من المساعدات إلى البنادق
بينما كانت مصر تخوض واحدة من أصعب معاركها الدبلوماسية والإنسانية لإدخال المساعدات إلى غزة، كانت إسرائيل تُعدّ مسرحًا مختلفًا على الأرض:
مسرح يتجاوز شحنات الإغاثة إلى ميدان أكثر ظلامًا، حيث الفوضى مُخططة، والميليشيات تُزرع، والجوع يُدار، لا يُعالج.
ما أن تدخل المساعدات عبر معبر كرم أبو سالم، حتى تُجبر على التوقف في مناطق نزاع مكتظة، هناك لا تستقبلها مؤسسات، بل تُحاط بعصابات مسلحة، تفرض سيطرتها وتنهبها أحيانًا أمام الكاميرات.
وهكذا، تتحول شاحنة الحياة إلى **رمز للانهيار الداخلي**، ويصبح إدخال الطعام مشهدًا مدبرًا لإعادة تشكيل الداخل، وبالطبع ظهور هذه العصابات، ليس عشوائيا، بل نتاجا لعدة عوامل مركبة كغياب الرقابة المركزية داخل غزة؛ بسبب تدمير البنية التحتية وتضارب السلطات وبالطبع ضعف آليات التوزيع الدولية في ظل غياب الأونروا والحصار المقيت الذي يُحكم قبضته على كل شيء، وسمح بظهور قوى جديدة على الأرض، تتنازع السلطة والمكاسب، فظهرت العشائر مثل عشيرة الخلاص التي سرعان ما دخلت في تحالف مع الأقوى، وهم القوات الشعبية أو عصابة أبو شباب..
ظهور أبو شباب: من التهريب إلى القيادة الميدانية
ياسر أبو شباب، من قبيلة الترابين، اعتُقل سابقًا على خلفية قضايا تهريب وسلاح، لكنه خرج من السجن عقب قصف إسرائيلي، استهدف مرافق الاحتجاز في غزة في أكتوبر 2023.
لم يكن مجرد هارب، بل **خرج ليؤدي دورًا مُعَد مسبقًا**. فخلال أسابيع، شكّل ميليشيا مسلحة، تُدعى “القوات الشعبية”، وتلقّى دعمًا غير مباشر عبر تسهيلات إسرائيلية في مناطق رفح وخان يونس، دون اعتراض.
بحسب تحقيق نشرته صحيفة *The Guardian* في يونيو 2025، **اعترف أبو شباب في حوار نادر، بأن جماعته تتلقى تمويلًا غير مباشر من جهات خارجية**، وأن “ما يهمه هو حماية المجتمعات لا الأيديولوجيا”.
هذه العبارة المفتاحية، تكشف جوهر المهمة: **زعزعة حماس من الداخل عبر بوابة التجاذب العشائري والاحتياج المجتمعي**.
ميليشيات تُزرع… لا تُولد
ما يجري اليوم في غزة ليس ظاهرة جديدة، بل تكرار لتكتيك استخدمته إسرائيل مرارًا في مجتمعات أخرى.
كما صنعت جيش أنطوان لحد في جنوبي لبنان لتفكيك المقاومة الشيعية، وكما موّلت ميليشيات في الضفة لتفكيك نسيج الفصائل، ها هي تصنع في غزة **ميليشيا محلية، ترفع راية الحماية العشائرية مقابل الولاء**.
لا تعترف إسرائيل رسميًا بهذه الجماعات، لكنها تمنحها **المرور والسلاح والنفوذ**، وتتركها تتصارع مع حماس، بينما تراقب من بعيد.
والنتيجة: **انقسام داخلي مُفتعل**، وتحول السلاح من مقاومة الاحتلال إلى قتال الإخوة.
فوضى الإغاثة: حين تكون الشاحنة فخًا إنسانيًا
يُجبر الاحتلال الشاحنات على التوقف في مناطق غير منظمة حين دخولها على أطراف رفح وشرق خان يونس.
هناك، يتجمهر المواطنون تحت وطأة الحاجة، ويبدأ مشهد “التوزيع الذاتي”، الذي لا يُشرف عليه أحد سوى بنادق أبو شباب.
كل شيء مرصود بالكاميرات: جوعى يتصارعون على الطحين، أطفال يحملون الأكياس، فوضى تصنع مشهدًا، يريد الاحتلال للعالم أن يراه: “هكذا تُدار غزة بدوننا”.
لكن الحقيقة أن هذا المشهد المخطط بدقة، هو **فخ إنساني** لإذلال السكان، وإظهار الغطرسة الإسرائيلية وقدرتها على السيطرة على مقدرات أهل غزة، حتى النهاية..
السوق السوداء: هندسة اقتصاد الظل
لم تعد المساعدات في غزة مجرد طحين وعدس وأدوية. بل صارت عملة حرب، وسلاحًا يُستخدم لتقسيم الولاءات، وصناعة أمراء فوضى.
في مخيم الشابورة برفح، يُباع كيس الطحين المخصص للإغاثة بأكثر من 450 شيكل (حوالي 120 دولارًا)، رغم أنه شُحن من قبل منظمات إنسانية للتوزيع المجاني.
