لا جديد في إعادة تشكيل الشرق الأوسط، المرة تلو المرة، حسب مصالح قوى الهيمنة الغربية، فهذا دأبهم القديم المستقر منذ اشتعل الصراع بين الروس والإنجليز والفرنسيين في النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ للسيطرة على موارد وخيرات الهند، وما يستلزم ذلك من السيطرة على الشرق الأوسط كضرورة حتمية لضمان الوصول إلى الهند، ثم ضمان البقاء فيها، ثم ضمان الحركة منها وإليها، وقد عُرف الصراع في تلك الحقبة باسم اللعبة الكبرى.
ثم في القرن التاسع عشر، وقع الشرق الأوسط لكافة أشكال السيطرة الغربية سواء سيطرة اقتصادية من خلال الامتيازات الأجنبية وتعاقدات المشاريع والاحتكارات التجارية، مثلما حدث في إيران القاجارية ومصر الخديوية، أو سيطرة عسكرية من خلال احتلال مسلح صريح، مثلما فعل الإنجليز في مصر، ومثلهم سبق الفرنسيون لاحتلال الجزائر ثم تونس. ثم في وقت متأخر توحدت ألمانيا، وتوحدت إيطاليا، وبدأت كلاهما تزاحم للفوز بنصيب في استعمار بلادنا، الألمان وجدوا ثغرة من خلال علاقاتهم الوثيقة بالسلطان العثماني، فحصلوا على مشاريع بناء السكك الحديد، والطليان عبروا المتوسط واستعمروا ليبيا.
وانتهت هذه المرحلة عند خاتمة النصف الأول من القرن العشرين، حيث قرر الانجليز الخروج من الهند بعد تقسيمها وحقنها بحقنة عداوة مسمومة، سوف تستمر إلى الأبد، تشعل الصراع بين الهند والباكستان والبانجلاديش، كذلك قرر الإنجليز الخروج من الشرق الأوسط، فعقدوا اتفاقاً للجلاء عن مصر مع حكومة إسماعيل صدقي 1946م، عطلته صراعات الأحزاب المصرية، كما قررت الخروج من فلسطين، وقد مهدت الطريق كاملاً لتقسيم فلسطين 1947، ثم قيام الدولة الصهيونية 1948.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، كان الشرق يواجه أمرين مترابطين: أفول قوى الاستعمار الأوروبي، وأفول تجارب التحديث الديمقراطي، ونماذج التنمية السياسية والاقتصادية المجلوبة من الغرب، وهنا كانت القوة الصاعدة الجديدة، وهي أمريكا تستعد لاستلام الوصاية على الشرق الأوسط والإحلال محل قوى الاستعمار الأوروبي الآفلة، تم التسليم والتسلم بسهولة نسبية من خلال عدة انقلابات في سوريا وإيران ومصر وغيرها، حيث تولت الانقلابات القضاء الكامل على الطبقات السياسية التي ناضلت، أو هادنت الاستعمار الأوروبي، فكلتاهما سواء من ناضل أو من تهادن، كانوا من الذين تلقوا التعليم والفكر والثقافة والسياسة من مدارس وجامعات أوروبا في عواصمها ومدنها الكبرى، أو في مدارس وجامعات وطنية، تأسست على النموذج الأوروبي، بدأ العهد الأمريكي بتخريب إيران، عندما تولت أمريكا مع بريطانيا تدبير الانقلاب العسكري الذي نفذته كوادر إيرانية ضد حكومة دكتور محمد مصدق الوطنية الثورية 1953، ووصل العهد الأمريكي إلى تخريب كامل للشرق الأوسط في ربع القرن الأول من القرن الحالي، بدأت أمريكا تخريبها للشرق الأوسط عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث بدأت بتخريب أفغانستان، ثم تخريب العراق، ثم تخريب العالم العربي وتفكيك الدول وتمزيق الشعوب، حتى باتت دول عربية مهمة تحكمها مليشيات متحاربة وفصائل مسلحة وأجيال من الإرهابيين الجدد الذين ظهروا، ولعبوا دورهم في الإرهاب في ظل التخريب الأمريكي للمنطقة، حتى وصلوا لحكم بلدان مهمة بكفالة أمريكا وضمانة تركيا وعدم ممانعة إسرائيل.
