إن الدعم الذي تقدمه أغلب الحكومات والمؤسسات الغربية لإسرائيل، والذي يوصف في كثير من الأحيان، بأنه “دعم سياسي وعسكري غير مشروط” لأفعالها، بما في ذلك إبادة غزة، ينبع من تفاعل معقد بين العوامل التاريخية والجيو سياسية والاقتصادية والأيديولوجية.
هو تفاعل بين الشعور بالذنب التاريخي والمصالح الجيو سياسية والعلاقات الاقتصادية مع صناعة الأسلحة والتحيزات الكامنة، مثل كراهية الإسلام والعنصرية المعادية للعرب.
تشعر العديد من الدول الأوروبية بـ “مسئولية تاريخية تجاه اليهود” وواجب “ضمان أمنهم” هذا الشعور قوي بشكل خاص في ألمانيا، حيث كانت التعويضات المالية الواسعة والدعم غير المشروط لإسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية مدفوعة بـ “الندم الأخلاقي”، والرغبة في “استعادة ‘المكانة الدولية’ لألمانيا” وتبرئة ذنب المحرقة. وقد أُطلق على هذا “التكفير بالوكالة: لماذا لم يرغب الغرب في منع الإبادة في غزة؟” لمشاركتهم في الإبادة الجماعية لليهود الأوروبيين.
الذنب التاريخي والتسامح الأخلاقي
إن الدعم غير المشروط الذي قدمته ألمانيا لدولة إسرائيل الفتية بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك التعويضات المالية الواسعة النطاق، لم يكن جزءاً من الندم الأخلاقي فحسب، بل كان أيضاً جزءاً من “حب السامية الاستراتيجي”- على حد تعبير أحد الكتاب- الذي كان يهدف إلى استعادة مكانة ألمانيا الدولية، وجعل إسرائيل “حصناً للغرب”، وقد حدث هذا حتى مع تخلي ألمانيا عن سياسات إزالة النازية.
يسلط ديدييه فاسان، وهو عالم أنثروبولوجيا وعالم اجتماع وطبيب فرنسي بارز، الضوء على “مفارقة مزعجة”، حيث يتهم المسئولون السياسيون الألمان أحفاد الناجين من الهولوكوست بمعاداة السامية، بينما يؤيدون الإجراءات في غزة التي يشبهها المنتقدون بخطة للتدمير. وقد انتقدت شخصيات، بما في ذلك مدير نصب ياد فاشيم التذكاري، استغلال ذكرى الهولوكوست لتبرير الرد العسكري وتبرئته مسبقًا.
الهولوكست وسنينه
تم استحضار الهولوكوست واستغلاله بطرق مختلفة لتبرير الإجراءات الجارية في غزة ولصرف الانتقادات عن سلوك إسرائيل.
في أعقاب هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ساد شعور واسع النطاق، وخاصة بين الإسرائيليين والعديد من اليهود في جميع أنحاء العالم، بأن الأمن الذي رأوه كان هشًا، مما أدى إلى اقتناع، بأن بقاء دولة إسرائيل ذاته كان في خطر. وقد استُخدم هذا التهديد الوجودي؛ لتبرير “حرب غير محدودة” ضد غزة، حيث تم تقديم موت عشرات الآلاف من المدنيين، باعتباره أمرًا لا غنى عنه للقضاء على المسلحين.
تستشهد بعض الحكومات الغربية، ولا سيما ألمانيا، بذكرى الهولوكوست باعتبارها “مسئولية تاريخية” لضمان أمن إسرائيل، وتؤطرها باعتبارها “سبباً للدولة”.
لقد وجدت الحكومة الإسرائيلية، أنه من المفيد أن تقدم نفسها كممثل ومدافع عن “العالم المتحضر” في المنطقة، وهو ما يساعد في تبرير أفعالها وتأمين الدعم الغربي.
إن انتقاد التدخل العسكري الإسرائيلي أو سياساته، غالبًا ما يؤدي إلى اتهامات بمعاداة السامية. تهدف هذه الاستراتيجية إلى “وصم” و”إسكات” أولئك الذين يرفضون التسامح مع المجازر، بما في ذلك الباحثون والمثقفون والطلاب والناشطون.