عبوة الزيت صارت تساوي راتب عامل ليومين. ورغيف الخبز الذي كان يُباع بنصف شيكل قبل الحرب، بات رفاهية نادرة، يُشترى بعشرة شيكلات أو أكثر إن وُجد أصلًا.
في السوق، لا أحد يسأل “كم السعر؟”، بل “لمن تتبع؟”. من لا يملك واسطة، لا يقترب. ومن يعترض، يُبعد بالقوة.
مرتزقة من “القوات الشعبية” يديرون المشهد: يحرسون المستودعات، يفرضون ضرائب غير معلنة على التجار، ويتحكّمون في حركة الشاحنات، بل ويُقررون من يحق له شراء الطعام.
من يرفض الدفع… يُمنع. ومن يعترض… يُهدد.
أصبح الطعام ترخيصًا للعيش، ومن لا يدفع، يجوع.
وفقا لتقارير الأمم المتحدة، سيطرت عصابة أبو شباب على أكثر من 100 شاحنة مساعدات في نوفمبر 2024، وأعادت بيعها أو احتجزتها مقابل ولاءات ودعم عشائري. لم يكن ذلك حدثا منفردا، بل تكرر مع كل دفعة مساعدات عبر معبر كرم أبو سالم. وفي كل مرة لا تتدخل إسرائيل، ولا تتحرك الشرطة العسكرية، مما يعزز فرضية التواطؤ المحسوب والنتائج كارثية: ملايين فى مراكز النزوح بلا طعام أو دواء، والمساعدات تباع بأرقام خيالية في السوق السوداء.
السوق هنا ليس فوضى عابرة… بل بنية مُنظمة. عائدات البيع تُضخ في شراء الأسلحة، وتمويل التجنيد، وضمان ولاءات محلية في الأحياء والعشائر.
الاحتلال يراقب ولا يتدخل. لا حاجة للسلاح، فاقتصاد الفوضى يُنجز المهمة: يقسّم المجتمع، يُضعف السلطة، ويخلق أمراء حرب، يتحدثون باسم الناس… ويسيطرون على الخبز قبل البندقية.
إنه اقتصاد من نار، لا يشعل فقط جوع الأجساد… بل يُحرق ما تبقى من نسيج غزة الاجتماعي.
المساعدات المنهوبة لا تُستهلك، بل تُخزن وتُباع بأسعار مضاعفة.
يُباع كيس الدقيق الذي كان من المفترض أن يصل للنازحين في الأسواق المحلية بسعر خيالي، تحت حماية عناصر القوات الشعبية.
وهكذا نشأ اقتصاد ظل داخل غزة، **يُدار بالرشوة والسلاح**، ويُوظف لتجنيد شبان مقابل المال أو النفوذ.
الاحتلال يعرف، ويترك السوق يتشكل، لأنه ببساطة: **يهدم مؤسسات حماس دون طلقة واحدة.
هندسة الجوع: الصورة أهم من الخبز
عمليات الإنزال الجوي لا تتم في مناطق آمنة.
بل تُسقط المساعدات عمدًا في مناطق نزاع أو حقول مفتوحة، يستحيل على المدنيين الوصول إليها.
البعض يسقط في البحر، البعض يُنهب فورًا.
الهدف؟ الكاميرا لا البشر**.
تُبثّ الصور عالميًا: طائرة تهبط، مدني يبتسم، طفل يركض نحو مظلة.
لكن الحقيقة تقول: غزة كانت تحتاج 600 شاحنة يوميًا قبل الحرب، واليوم **لا تصل حتى 50، نصفها يُنهب**، والباقي يُصور فقط من أجل الاستعراض أمام الكاميرات والميديا العالمية.
من يصنع البديل؟ حين يتحدث الأمي في وول ستريت جورنال
في واحد من أكثر المشاهد سريالية في مشهد ما بعد الحرب، نشرت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية مقالًا افتتاحيًا، يحمل توقيع ياسر أبو شباب، قائد ميليشيا “القوات الشعبية” في شرق رفح، يتحدث فيه بلغة سياسية ناعمة عن “المرحلة الجديدة”، و”الحكم المحلي المنبثق من الناس”، و”طموح الغزيين في تجاوز حماس”.
لكن المدهش في المشهد لم يكن مضمون المقال، بل كاتبه. فأبو شباب، المعروف بأنه زعيم ميليشيا وي أُمي لم يُعرف عنه أي نشاط سياسي أو ثقافي سابق، يظهر فجأة من قلب الفوضى ليكتب في واحدة من أعرق الصحف الغربية عن “إرادة الجماهير”، متقمصًا دور المفكر والمنقذ، في خطاب يكاد يُعاد تدويره من كراسات العلاقات العامة لا من أحياء رفح.