آخر تشكيل استعماري للشرق الأوسط، كان هو التخريب الأمريكي في السنوات من 2001 حتى 2025 من غزو أفغانستان حتى ضرب إيران، هذا هو آخر تشكيل تديره قوة غربية عظمى، وقد حقق المقصود منه على أكمل وجه، فالشرق الأوسط الآن ممزق مفكك فاقد للسلام الأهلي تعيس في حاضره غير متأكد من مستقبله، وهذا هو الوضع المناسب والملائم الذي يتم فيه نقل الوصاية على الشرق الأوسط من القيادة الأمريكية إلى القيادة الإسرائيلية، وهذا هو الجديد المختلف عن كل محاولات تشكيل الشرق الأوسط السابقة من الروس والإنجليز والفرنسيين في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، حتى التشكيل الذي يجري الآن في الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين، في المرات السابقة كان يتم تشكيل الشرق الأوسط بأيادي غربية لصالح قوى غربية، أما من الآن فصاعداً، فسوف يتم تشكيل الشرق الأوسط بأياد إسرائيلية وخطط إسرائيلية لخدمة مصالح إسرائيلية، بحيث تكون لإسرائيل السيادة التي كانت من قبل للقوى الاستعمارية الأوروبية ثم أمريكا، من الآن فصاعداً، وبالتحديد من اتفاقات إبراهام بين إسرائيل ودول في الخليج 2020، نحن لسنا فقط أمام شرق أوسط جديد، لكن أمام إسرائيل جديدة، وهذا هو التطور الأهم، إسرائيل الجديدة هي إسرائيل الكبرى على وجه الفعل والحقيقة، ليس كفعل جغرافي يستولي على أراض من النيل إلى الفرات، فليس هذا هو المقصود، لكن إسرائيل الجديدة هي إسرائيل الكبرى، بمعنى وصول هيمنتها ونفوذها وكلمتها على أكبر نطاق سياسي وتاريخي وثقافي وجغرافي ممكن في النطاق الأوسع للشرق الأوسط.
السؤال الآن: هل من الوارد فعلاً، أن يتحقق ذلك، فتكون لإسرائيل سيطرة على الشرق، مثلما كانت لأوروبا الاستعمارية، ومثلما كانت لأمريكا؟
هنا يلزمنا، أن نعرف أن الشرق الأوسط المعاصر لا يمكن فهمه، دون فهم الشرق الأوسط في العصور الوسيطة، كما أن الشرق الأوسط في العصور الوسيطة، لا يمكن فهمه دون فهم الشرق الأدنى القديم، وخلاصة الشرق الأوسط أو الوسيط أو الأدنى في كل عصوره، تقوم على حقيقيتين لا ثالث لهما:
1 – يتكون هذا الشرق من قلب ومحيط، قلبه جزيرة العرب وبين النهرين أو الهلال الخصيب والشام من الأناضول شمالاً حتى غزة جنوباً، أما محيطه فهو بلاد فارس، ثم بلاد الأناضول، ثم وادي النيل.
2- منذ عُرف هذا الشرق في تاريخ الحضارة الإنسانية والقيادة فيه للمحيط، وليس للقلب، قوى المحيط تتصارع من أجل السيطرة على قوى القلب، لهذا قوى القلب دائما في مواقع السيادة، وقوى المحيط دائما محل صراع وانقسام وتفتيت.
