لم يتوقع أحد، أن يتم بهذه السرعة الانتهاء من التصويت على قانون ذات بعد مجتمعي مهم، فبعد أن وجه رئيس مجلس النواب كلمته إلى مسئول الحكومة، بأنها غير جاهزة، جاء اليوم التالي؛ لتتم فيه كل خطوات المناقشة والتصويت على هذا القانون؛ ليصبح أمرا واقعاً، لا يتبقى له سوى موافقة رئيس الدولة لإصداره ونفاذه.
ومن هذا السياق القانوني، تحضرني مقولة للمستشار عبد الرازق السنهوري عن معيار الانحراف التشريعي، جاء فيها، أنه إذا قسنا الانحراف في استعمال السلطة الإدارية، لقلنا بأن المشرع يجب أن يستعمل سلطته التشريعية لتحقيق المصلحة العامة، فلا يتوخى غيرها، ولا ينحرف عنها إلى غاية أخرى، وإلا كان التشريع باطلاً، والمعيار هنا ذو شقين، ذاتي وموضوعي، والشق الذاتي يتعلق بالنوايا والغايات التي أضمرتها السلطة التشريعية، وقصدت إلى تحقيقها بإصدارها تشريعاً معيناً، والشق الموضوعي هو المصلحة العامة التي يجب أن يتوخاها المشرع دائماً في تشريعاته، وكذلك الغاية المخصصة التي رسمت لتشريع معين. واتجه الأستاذ السنهوري، بعد أن استبعد فكرة الغايات الشخصية في تصرفات السلطة، التشريعية، إلى تبني معيار موضوعي يتمثل في المصلحة العامة، التي يجب أن تكون هي هدف المشرع دوما.
فهل توجه مجلس النواب إلى استهداف المصلحة العامة في إصداره المتعجل لمثل هذا القانون، والذي يمس حقاً أساسياً من حقوق المواطنين، والمتمثل في الحق في السكن، أم أنه كانت هناك أغراضاً أخرى من وراء إصدار مثل هذا القانون، مستغلاً فيها قرب نهاية الدورة البرلمانية، وقبل فض مجلس النواب بأيام قليلة.
وإذا كان القانون يمنح مهلة انتقالية تصل إلى 7 سنوات للوحدات السكنية، و5 سنوات للوحدات غير السكنية، بهدف تمكين المستأجرين من توفيق أوضاعهم والبحث عن بدائل مناسبة، في محاولة للجمع بين تصحيح الأوضاع القانونية المتجمدة منذ عقود، ومراعاة الأبعاد الاجتماعية. فهل يمثل ذلك أمداً كافياً للمستأجرين، خصوصاً في ظل الزيادات التي أقرها القانون الجديد على القيمة الإيجارية خلال تلك المهلة الانتقالية، أم أن الأمر لا يخلو من دوافع غير معلنة وراء السعي نحو إصدار هذا التشريع بهذه الطريقة، التي لا أتعجب بشأنها، فقد اعتاد عليها الشعب منذ بداية أول دور انعقاد لهذا البرلمان، لكن الأمر هنا مختلف بخصوص المأوى وقدرة المواطنين على إيجاد بدائل أو البحث عن سكن بديل.
ويجد موقف الدولة بشكل أكثر وضوحاً، فيما تسنه من قوانين متعلقة بالحقوق، سواء ما كان منها فردياً أو جماعياً، إذ يتعين أن تكون الدولة ضامنة لممارسة الحقوق والحريات وحامية لحدودها ومحافظة على نطاقها، وأن ما تسنه من قوانين متعلقة بأي من هذه الحريات، يجب ألا تضيق من أطر ممارستها، أو تعوق التمتع بها أو بمعنى شامل، تصادرها أو تفرغها من مضمونها، ومثل هذه الاعتداءات، إذ أن كل هذه التصرفات تمثل اعتداءً على تلك الحقوق أو الحريات، ومثل تلك التجاوزات يصعب إيجاد حلول داخلية لها؛ لكونها تصدر عن السلطة نفسها أو أحد المسئولين المتنفذين فيها، وهي في الواقع قد تعبر عن فلسلفة النظام والسلطة القابضة على مقدرات الدولة. وهي تكاد أن تكون مبررة دستوريا وقانونيا من وجهة نظر السلطة الحاكمة.
