كثيرة هي الأحاديث التي ربما سيتم تداولها بالمبادرة أو لتلقى رد فعل الناس في شأن ما يتردد عن تعديل دستور 2012 للمرة الثالثة قبل العام 2030، وهو موعد انتخابات الرئاسة. بالطبع فحوى الكلام هنا مرتبط بالمادتين 140 و226 من الدستور. المادة الأولى تحدد مدة الرئاسة في مصر بـ6 سنوات، لا تجدد إلا لمرة واحدة. أما المادة 226 فهي تضع ضمانات أخرى، سنشير إليها في حينها.

مناسبة الحديث هو ما ورد من كلام لأحد مذيعي برامج التلفزيون في حوار مع مذيع آخر، حول أهمية تعديل الدستور لغرض ترشح الرئيس عبد الفتاح السيسي لولاية أخرى، بعد تعديل دستور 2012 للمرة الثالثة. وهو الحديث الذي وصفه وزير أسبق إبان وزارة الببلاوي خلال الفترة الانتقالية عقب أحداث 30 يونيو 2013، والتي ترأسها الرئيس المؤقت عدلي منصور، بأنه “نفاق رخيص”.

ورغم إيجابية القيام برفع الحديث من المواقع الإلكترونية، بحيث لم يُعد له أثر اليوم، ما يُشير إلى أن الكلام غير مرضي عنه، وأنه ليس جسا -رسميا- للنبض كما يتصور الصائدون في الماء العكر، إلا أن ما قد يظهر التخوف أيضا، هو أنه لم يصدر أي تعقيب رسمي حوله، كما أن الكثير من المراقبين الذين انتقدوا الحديث، لم يعبروا عن ذلك النقد من حيث المبدأ، بل من حيث التوقيت!!

مدة الرئاسة في الدستور الحالي

والمعلوم أن مدة الرئاسة في دستور 2012 كانت أربع سنوات (مادة 133)، وأنه عندما جرى تعديل الدستور عام 2014، لم يجر أي تعديل على تلك المادة التي أصبح رقمها 140، اللهم إلا في المدة التي تبدأ فيها إجراء الانتخابات، فتحولت من 90 يوما إلى 120 يوما التي تسبق انتهاء الولاية الرئاسية.

عام 2019 جرى التعديل الثاني لدستور 2012، وقد طال التعديل المادة 140، إذ نصت الفقرة الأولى من تلك المادة (بعد التعديل)، على أنه “ينتخب رئيس الجمهورية لمدة ست سنوات ميلادية، تبدأ من اليوم التالي لانتهاء مدة سلفه، ولا يجوز أن يتولى الرئاسة لأكثر من مدتين رئاسيتين متتاليتين”.

 بناء على ما سبق، جرى كما يقال باللغة العامية “تصفير عداد المدة الرئاسية”. وصارت الحجة الرئيسة لهذا “التصفير” وقتئذ، أن الدستور عدل بتغيير مدة الرئاسة من 4 إلى 6 سنوات، لذلك لا مانع أن يترشح الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي للرئاسة القادمة، ويدخل السباق الرئاسي عقب انتهاء مدته الدستورية الثانية، وهي المدة التي تم تعديلها- وفق هذا التعديل- من2018- 2022 إلى2018- 2024. وبناء عليه أيضا، سيكون من الممكن ترشح الرئيس الحالي لولاية ثانية (في المدة التي تقرر أن تكون ست سنوات)، ومن ثم أصبحت مدة الرئاسة خلال الفترة من 2014- 2018، كأن لم تكن في حساب المدد. وبذلك ترشح الرئيس مرة أخرى لمدة ثانية/ ثالثة وأخيرة للفترة 2024- 2030.

لا شخصنة في مناقشات الناس حول مدة الرئاسة

ومهما يكن من أمر، فإن هذا الموضوع يناقش المدة الرئاسية وأمور متعلقة بالديمقراطية والتداول السلطة، ولا يرتبط على الإطلاق بأية أحاديث شخصية، أو أن مقصده هو النيل من أية مقامات ذاتية، أو تقييم أية أداءات أو سياسات. صحيح أن كل الشخصيات محل تقييم أداء، والجميع له جوانب إيجابية وأخرى سلبية، لكن هذا ليس هو المقصود هنا، وليس موضوعنا. المقصود هنا هو مناقشة المبادئ والأسس، وليس المقامات التي لا خلاف على وطنيتها وضمائرها وحسن نواياها، مهما ثارت تحفظات مشروعة على السياسات أو المسالك، أو كما يقول الأمام مالك عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم “كل يُؤخذ من قوله ويُرد إلا صاحب هذا القبر”.

