من يمول آلة الحرب؟…. ومن يدفع الثمن؟ ولمن ستصوب الأسلحة؟
في خطوة وُصفت بأنها الأضخم منذ نشأة الدولة العبرية، أعلنت وزارتا المالية والدفاع في إسرائيل رفع الإنفاق الدفاعي ليصل إلى 120.5 مليار دولار على مدار عامي 2025 و2026، بعدما كانت في العام السابق 27,5 مليار دولار فقط، ما يعادل نحو 60 مليار دولار سنويًا..
هذه الزيادة ليست فقط تحوّلًا رقميًا، بل تعكس تغيرًا أعمق في عقيدة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وتحديدًا في فهمها لطبيعة المرحلة المقبلة: حرب ممتدة، متعددة الجبهات، ومتعددة الأبعاد.
فما الذي يدفع إسرائيل لمثل هذا القرار في هذا التوقيت؟
ومن أين تأتي بهذه الموارد؟
وما الثمن الذي سيدفعه الداخل الإسرائيلي في المقابل؟
وهل هذا التفوق المالي والعسكري الإسرائيلي له ما يوازيه في دول الجوار؟
إلى ماذا تشير هذه القفزة في الإنفاق الدفاعي؟
الرفع الكبير لا يأتي من فراغ. إسرائيل تعيش لحظة استراتيجية شديدة التعقيد:
الجنوب مشتعل في غزة دون أفق للحسم.
الشمال يواجه تصاعدًا في التهديد من حزب الله.
التصعيد قادم لامحالة في الضفة الغربية.
سوريا لم تعد ساحة صامتة بعد تحولات النظام وسيطرة قوى متعددة.
إيران تطمح لتعود بثقل أكبر داخل العمق العربي، من العراق إلى سوريا واليمن.
كل هذا يقود إسرائيل إلى بناء قدرة ردع متقدمة، واستعداد لهجوم محتمل. المبدأ الحاكم للمؤسسة العسكرية يبدو واضحًا هنا، “إما تفوق دائم وإما خطر حقيقي يهدد بقاء الدولة”.
مقارنة تاريخية– تضاعف غير مسبوق
خلال السنوات الخمس الماضية، حافظت إسرائيل على متوسط إنفاق دفاعي يتراوح بين 21 و27 مليار دولار سنويًا. ففي عام 2020، بلغ الإنفاق الدفاعي نحو 21.7 مليار دولار. ثم ارتفع تدريجيًا في 2021 إلى 22.5 مليار دولار، وفي 2022 وصل إلى 23.3 مليار دولار. أما في عام 2023، فقد ارتفع قليلًا إلى 24.5 مليار دولار، مدفوعًا بتوترات الجنوب والشمال. ومع بداية الحرب الحالية، ارتفع في 2024 إلى نحو 46.5 مليار دولار بزيادة قدرها 15% عن العام السابق..
الآن، تقفز إسرائيل إلى إنفاق قدره 120.5 مليار دولار موزعة على عامين فقط، مما يعني أن الميزانية تضاعفت بنسبة تفوق 110% مقارنة بالسنوات السابقة.
هذا الرقم، بحسب تقرير صادر عن معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام (SIPRI)، يُعد الأعلى منذ حرب عام 1967، ويُشير إلى أن إسرائيل باتت ثاني أعلى دولة في العالم من حيث نسبة الإنفاق الدفاعي إلى الناتج المحلي، بنسبة بلغت 8.8%، متجاوزة بذلك غالبية دول العالم، باستثناء أوكرانيا.
السؤال الأهم إلى أين تذهب هذه الأموال؟
رغم ضخامة الرقم، فإن توزيع الأموال داخل الموازنة الإسرائيلية ليس عشوائيًا، بل مُخطط بدقة وفق أولويات عسكرية واضحة، تتلخّص في أربعة اتجاهات رئيسية:
أولًا، تعزيز سلاح الجو، من خلال شراء دفعات إضافية من طائرات الشبح الأمريكية F -35، وتوسيع أسطول الطائرات المسيّرة، وتطوير الذخائر الذكية، مثل صواريخ “سبايس” ذات التوجيه الدقيق.