ومن الناحية الواقعية، فإنه من المعلوم للكافة أن مصر من البلدان التي بها اتساع في الأسواق العقارية، بما يمثل فائضا عن الحد، أو عن الاحتياج ذاته، ولكن القدرة أو القوة الشرائية للمواطنين باتت ضعيفة في مقابل ارتفاع الأسعار المتوحش في هذا السوق، والذي لا يغيب عن أحد، أن الدولة أحد أطراف الصراع في هذا السوق، بكل ما تعنيه كلمات التسارع والتعاقد، وهو الأمر الذي زاد من حدة تعقيد وصعوبة التنافس في السوق العقاري، والذي على ما أظن هو أهم الأسواق التنافسية الموجودة في الحياة الاقتصادية المصرية، سواء من الدولة ذاتها، أو من القطاعات الأخرى، حتى صارت الدولة بما تنشئه من أبنية سكنية أو وحدات عقارية، لا تقل في حدة المنافسة عن السوق الخاص، وهو الأمر الذي يخل بأحد أهم مقدرات الدولة الدستورية، والذي يكمن في حمايتها، أو كفالتها لحق المواطنين في السكن المناسب، وهو الأمر الذي أنتج وفرة عقارية متمثلة في وحدات سكنية غير مأهولة، على مستوى القطاعات المختلفة المنتجة للعقارات.
فهل ما عرضته نصوص القانون، وما أكده البرلمانيون المروجون للقانون، من أن هناك وحدات سكنية بديلة للمستأجرين المتضررين من هذا القانون، ستكون بما يتناسب مع قدرتهم، أو بمثابة تعويض عن تركهم لوحداتهم السكنية، أم أن ذلك سيكون وفقا لمعطيات السوق، ووفقا للأسعار التي تتبارى فيها الشركات العقارية والمدن والمنشآت الحكومية الجديدة، بما يزيد من وطأة المشهد على ضحايا هذا القانون، إذ أن الحكومة صاحبة مشروع لقانون “كالعادة المتبعة” لم تبين أية قواعد في كيفية الحصول على السكن البديل للمستأجرين الراغبين في ذلك، كما أنه قد غاب عنها، أن تضع مبلغاً تعويضياً للمستأجرين في حالة رغبتهم في ترك الوحدات المستأجرة قبل نهاية المهلة المحددة، وهو من الأمور التي كانت واجبة النص عليها في هذا القانون.
وإذا كان القانون هو الوسيلة اللازمة لإقرار الأمن والنظام، كما أنه الوسيلة الضرورية لتحقيق التوافق بين الحقوق والمصالح المتضاربة، سواء بين المواطنين وبعضهم البعض أو بين المواطنين والسلطة الحاكمة، وذلك من أجل حماية سلامة الأفراد وممتلكاتهم والحفاظ على استقرار المجتمع ودوامه بشكل آمن. كما يسعى القانون إلى تحقيق العدالة والمساواة بين كافة طوائف المجتمع وكافة أفراده، ذلك بغض النظر عن منزلة المواطنين الاجتماعية أو مكانتهم أو وظيفتهم أو مدى ثرائهم وقوتهم الشخصية، حيث يجب أن تطبق قواعد القانون على الكافة دون أي تمييز، وهذا ما يضمن تحقيق الاستقرار المجتمعي والانسجام بين أفراد الجماعة. ومن هنا تبدو القيمة العليا لوجود القانون أو النظم القانونية، هو تحقيق العدالة بين المواطنين، ولتحقيق تلك العدالة المنشودة، لا بد وأن تراعي النظم القانونية حين وضعها من قبل الهيئة الاجتماعية المنوط بها وضع قواعد القانون، أن تبتغي في ذلك صالح الجماعة، ولا تحيد لتغليب فئة على فئة أخرى، وبمعنى أدق لا بد في واضعي القوانين، أن يتمتعوا بصفة الاستقلال وعدم الميل، بمعنى عدم خضوعهم لجهة ما أو لطائفة ما، إذ أن ذلك ما يسبب أن تكون النظم القانونية قد صممت لأغراض تحقق صالح الفئة الغالبة، وهو الأمر الذي يبعد بالقواعد القانونية عن أي مسميات للعدل.
سؤال، هل تستجيب مؤسسة الرئاسة للدعوات المجتمعية في إعادة النظر في إقرار هذا القانون، وتأجيله إلى دور قادم، تتم فيه المناقشة بشكل أكثر جدية، وبصورة أحرص على مصالح المواطنين، أم أن الأمر قد انتهى إلى غير رجعة.