الاستثناء مما سبق: 1- حالة بلاد ما بين النهرين، فأحياناً تكون قوة قيادة مثل آشور وبابل، وهي نادرة، أو تكون قوة تابعة، وهو الأغلب من تاريخها، ودائما كانت محل صراع بين قوى السيادة في وادي النيل وفارس والأناضول. 2- ثم الاستثناء الثاني هو الجزيرة العربية عند مطلع القرن السابع الميلادي، حيث أشرقت أنوار الدعوة المحمدية، فأخرجت جزيرة العرب- لأول وآخر مرة في التاريخ- من التبعية والهامشية إلى السيادة والمركزية، لكن هذا الاستثناء لم يعمر طويلاً، فقد ذهبت السيطرة لقوى السيادة فارس، حيث البويهيين، ثم في مصر، حيث الفاطميين، ثم الأيوبيين، ثم المماليك، وعند مطلع القرن السادس عشر، كان الصراع على السيادة والقيادة بين الصفويين في فارس والعثمانيين في الأناضول، وكلاهما كان يفكر في ضم وادي النيل حتى يلتئم له زمام السيادة والقيادة كاملاً ، وكانت مصر المملوكية على وعي كاف بالخطرين الفارسي الصفوي والأناضولي العثماني ، كانت مصر المملوكية سيدة مصر والبحرين الأحمر والمتوسط والحجاز واليمن والشام، وكلاهما الفارسي والأناضولي، كان طامعاً في إمبراطورية الآخر وبالقدر الأكبر طامعاً في إمبراطورية المماليك ، ويوم خرج السلطان سليم الأول للغزو لم يكن قد حسم يبدأ بمن ؟ بالمصريين أم بالفرس؟ لكن تصادف أن علم باحتشاد المصريين في حلب، فقرر البدء قتالهم، ولم يفعل أكثر مما فعله رجب طيب أردوغان في غزو دمشق وتنصيب حكومة فصائل مسلحة موالية لتركيا، الخطة باختصار: قليل من القتال بعد شراء ذمم قيادات الجيش والقبائل والعشائر، واستمر الصراع بين قوى فارس وقوى الأناضول ثلاثة قرون، حتى خضعت كلتاهما للنفوذ الأوروبي الذي لم يتردد في إذلالهما معاً. مصر- وهي مغمضة العينين- كانت على يقين كامل، أنها خُلقت في مركز صراع حتمي، ليس لها مفر من أن تخوضه شاءت أم أبت، فكان عليها أن تحارب حتى تعبر الفرات شرقاً، كما تحارب من غزة حتى الأناضول شمالاً، هذه قاعدة ثابتة، عندما تغفل عنها، يأتيها سيد من خارجها، ينزع سيادتها، ويفرض عليها كلمته، هكذا استقر العرف السياسي من تحتمس الثالث، حتى صلاح الدين، حتى بيبرس، حتى محمد علي باشا، حتى جمال عبد الناصر الذي كان آخر من تحلى بوعي ناضج بهذه المعادلة.