ثانيا: تطوير منظومة الدفاع الجوي، وتشمل مشروع شعاع الحديد، وهو أول سلاح ليزر دفاعي، يستخدم لاعتراض المسيرات وقذائف الهاون، إلى جانب تحديث وتوسيع نظام “القبة الحديدية” وتحديث الرادارات القادرة على كشف الأهداف الصغيرة بدقة عالية..
ثالثًا، الاستثمار في القدرات السيبرانية. إسرائيل تضخ مليارات في تطوير أنظمة التجسس والاختراق والذكاء الاصطناعي القتالي، وخاصة لصالح وحدة 8200 المتخصصة في الحرب الإلكترونية والهجمات السيبرانية، ولهذا الامر وقفة خاصة فيما بعد..
رابعًا، رفع عدد المجندين وإنشاء وحدات تدخل سريع، مع توسيع برامج الاحتياط والتدريب، استعدادًا لصراعات طويلة وغير نمطية..
من يموّل آلة الحرب الإسرائيلية؟ من يدفع ثمن كل هذا؟ “ما وراء المساعدات الأمريكية”
رغم أن الولايات المتحدة تظل الداعم المالي الأول للجيش الإسرائيلي، عبر مساعدات سنوية مباشرة تبلغ 3.8 مليار دولار، إلا أن هذه الأموال لا تكفي وحدها لتمويل طفرة بمثل هذا الحجم. لذا، تُموّل إسرائيل آلة الحرب الخاصة بها من خلال منظومة مالية أوسع، تشمل خمسة مصادر رئيسية:
أولها، عائدات صادرات الأسلحة. إذ تُعد إسرائيل من أكبر مصدّري السلاح عالميًا، وتبيع أسلحتها لدول مثل الهند وأذربيجان وفيتنام والمغرب، وتُعيد استثمار هذه العائدات في تطوير منظومتها الدفاعية..
ثانيًا، شراكات أمنية– تكنولوجية مع دول خليجية، خصوصًا بعد اتفاقات التطبيع. بعض هذه الشراكات يُموّل بشكل غير مباشر أبحاثًا وتقنيات، تُستخدم في مجالات مزدوجة (مدنية/ عسكرية)، مثل أنظمة المراقبة وتحليل البيانات..
ثالثًا، الاستثمارات الأجنبية في شركات الدفاع الإسرائيلية، إذ دخلت صناديق استثمار غربية وخليجية في شركات كبرى مثل Rafael وElbit Systems، ما يعزز من توسع الصناعات الدفاعية..
رابعًا، تمويل غير حكومي من يهود الشتات، عبر تبرعات مؤسسية ومنظمات مثل AIPAC، تُوجّه لبرامج الدعم اللوجستي لوحدات النخبة وتمويل الخدمات العسكرية.
وأخيرًا، الدعم الأوروبي غير المباشر، عبر برامج أبحاث تكنولوجية مدنية، تُشارك فيها إسرائيل، لكنها تُستخدم جزئيًا في تطوير أدوات أمنية.
من يدفع الثمن داخليًا؟
لتغطية هذه الزيادة الضخمة، قررت الحكومة الإسرائيلية خفض مخصصات قطاعات حيوية مدنية. أبرز القطاعات المتأثرة كانت التعليم، الذي خُفّض تمويله بنحو 1.2 مليار دولار، مما أدّى إلى تجميد تطوير الجامعات والمدارس.
أما قطاع الصحة، فقد شهد خفضًا بنحو 950 مليون دولار، ما أثر على قدرات المستشفيات وعدد الأسرّة المتاحة.
تم تقليص تمويل مشاريع البنية التحتية والنقل، بما يقارب 1.8 مليار دولار، ما أدى إلى وقف مشروعات للطرق وسكك الحديد. كما خُفّضت ميزانية الإسكان بـ1.3 مليار دولار، وتراجعت مشاريع الإسكان الاجتماعي. وفي الرعاية الاجتماعية، خُفّضت الميزانية بـ1.1 مليار دولار، مما أدى إلى تقليص إعانات البطالة ودعم الأطفال.
هذه الإجراءات تزامنت مع تحذيرات من المؤسسات المالية داخل إسرائيل. حاكم بنك إسرائيل، أمير يارون، انتقد هذه السياسة، واعتبرها غير متوازنة، مشيرًا إلى غياب الإصلاحات الهيكلية وارتفاع المخاطر على الاستقرار المالي.