ماذا حدث في عهد مبارك

إبان حكم الرئيس الراحل حسني مبارك، جرت استفتاءات رئاسية أعوام 1987و1993 و1999 وانتخابات تعددية عام 2005، خلال تلك الفترة كانت جوقة من المنتفعين من عهده تردد دوما، بأنه لا يوجد في البلد بطولها وعرضها من يحل محله. يومها يبدو أن الناس بدت تستحقر نفسها. كيف لا يكون بمصر من يتولى أمر الرئاسة بها، إلى هذا الحد أصبح البلد عاقرا أو عقيما عن إنجاب 0من يستحق أن يتولى منصب الرئاسة؟ المؤكد أن من كان يردد تلك العبارة في تلك الأيام، لم يقصد إلا إهانة مقام الرئاسة الرفيع قبل إهانة الشعب، لكونه بتلك العبارة يصفه، بأنه رجل فوق البشر وليس منهم، ناهيك عن أنها عبارة أيضا تصف الشعب، بأنه يخلو من الكفاءات والقدرات، وممن هم قادرون عن الذود عن الوطن.

الديمقراطية هي تداول السلطة وحرية الرأي

ولأن الديمقراطية تعني تداول السلطة، ولكونها ترتبط بتجديد الدماء، وعدم تكلس السلطة، فإنها تعني حتما التجديد. والتجديد هنا يعني منح الفرص لآخرين لتولي المناصب، لتوقع تحقيق أداء رشيد، وأن هذه المدد أتُفق على كونها محددة بعدد سنوات معينة، تنتهي مباشرة أو قابلة للتجديد لفترة واحدة، قد تكون متصلة أو غير متصلة وهكذا. هذا الأمر يعني بلا شك، أن هناك من هم لديهم بالضرورة أفكارا جديدة وبرامج، يريدون أن يحققوها، ومن ثم يقوم هؤلاء بطرحها أمام الناخبين، كي يختاروا منها، وتصبح هي منهاج وخرائط طريق، عليها سيُجدد لهم في مواقعهم لفترة تالية، أو يتم تنحيتهم، كي يحل غيرهم محلهم، ليأخذوا فرصهم، بشكل متكافئ ومتساوي، عبر انتخابات دورية، وبما ينفي أي اتجاه للنظام السياسي نحو التسلط والاستبداد واحتكار المواقع.

مجال عام منفتح

ما من شك أن التداول الذي سبق وذُكر آنفا، ينفي بالكلية أي حديث عن غلق المجال العام، أو أنه مجال مُوصد. هذا الأمر بالتأكيد ليس في غير صالح أي نظام سياسي. بعبارة أخرى، فإن الدولة التي يسعى نظامها السياسي، أن يُوسع من المجال العام، وأن تُوصف قراراتها بالرشادة، وأن يتمتع الناس فيها بحرية الرأي والتعبير، وبأن يُعبر الناس عن مواقفهم عبر صناديق الاقتراع، حيث تُجرى انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، هذا النظام لا يمكن له أن يروج لفكرة تجلط الدماء، أو عدم تداول وتداور السلطة بين الناس.

الدستور الحالي يروج بقوة لفكرة التداول

ومما لا شك فيه، أن الدستور الحالي يروج لفكرة التداول، بل أنه أشار بما لا يدع مجالا للشك، أن فكرة التكلس هي فكرة غير واردة للشارع الدستوري ومحطه الشعب الذي استفتى على دستور البلاد، ما يجعل أية مطالبة لتغيير تلك الأوضاع، لا تحتاج لتعديل الدستور، بل إلى تغييره كله. بعبارة أخرى، فإن فكرة البقاء والاستمرار في موقع الرئاسة وضعت في سياق الدستور كمبدأ فوق دستوري وغير قابل للتغيير أو التبديل، اللهم إلا بتغييره بأثره. دل على ذلك ما جاءت بعجز المادة 226 من الدستور الحالي، والتي أراد بها الشارع الدستوري ومن بعده شعب الناخبين المصريين الذين وافقوا بأغلبية 88,83% يوم 23 إبريل 2019 على التعديلات الدستورية، وهو “…. لا يجوز تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية أو بمبادئ الحرية، أو المساواة، ما لم يكن التعديل متعلقا بالمزيد من الضمانات”. وتلك العبارة، ربما تعني التعديل فقط لصالح المزيد من التداول ومزيد من التغيير، كأن تنخفض المدة الرئاسية، أو تصبح مدة واحدة، أو على الأقل تُترك الأمور دون تغيير لا بالزيادة وبالنقصان.

منصب يحتاج إلى رجل دولة ورجل أمن

ما من شك، أنه من وجهة نظر سياسية لا قانونية، قد يرى كثيرون، أن مصر في تلك الأوقات العصيبة هي أحوج ما تكون لرئاسة رجل أمن للبلاد، رجل ذو فكر استراتيجي، ومن ثم رجل ذو خلفية عسكرية. هذا الكلام وإن صح فهو لا يمنع التغيير، أو هو لا يهدف للتكلس، بل أن وجود مثل هذا النوع من الرجال كثير، فالمؤسسة العسكرية لمن يُحبذ هذا الرأي مليئة بالكفاءات، وناضجة بقدر يكفي للتنوع والتداول، وهو أمر على أي حال مرتبط بالإدارة وليس بالرئاسة بالمعنى الحرفي للكلمة. أي أن الدولة الرشيدة في العصر الحديث لا تدار من خلال “رئاسة” شخص، قدر أنها “تُدار” من خلال مؤسسات عديدة، وشخوص كثر متناغمين… والله المُستعان.