هذا التناقض بين حقيقة الرجل وخطابه المطبوع، ليس تفصيلًا عابرًا، بل نافذة على ما يُدار خلف الكواليس: كيف يُصنّع “البديل المحلي” على عجل، ويُطعّم بملامح عشائرية وأمنية، ثم يُسوّق دوليًا بوصفه “صوت الداخل”. فميليشيا “القوات الشعبية” التي ظهرت فجأة في مايو 2024، وسط دعم غير معلن من الاحتلال، باتت تملك معبرًا، ومخزنًا للمساعدات، ومساحة خطابية في الإعلام الدولي وهكذا، يصبح الأميّ كاتب رأي، وتتحول الميليشيا إلى مشروع سياسي، وتُدار غزة لا بحكم الناس، بل بإعادة تدوير الخراب تحت عناوين إنقاذيه ملفقة.
..
حماس والضغط الميداني: معركة الجبهتين
تواجه حماس تحديًا غير مسبوق. فالميليشيات لا تُقاتل على الجبهات، بل **تخترق المجتمع من الداخل**.
وفي مايو 2025، تحركت وحدة “سهم” التابعة لحماس، ونفذت عملية خاطفة، قتلت فيها 12 من عناصر أبو شباب، واعتقلت آخرين.
لكن المعركة لم تنته.
الاحتلال لا يتدخل، ويترك هذه الميليشيات، تعيد التمركز.
إنها **حرب استنزاف داخلية**، تمهّد لتفكيك النسيج المقاوم واستبداله بنموذج “المحارب المستقل”، الذي لا ينتمي لفكرة ولا لوطن، بل يصنع ميليشيا قادرة على الزعزعة والاستقطاب بقوة السلاح، وبسطوة الجوع على الموقف بجدارة، فيصبح الولاء لفكرة البقاء على قيد الحياة هي الأهم والأعلى صوتا، ويبقى الجوع على الأطراف، حيث تسيطر إسرائيل، فجميع هذه السرقات تحدث في المناطق الحدودية في زيكيم، وكف موراج، ورفح، هناك فقط يسمح بتجميع الناس، وهناك تقع عمليات القتل. أما في قلب غزة، حيث المخيمات ومراكز النزوح، فلا تصل المساعدات، بل يترك الغزيين لتجار السوق السوداء ليستكملوا خطة التجويع.
.تواطؤ الصمت: من غاب عن التغطية؟
استضافت الصحافة الأوروبية ياسر أبو شباب ليتحدث إلى العالم، فمن الوول ستريت جورنال إلى الجارديان البريطانية، مرورا بوكالة أنباء الأسوشيتد برس، صُدِر أبو شباب، ومن خلفه الصورة، على أنها قتال وتناحر داخلي في غزة على الغذاء وليست إسرائيل إذا من تمنع وتتعنت، في الوقت ذاته غاب الإعلام العربي عن الصورة، لم يحلل الظاهرة، ولم يسأل… من أين أتى أبو شباب ومن هم على شاكلته؟ من يدير الميليشيات؟ من يديرها؟ ومن يربح من بقائها؟
لم تُذكر الأسماء، ولم تُفتح الملفات.
السبب؟ الخوف من الاصطدام مع الأنظمة، أو ربما عدم امتلاك أدوات الاستقصاء الحقيقي.
لكن الصمت في هذه الحالة **ليس حيادًا… بل تواطؤا ضد الحقيقة**.
خاتمة: من يكتب مشهد النهاية؟
تُدار غزة اليوم بين فكي كماشة: الاحتلال من الخارج، والمرتزقة من الداخل.
المساعدات تحولت إلى سلاح، والعشائر إلى أداة للفرقة، والاقتصاد إلى سوق فوضوي.
السؤال الآن:
– هل تقدر غزة المنهكة على احتواء هذه النار؟
– أم أن إسرائيل تنجح من جديد في **هندسة الانهيار من الداخل**؟
– ومن سيكتب تاريخ هذه المرحلة؟ أهلها؟ أم صناعها؟
في كل الأحوال، ما يُطبخ في الظلام اليوم، سيحرق الجميع غدًا.
غزة الآن تجربة خطيرة.
جوع مدار.
مقاومة محاصرة.
ميليشيات صاعدة.
احتلال يراقب ويتلاعب بالجميع.
والأسئلة كثيرة.
من سيحسم هذا العبث؟
أم أن اسرائيل ستنجح مجددا في تفكيك الداخل الفلسطيني، وهو آخر ما تبقى بسلاح الحاجة والعشيرة؟
المصادر:
- The Guardian: “Abu Shabab and the Militias in Gaza”, 10 June 2025
- Associated Press (AP): “Israel’s Silent Partners in Southern Gaza”, May 2025
- Ynetnews: “Gaza Militia Leader Speaks Out”, June 2025
- تقارير OCHA عن المساعدات والمعابر
- بيانات داخلية لحماس– وحدة سهم
- شهادات محلية وصور تداولها نشطاء ووسائل مستقلة
- صفحة د. تيسير عبد– تقارير ميدانية وتحليل إعلامي
- Yasser Abu Shabab, “Gazans Are Finished With Hamas”, The Wall Street Journal, July 2025.
https://www.wsj.com/opinion/gazans-are-finished-with-hamas-commander-popular-forces-5d9a6345