لقد تم تشبيه أعضاء حماس بـ “النازيين”، وتم تقديم هجوم السابع من أكتوبر، على أنه “هولوكوست جديد”، حتى أن بعض الشخصيات العامة ارتدت نجوم داوود الصفراء لترمز إلى هذه المقارنة. وهذا يضع انتقاد رد إسرائيل في إطار الهجوم على المعاناة التاريخية اليهودية، وبالتالي، في إطار معاداة السامية.
كانت هناك محاولة “لمراقبة اللغة” والفكر من خلال فرض مفردات محددة، تحدد ما يمكن وما لا يمكن قوله عن الصراع (مثل عبارة من النهر إلى البحر .. فلسطين حرة)، مع عواقب مثل العار العام، والنبذ، وحتى اتخاذ إجراءات قانونية ضد أولئك الذين ينحرفون.
يحذر المؤرخ الإيطالي إنزو ترافيرسو- كما أورد فاسان في كتابه الصادر بالفرنسية آواخر العام الماضي- من أن “حرب الإبادة الجماعية التي تُشن باسم إحياء ذكرى الهولوكوست، لا يمكن إلا أن تؤدي إلى الإساءة إلى هذه الذكرى وتشويه سمعتها، مما يؤدي إلى إضفاء الشرعية على معاداة السامية”. يضيف: “إن ربط هجوم حماس بمؤتمر وانسي [وهو مؤتمر عقده النازيون ١٩٤٢؛ لتنسيق وتوحيد الجهود لتطبيق ما أطلقوا عليه الحل النهائي للمسألة اليهودية]، وتجاهل عقود من العلاقات اليهودية العربية في فلسطين لتبرير تدمير غزة، يُنظر إليه على أنه “إعادة بناء خطيرة للتاريخ”.
يندد عالم الاجتماع الإسرائيلي إدجار مورين بـ”الدرس المأساوي للتاريخ” حيث يمكن لأحفاد المضطهدين أن يصبحوا هم أنفسهم مضطهدين.
لقد أدان علماء القانون (بما في ذلك المؤلف الرئيسي لتعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست)، والعديد من المنظمات (بما في ذلك المنظمات اليهودية والإسرائيلية)، والمتخصصون الأكاديميون في الدراسات اليهودية (من خلال إعلان القدس بشأن معاداة السامية)، الخلط بين انتقاد السياسة الإسرائيلية أو الصهيونية ومعاداة السامية. وتوضح هذه المجموعات، أن انتقاد إسرائيل على نحو مماثل، لما يُوجه إلى أي دولة أخرى، أو دعم الحقوق الفلسطينية، أو انتقاد الصهيونية كشكل من أشكال القومية أو العنصرية، أو الترويج للاحتجاجات السلمية ضد الدول، لا ينبغي اعتباره معاداة للسامية.
يرصد ديدييه فاسان “مفارقة” حيث يتم تبرير التنازل الأخلاقي من قبل الدول “باسم الأخلاق”، بحجة أن الضمير الصالح يقف إلى جانب أولئك الذين يدعمون العقاب الجماعي للفلسطينيين. وهذا يسلط الضوء على “انقلاب القيم” حيث يصبح الأساس الذي ترتكز عليه غير مستقر.
ندد الرئيس الناميبي بـ”المعايير المزدوجة” التي تنتهجها ألمانيا في تكفيرها عن الإبادة الجماعية التي ارتكبت بحق شعب الهيريرو، في حين تدعم أفعالاً يُنظر إليها، على أنها تعادل الإبادة الجماعية في غزة، كما حذر عاموس جولدبرج، وهو خبير إسرائيلي في الهولوكوست والإبادة الجماعية، في عام 2011 من كيفية امتداد الهيمنة الاستعمارية إلى جرائم مروعة مثل، الترحيل الجماعي والإبادة الجماعية، مستخدمًا تمرد هيريرو [وهي انتفاضة كبري حدثت بين عامي ١٩٠٤ و١٩٠٨ في جنوب غرب إفريقيا] كـ”علامة تحذير مرعبة” لإسرائيل.
المصالح الجيو سياسية
وتتقاطع مصالح الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية مع مصالح العديد من دول الشرق الأوسط، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر والأردن.
ويهدف هذا التقارب إلى خلق سوق إقليمية كبرى، مما يستلزم تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وتشكيل جبهة مشتركة ضد إيران وحلفائها. اتفاقيات التطبيع المعروفة باسم “إبراهام” أحد ملامح هذه الشراكات، وهو ما يعني ضمناً “نبذ المشكلة الفلسطينية، بدلاً من حلها”.