إذن، إسرائيل الجديدة، هي مشروع ضد منطق الإقليم، فالشام لم يكن مركز قيادة عالمي إلا ضمن حالة الاستثناء التي خلقها زحف الإسلام من قلب الجزيرة، حتى بسط جناحيه في أقل من مائة عام على أفق غير مسبوق من السند شمال الهند حتى الأطلسي في المغرب وشبه جزيرة آيبيريا، العكس صحيح، الشام كان، وما زال محل صراع بين قوى الشرق القديمة، كما بات محلاً للصراع بين القوى الأوروبية، الشام المفتت دائماً وأبدا، لم يكن ولن يكون مركز قيادة آمن تنطلق منه السيادة التي تريدها إسرائيل الجديدة، يبدو لإسرائيل أن المزيد من تفتيت الشام- على مذهب المستشرق المؤرخ بيرنارد لويس- يضمن لها التفوق والسيطرة، وهذا صحيح وغير صحيح معاً، صحيح لأن هذه الشام المفتت لا يملك من أمر نفسه شيئاً، فقد نجح العثمانيون في أربعة قرون في تثبيت التركيب الإقطاعي والطبقي والمذهبي والطائفي والعشائري والقبائلي وترسيخها، بحيث بات من المستحيل تجاوزها دون مجازر وإراقة دماء، لهذا، هذا بعض ما فعله العثمانيون في الشام، ومثله فعلوا بالعراق، مما أعاق تشكيل دولة وطنية حديثة في الشام والعراق، فلو أردت بقاء يلزم الحكم بالحديد والنار ، ولو قررت الاستغناء عن الحديد والنار برزت عوامل التفتيت والانقسام من كل شكل ولون ، ثم بعد الحرب العالمية الأولى سيطرت فرنسا وبريطانيا على الشام والعراق وانتهجتا فيهما الاسلوب الاستعماري ذاته الذي انتهجه العثمانيون، العراق والشام في غيبة حكم قوي، يقبض على زمام الأمور، يظلان اختياراً ترضاه إسرائيل، ويخدم طموحها للهيمنة، خاصة أن الطريق طويل، بل مستحيل أن يحظى الشام والعراق، بحكم يجمع بين القوة والحرية، دولة قوية ومؤسسات ديمقراطية.
لكن هذا التفتيت ضار لطموحات إسرائيل بالمقدار ذاته الذي ينفعها ويخدمها، وأقرب مثال قريب هو تجربة محمد علي باشا ونجله القائد إبراهيم في غزو الشام 1831، إذا كان التفتت عنصراً حاسماً في تسهيل الغزو وتيسيره من غزة حتى الأناضول، لكن هذا التفتيت ذاته انقلب ضد الباشا ونجله، حين قررت أوروبا حرمانهما من تكوين إمبراطورية تقوض الإمبراطورية العثمانية، وتفتح ثغرة لمزيد من التوسع الروسي، وإذا استمر تلاعب أمريكا وإسرائيل وتركيا والإمارات وقطر والسعودية، بما في الشام من تفتت، فسوف يأتي يوم ينقلب عليهم جميعاً، وبالبداهة سوف تكون إسرائيل أول من يدفع الثمن، بما أنها تحتل من الشام موقعاً وسطاً.
حتى تسيطر إسرائيل الجديدة على الشرق الأوسط الجديد، يلزمها ضمان التحالف مع قوتين من الثلاثة: فارس، الأناضول، مصر. المؤكد، أنها في تنسيق مع تركيا لا يخلو من شد وجذب على النصيب من لحم الفريسة، ثم من المؤكد كذلك، أنها في حرب مع فارس، الوضع مع مصر مختلف، حيث: 1- سلام مصر مع إسرائيل لم يعد انفراداً ولا ميزة ولا غنيمة، فكل العرب- في الظاهر أو الباطن- في انجذاب غير عقلاني، يتهافتون للسلام، بسبب وغير سبب، انتهى زمان الهرولة ونعيش زمن التهافت. 2- حرب الإبادة الإسرائيلية ضد المقاومة، ثم حربها ضد لبنان وسوريا واليمن وإيران في وقت واحد، تزعج مصر وتقلقها وتستحث فيها روح الرفض الكامن. 3- مصر تفرق بين الحفاظ على السلام مع إسرائيل، وهو خيار استراتيجي ورفض هيمنة وسيادة وقيادة إسرائيل، وهو قرار وجودي حتمي، السلام مقبول والهيمنة مرفوضة. 4- مصر لا تأمن تركيا، وتحذر أشقاء الخليج، ولا تثق في أمريكا، وكانت، وما زالت ترى إسرائيل أكبر المخاطر وأخطر الأعداء. 5- مصر لا تفرق بين إسرائيل قبل السلام وبعد السلام، كما لا تفرق بين إسرائيل قديمة كانت أم جديدة.