ينشغل الشارع المصري هذه الأيام بأزمة قانون إيجارات الأماكن السكنية الجديد، والذي أقره مجلس النواب المصري بتاريخ 2 يوليو، ولم يتبق، وفقا للقواعد الدستورية، سوى إرساله إلى رئيس الجمهورية لإقراره، ثم نشره، أو رفضه ورده مرة ثانية إلى مجلس النواب، ولكن قد انفض مجلس النواب، دونما أي خبر يؤكد ضمان إرساله إلى رئيس الدولة، أو يؤكد إصداره، بحسب قواعد النشر المقررة، وهو ما تؤكده أعداد الجريدة الرسمية المصرية.
ولكن المدهش، والذي لم يجد صدى كثيراً على الرغم من كونه أهم بكثير من قانون إيجارات الأماكن، هو قانون الإجراءات الجنائية، والذي انتهى مجلس النواب من مناقشته وإقراره قبل قانون الإيجارات بفترة طويلة، إذ انتهى منه في جلسة 28 من إبريل الماضي، وحتى فض الدور التشريعي لمجلس النواب، لا يوجد على الأفق، ما يشير إلى إصداره أو إقراره، لكن المحصلة النهائية لهذين القانونين، أننا أمام أزمة دستورية أو تشريعية لم يسبق للمجتمع المصري، أن تعرض لها خلال السنوات الأخيرة. ولكن حتى يكون حديثنا يضع نقطة ضوء أمام الجميع في هذه الأزمة الشائكة، فإنه لا بد لنا، وأن نتعرض للتنظيم الدستوري لهذا الموضوع، وتجري نصوص الدستور المصري كما يلي: إذ تبين أحكام الفقرة الأولى من المادة (١٢٣)، بقولها إنه لرئيس الجمهورية حق إصدار القوانين أو الاعتراض عليها. وإذا اعترض رئيس الجمهورية على مشروع قانون، أقره مجلس النواب، رده إليه خلال ثلاثين يوماً من إبلاغ المجلس إياه، فإذا لم يرد مشروع القانون في هذا الميعاد، اعتبر قانوناً وأصدر. وإذا رد في الميعاد المتقدم إلى المجلس، وأقره ثانية بأغلبية ثلثي أعضائه، اعتبر قانوناً وأصدر.
لكن هذا التنظيم الدستوري قد فاته الكثير من القواعد المتعلقة بإصدار القوانين، وهو ما يؤكد أن هناك خللا تشريعيا دستوريا في ذلك الأمر، ملخصه هو أن الشارع الدستوري لم يحدد أي مدى زمني، يجب على مجلس النواب إرسال القوانين خلاله إلى رئيس الجمهورية، وترك المجال مفتوحاً، وهذا على عكس العديد من النظم الدستورية، فمثلا تجد الدستور الإيطالي في مادته رقم 73، والتي تلزم إصدار القوانين خلال شهر من تاريخ اعتمادها من البرلمان، وهذا ما يعني أن البرلمان ملزم بإرسال القوانين فور إقرارها، وعلى أشد من ذلك أتى نص المادة 122 من الدستور البولندي، والتي تنص على وجوب إحالة القوانين إلى رئيس الجمهورية خلال سبعة أيام من اعتمادها.
ومن هنا، نجد الأزمة المصرية في قواعد إصدار القوانين، والتي تركتها دونما أي تحديد، ولكن يرى الفقه الدستوري، أن ذلك لا يعني ترك الباب مفتوحا بشكل فج دون مواربة، أو موائمة تشريعية، وهو ما أنتج الأزمة التي نحن بصددها حاليا، سواء تعلق الأمر بقانون الإيجارات أو بقانون الإجراءات الجنائية، فقد انفض مجلس النواب بدوره التشريعي، وصرنا على أبواب انتخابات تشريعية، دون أن نرى هذين القانونين، والذي أمضى فيهما مجلس النواب جلسات طويلة في مناقشتهما، وكانا محل جدل فقهي وتشريعي وسياسي واجتماعي بين الفئات المعنية بالموضوع، لكن في نهاية المطاف لم يتم إصدار أي منهما.
