكنه يعبر عن عن غياب المرجعية الفكرية الواضحة التي تنظم الموقف وتقدم البدائل. في ظل هذا الفراغ، يعاني المجتمع، وخاصة الشباب من ارتباك شديد. فبعد عقود من تلقين ثابت عن العدو والموقف الديني منه، يطلب من الناس الآن إعادة ضبط بوصلتهم القيمية دون مبرر مقنع أو شرح كاف.
يتساءل كثير من الشباب السوريين، خاصة في مناطق مثل حلب وحماة ودرعا، وهم الذين نشأوا على خطاب “الولاء والبراء”، ما الذي بقي ثابتًا؟ من هو العدو؟ من الحليف؟ ما مصير فلسطين؟ وهل الدين أصبح وظيفيًا فقط؟ أسئلة لا تُطرح بالعلن غالبًا، لكنها تتسلل إلى الحوارات الخاصة، وتنعكس في تراجع الانخراط الديني، وتزايد الحيرة بين الدين والسياسة، والانتماء والمصلحة.
الإعلام وإعادة هندسة الوعي الإسلامي
أخطر أدوات التطبيع في سوريا الجديدة ليست التصريحات السياسية المباشرة، بل الإعلام، بوصفه القناة الأكثر تأثيرًا في إعادة تشكيل وعي الجمهور. لا يجري تسويق إسرائيل كحليف فجأة، بل يتم تحييدها تدريجيًا، ثم تقديمها كواقع، لا يمكن تغييره”، ثم دمجها في الخطاب الإعلامي بلغة ناعمة وغير تصادمية.
تتم العملية عبر عدة مستويات:
التحييد الصامت: تبدأ بتجنّب ذكر إسرائيل كعدو في نشرات الأخبار أو البرامج الحوارية، وتُستبدل عبارات مثل “الكيان الصهيوني” بتعبيرات تقنية محايدة مثل “الطرف الإسرائيلي”.
التطبيع المقارن: تُبث تقارير، تُظهر أن دولًا عربية أخرى استفادت من علاقتها بإسرائيل، دون إصدار حكم مباشر، بل عبر “تحليل موضوعي”، يوحي بأن هذه الخطوة قد تكون واقعية.
سحب فلسطين من مركز الوجدان: تقل التغطية المباشرة لمعاناة الفلسطينيين، ويغيب ذكر الاحتلال من سردية الأخبار، لصالح تقارير، تركز على “التنمية” و”السلام الإقليمي”.
التطبيع البصري والثقافي: تُمرَّر رسائل مصالحة ضمن الدراما والبرامج الثقافية؛ تظهر شخصيات يهودية بصورة إنسانية، أو يتم الحديث عن التعايش دون تحديد طبيعة الصراع أو أطرافه.
إنتاج خطاب ديني إعلامي موجه: تُروج برامج دينية لمفاهيم مثل “طاعة ولي الأمر” و”فقه المصلحة”، مع تفريغ مفاهيم مثل الجهاد والمقاومة من محتواها العقائدي، وتقديمها كـ”مفاهيم من الماضي”.
إعادة تشكيل المشاعر العامة: تُزرع قناعة تدريجية، بأن مقاومة إسرائيل كانت سببًا في عزل سوريا ومعاناة شعبها، وأن “السلام” هو خلاص ضروري، لا خيارا سياسيا.
بهذا الأسلوب، لا يُطلب من الناس قبول إسرائيل صراحة، بل يُعاد تشكيل وعيهم، بحيث تختفي إسرائيل من موقع العدو أصلاً، ويُستبدل صراع طويل من العقيدة والهوية، بسردية “الاستقرار فوق كل شيء”
جماعات بلا موقف وسلام بلا روح
التطبيع السوري- الإسرائيلي لا يعيد تشكيل السياسة فقط، بل يعيد تشكيل البنية الذهنية والرمزية للإسلام السياسي. الجماعات التي نشأت على فكرة “الولاء والبراء” تجد نفسها أمام خيار صعب: هل تنهار؟ أم تتكيف؟ أم تُنتج نسخة هجينة، تدمج الدين في مشروع السلام الجديد؟… يبقى السؤال:
هل يبني الجيل القادم وعيه على قيم المقاومة؟
أم على قواعد سلام لا يحتاج إلى مواجهة… بل إلى صمت طويل؟
مصادر وابحاث
- مارك لينش، الإعلام العربي وصناعة الرأي العام بعد الربيع العربي، 2018.
- تقارير المرصد السوري للإعلام (2021–2024) حول تغير الخطاب الإعلامي الرسمي والديني.
- دراسة: “The Soft Normalization of Israel in Arab Media”, Arab Center Washington DC, 2021.
- فؤاد إبراهيم، “التحولات العقائدية في خطاب الإسلام الرسمي”، المجلة الدولية للدراسات الإسلامية والسياسية.
- تقرير هيومن رايتس ووتش (2022): “الخطاب الديني الموجه في أنظمة ما بعد الثورة”.
- متابعة خطب الجمعة في دمشق –2024) – أرشيف وزارة الأوقاف (متاح على موقعها الرسمي جزئيًا).