تركز حكومة الولايات المتحدة في المقام الأول على علاقات القوة، وسط إعادة تشكيل التحالفات الدولية، وعودة الإمبريالية، وإحياء الأطلسية، وغالبًا ما تعطي الأولوية لهذه الأمور على السياقات التاريخية التي قد تكشف عن أوجه التشابه بين نشأتها ونشأة إسرائيل.
العلاقات الاقتصادية مع صناعة الأسلحة
إن أحد الجوانب المهمة التي غالبًا ما يتم تجاهلها في دعم إسرائيل، هو مساهمتها في صناعة الأسلحة العالمية واقتصاد الحروب.
الولايات المتحدة تقدم أكبر قدر من المساعدات لإسرائيل، بإجمالي 310 مليار دولار منذ عام 1946، مع تخصيص 99.7% منها للقطاع العسكري. تتطلب هذه المساعدة عادةً من المستفيدين شراء المعدات والخدمات العسكرية الأمريكية، مما يجعلها في الواقع بمثابة دعم للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي.
تمثل الحرب في غزة، على غرار الحرب في أوكرانيا، “موردًا رئيسيًا للشركات في هذا القطاع”، وتسمح باختبار المعدات والخدمات العسكرية في مواقف قتالية فعلية.
ومن الجدير بالذكر، أن ألمانيا زادت من تسليماتها العسكرية إلى إسرائيل عشرة أضعاف خلال عام بعد السابع من أكتوبر، في حين أوقفت دول غربية أخرى مثل إسبانيا وإيطاليا مبيعات الأسلحة.
كراهية الإسلام والعنصرية ضد العرب
إن العنصر الأيديولوجي المشترك بين الدول الغربية هو العداء تجاه المسلمين والعنصرية ضد الشعوب العربية، والتي تتجذر في التراث الاستعماري وما قبل الاستعماري.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، أصبح الإسلام مرتبطًا بالإرهاب، وأصبح المسلمون يشكلون خطرًا على الأمن الغربي، وأصبح العرب يشكلون تهديدًا للهوية الأوروبية. أدى هذا إلى انتشار الخطاب المعادي للأجانب، وسياسات حدودية أكثر صرامة (مثل “حظر المسلمين” في الولايات المتحدة)، وزيادة معاداة الإسلام.
إن هذا العداء يعزز التعاطف مع الحكومة الإسرائيلية ويدعم أفعالها ضد الفلسطينيين، حتى أنه يمتد إلى دول مثل الهند ذات السياسات المحلية المعادية للإسلام بشكل علني.
كما يرى بعض الباحثين، فقد ظهرت فكرة، أن “المسلمين هم اليهود الجدد” في العلوم الاجتماعية، مما يشير إلى أن معاداة السامية التاريخية في أوروبا قد حلت محلها الإسلاموفوبيا، حيث يؤثر انعدام الثقة والكراهية الآن على المسلمين بشكل أكثر أهمية من اليهود.
هناك تقارب بين اليمين المتطرف في أوروبا (الذي حل محل معاداته الأساسية للسامية هوس معادٍ للإسلام)، وقطاع من يهود فرنسا الذين يدعمون الأحزاب اليمينية علناً.
هذا السياق، حيث يربط الخيال الغربي الفلسطينيين بـ “وصمة عار ثلاثية- كعرب، وكمسلمين، وكممثلين من قبل أحزاب سياسية، تم وصفها سابقًا أو حاليًا، بأنها إرهابية”، جعل من الصعب سماع القضية الفلسطينية قبل السابع من أكتوبر، وأكثر من ذلك بعد ذلك، مما أعاق الدفاع عن بقاء الشعب الفلسطيني نفسه.
السؤال المطروح هو: كيف يمكن تبرير فرض الثمن (على الفلسطينيين)، مع أنهم لم يضطهدوا اليهود عبر التاريخ؟
وهذا يشير إلى الخلاصة المركزية في كتاب ديدييه فاسان وهي: أن موافقة الدول الغربية على “محو غزة” قد تكون بمثابة “تكفير بالوكالة” عن مشاركتها في الإبادة الجماعية لليهود الأوروبيين، حتى لو كان ذلك يعني السماح بـ”نكبة ثانية” على شعب قبل العالم تضحياته بالفعل.