وحيث يلزم أن نؤكد على ضرورة، بل وحتمية نشر القوانين، ويدعم ذلك القول القاعدة القانونية التي تقرر “عدم الاعتذار بالجهل بالقوانين” ومؤدى هذا المبدأ، أنه لا يقبل من أي شخص أيا كان الاحتجاج لجهله بحكم القاعدة القانونية، حيث تمر القاعدة القانونية بعدة مراحل، حتى تصبح ملزمة للكافة، وحتى تطبق على جميع الأفراد المخاطبين بها، وتعتبر آخر مرحلة هي نشر القانون في الجريدة الرسمية، وبمجرد تمام إجراءات نشر القانون لا يجوز الاعتذار بالجهل بالقانون. وفي هذا المعنى قضت محكمة النقض بقولها:- “من المقرر أن الجهل بالقانون أو الغلط في فهم نصوصه لا يعدم القصد الجنائي، باعتبار أن العلم بالقانون وفهمه على وجهه الصحيح أمر مفترض في الناس كافة، وإن كان هذا الافتراض يخالف الواقع في بعض الأحيان، بيد أنه افتراض تمليه الدواعي العملية لحماية مصلحة المجموع، ولذا قد جرى قضاء هذه المحكمة، أن العلم بالقانون الجنائي والقوانين العقابية المكملة له مفترض في حق الكافة، ومن ثم فلا يقبل الدفع بالجهل أو الغلط فيه كذريعة لنفي القصد الجنائي”.
ومن هنا، فإننا أمام أزمة حقيقية، بغض النظر عن نوعية تلك الأزمة، سواء كانت نيابية أم رئاسية، لكنها في نهاية المطاف هي أزمة تشريعية دستورية، سواء كان ذلك من خلال ذلك الخلل البين في نصوص الدستور المصري، أو من خلال الممارسة الواقعية، فلا يوجد أحد يستطيع، أن يقرر متى تم أو يتم إرسال القوانين إلى رئيس الجمهورية، حتى يمارس صلاحيته الدستورية فيها، حتى ولو كانت الأعراف الدستورية والفقهية، تؤكد على ضرورة إرساله خلال أمد زمني معقول، يتناسب مع المدة الممنوحة لرئيس الدولة.
ولكن تزداد الأزمة تعقيداً وتشبيكاً، بعد أن تم فض المجلس، الذي قام بمناقشة هذين القانونين، ولم يتم نشرهما بالجريدة الرسمية على الرغم من مرور أو فوات المدى الزمني الممنوح لرئيس الدولة لإصدار القوانين.
ولكن ما زال حتى هذه اللحظة المجتمع المصري يبحث أو يراقب، متى يصدر أي من هذين القانونين، وكأن المجتمع صار في معزل عن سلطاته، أو أن السلطة لا يعنيها مراقبة القواعد الدستورية والسير على نهجها وخطاها، ومن زاوية الواقع، لا زالت الأمور تبدو أكثر تعقيدا، بخصوص أزمة قانون إيجارات الأماكن، خصوصاً بعد صدور حكم المحكمة الدستورية، والذي كان السبب الرئيسي في وجود مشروع جديد لقانون إيجارات الأماكن، فهل نشهد خلال الفترة المقبلة أزمة قضائية أمام المحاكم، منها ما يطالب ببيان موقف التشريع الجديد، من خلال المطالبة بإعمال القواعد الدستورية، أو منها ما هو مرتبط بالواقع والمتحصل في مطالبة البعض بتطبيق، ما يترتب على حكم المحكمة الدستورية، ونشهد زخما من القضايا تَعُج بين أروقة المحاكم.
وإذ أن الأمر لا يمكن أن يمر مرور الكرام، إذ لا بد وأن نُذكِر كافة المسئولين إلى وجود قواعد دستورية، تعد بمثابة العقد الاجتماعي الحاكم ما بين المواطنين وبين الحكام، كما أنه يؤكد على مدى خضوع سلطات الدولة للقانون وخضوعها لأحكامه، أم تضييعها لمنطوق نصوص الدستور ذاته، أم أن الأيام المقبلة ستأتي بجديد في هذه الأزمة الدستورية، والتي من وجهة نظري ستزيد الأمور تعقيداً فوق تعقيدها، سواء أصدرت الدولة هذين القانونين، أم امتنعت، أم تعللت بأن مجلس النواب لم يقم بإرسالهما إلى رئاسة الجمهورية.