كيف علّق الغرب على ميزانية الحرب الإسرائيلية؟
وسائل الإعلام والصحافة الأمريكية والأوروبية لم تصمت إزاء هذه الطفرة العسكرية.
وكالة رويترز وصفتها، بأنها “ميزانية حرب مفتوحة”، مشيرة إلى أن البرلمان أقرها وسط صمت سياسي نسبي، لكن مع قلق في الشارع والأسواق.
بلومبرج حذّرت من تهديد هذه السياسة للتصنيف الائتماني لإسرائيل.
فايننشال تايمز ركزت على البعد السياسي، قائلة إن الحكومة بقيادة نتنياهو تستخدم الميزانية لتعزيز التحالف مع اليمين الديني والمتطرف.
الجارديان نبهت، إلى أن إسرائيل تُعيد تشكيل اقتصادها ليُصبح أمنيًا أكثر منه اجتماعيًا، بما ينذر بانقسام داخلي حاد..
اما معهد ستوكهولم لبحوث السلام، فقد أشار إلى أن الانفاق الدفاعي الإسرائيلي في عام 2024 هو الأعلى منذ عام 1967 بنسبة نمو 65%عن سابقه، مما يجعله ثاني أعلى نسبة عالميا مقارنة بالناتج المحلي..
كيف يقف دفاع مصر والخليج أمام انفجار الإنفاق الإسرائيلي على التسليح؟
في المقابل، تبدو موازنات الدفاع في دول الجوار أكثر تحفظًا وواقعية.
السعودية، رغم أنها صاحبة أكبر ميزانية دفاع في الشرق الأوسط (نحو 80.3 مليار دولار في 2024)، إلا أن هذه الميزانية مستقرة، ولم تشهد قفزات مفاجئة، وتُشكل نحو 3% فقط من الناتج المحلي.
الإمارات، التي تتميز بتقنيات عسكرية متطورة، بلغ إنفاقها الدفاعي قرابة 20.4 مليار دولار، بنسب تتراوح بين 4% و5.6% من الناتج المحلي، وتركّز على التحديث النوعي، بدلًا من التوسع العددي..
قطر تنفق ما بين 9 إلى 10 مليارات دولار، أي نحو 2% إلى 3% من ناتجها، في إطار توسع تدريجي بعد الأزمة الخليجية..
أما مصر، فقد شهدت تراجعًا نسبيًا في إنفاقها الدفاعي، ليصل إلى نحو 2.5 مليار دولار فقط في 2024، بسبب الضغوط الاقتصادية وتراجع سعر صرف العملة المحلية..
ورغم أن مصر لا تزال واحدة من أكبر مستوردي السلاح في المنطقة، فإن تراجع الميزانية الرسمية يعكس حجم التحدي الاقتصادي داخليًا..
هذا التباين يُظهر، أن إسرائيل تُقاتل اقتصاديًا، كما تُقاتل عسكريًا. بينما توازن دول الخليج بين أمنها ونموها، وتواجه مصر معركة مزدوجة في الأمن والاقتصاد.
ختاما لكل ما سبق:
120 مليار دولار ونصف ليست فقط موازنة دفاع… بل هي إعلان مبطّن عن طبيعة الدولة الإسرائيلية الجديدة: دولة تسابق الزمن، مستعدة لكل السيناريوهات، لكنها في المقابل تُعيد تعريف الداخل… ليكون أداة لخدمة المؤسسة العسكرية.
تفوق عسكري بهذا الحجم يعني شيئًا واحدًا: إسرائيل تتجه نحو فرض معادلة جديدة بالقوة، توسع تدريجي.
المصادر:
- معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام (SIPRI)
- تقرير الإنفاق العسكري العالمي 2024
- البيانات التفصيلية لموازنات الدفاع
- رويترز– تقارير حول الميزانية الإسرائيلية 2025
- موافقة البرلمان على الموازنة
- تحذيرات بنك إسرائيل
- Financial Times
- التحليل السياسي لميزانية الحرب
- The Guardian– تغطية الحرب في غزة والميزانية الإسرائيلية
- Bloomberg– تأثير الموازنة على الأسواق والتصنيف الائتماني
- [تحليل مالي حديث– أرشيف داخلي]
- Defense One & IEMed– موازنات الدفاع الخليجية والمصرية
- المشهد الدفاعي في الشرق الأوسط
- تحليل الإنفاق الدفاعي شرق المتوسط والخليج