في خضم الاعتداءات التي تشنها إسرائيل على مدى اثنين وعشرين شهراً بطول المنطقة وعرضها، يكرر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو القول إن ما تحققه بلاده من انتصارات يضع أسس نظام إقليمي جديد تماماً، تعيش فيه في أمان، متحررة من تهديد “الفاشية” التي تمثلها إيران ووكلاؤها: حركة حماس، وحزب الله، والحوثيين. نظام يقوم على أساس السلام من خلال القوة “Peace through strength“، أي دون دفع ثمن لإقامة علاقات سلام مع الدول العربية، ولا إلى تسوية للقضية الفلسطينية.

وقد تداولت وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية، ما ذكرت أنه تصورات ناقشها الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي ومساعدوهما في مشاورات هاتفية، جرت عقب انتهاء الحرب الإسرائيلية الإيرانية مباشرة، وأصبحت الهادي لتحركاتهما منذ ذلك الوقت، تناولت رؤية متكاملة تشمل صفقة- على مراحل- لوقف إطلاق النار في غزة، وتسليم الرهائن الإسرائيليين الأحياء والأموات، تؤدي إلى تسليم حماس لسلاحها، وخروج من تبقى من قياداتها من القطاع، واعتراف أمريكي بسيادة إسرائيل على أجزاء واسعة من الضفة الغربية، مقابل قبولها بمناقشة صيغة غير محددة لاستقلال فلسطيني، الأرجح ألا يصل إلى الدولة، كل هذا ضمن ترتيبات سلام شاملة، يتم في إطارها توسيع الاتفاقات الإبراهيمية بضم المملكة العربية السعودية ولبنان وسوريا، مع التوصل إلى تفاهمات مع الأخيرتين، لا تشمل الالتزام بالانسحاب إلى حدود 1967.

فما خلفية هذا الطموح وهذه الأفكار، وكيف أدت تفاعلات حرب غزة الكبرى بعد 7 أكتوبر 2023، وارتداداتها في لبنان وسوريا واليمن وأخيراً في إيران، إلى طرحها كمخططات واقعية على هذا النحو من جانب نتنياهو، وما هي المواقف المتوقعة للقوى الإقليمية، وباقي دول المنطقة تجاه هذه المخططات، وما شكل النظام الإقليمي الذي يمكن تصور أن ينتج عن كل هذا.

*      *      *

أفكار تغيير النظام الإقليمي في الشرق الأوسط على هذا النحو، ليست وليدة اليوم، وإنما بدأ بلورتها وطرحها في تسعينيات القرن الماضي، بالتوازي مع سنوات ما سمي بـ”عملية السلام”، وكرد فعل من معارضيها على الرؤية الإقليمية التي كانت تطرحها من ترتيبات تقوم على الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية وعلاقات سلام طبيعية بين دول المنطقة. كانت هذه الرؤية محل رفض اليمين المحافظ في إسرائيل وأمريكا، عندما كان معارضاً للقوى “الليبرالية” التي كانت في الحكم وقتها ممثلة في الرئيس بيل كلينتون في أمريكا، وإسحق رابين، وشيمون بيريزـ ثم إيهود باراك في إسرائيل. وقد كان التحالف اليميني، الذي كان رئيس وزراء إسرائيل الحالي نتنياهو أحد أهم مهندسيه، وراء صياغة الرؤية البديلة للنظام الإقليمي، مدعوماً من شخصيات نافذة في الحزب الجمهوري، وعلى رأسهم مجموعة المحافظين الجدد، والدائرة المقربة من جورج بوش الابن، حاكم تكساس وقتها، قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية. 

تلخصت تلك الأفكار في عدم جواز، أن تقيم إسرائيل علاقات سلام مع الدول المحيطة بها، ما دامت معرضة لتهديد قوى إقليمية تناصبها العداء، وأنه من الخطأ قبول مبدأ الانسحاب من الأرض التي تسيطر عليها، وقيام دولة فلسطينية؛ لأن هذا يضعف وضعها الاستراتيجي، ويعرض وجودها ذاته للخطر، كما أن قبولها تقديم أي تنازلات من هذا النوع تحت تهديد خصومها بالقوة، يشجعهم ويشجع غيرهم على المزيد منها. ومن هنا، فإن أي تسوية مستقبلية، ينبغي أن تنتظر، حتى يتم كسر شوكة هؤلاء الخصوم (آنذاك): العراق وإيران وسوريا وحزب الله وحركة حماس، وإخضاع منظمة التحرير الفلسطينية، وتعديل تصورات الدول العربية وقواها الرئيسية مثل، مصر والسعودية، ليفهموا أن السلام مع إسرائيل هو مكسب للجانب العربي، وليس هدية لإسرائيل، ينبغي أن تقدم مقابلاً له، أي إسقاط مبدأ “الأرض مقابل السلام” الذي قامت عليه معادلة التسوية في المنطقة منذ تبنتها الولايات المتحدة بعد حرب 1967، وتجسدت في قرار مجلس الأمن 242، ليحل محلها مبدأ “السلام مقابل السلام”.

بعبارة أخرى، فقد كان محور أفكار ما أطلق عليه وقتها “الشرق الأوسط الجديد” هو القضاء على قدرات أي طرف إقليمي، يختار تحدى إسرائيل ومحاولة استخلاص تنازلات منها، استناداً إلى امتلاكه قوة عسكرية، بحيث تقوم المفاوضات، وأي تسوية تنتج عنها، على أساس تفوق إسرائيل العسكري، وليس على أساس أي شكل من أشكال توازن القوى، وبالتأكيد ليس على أساس مبادئ العدالة والقانون الدولي وحقوق الإنسان، ولا على أساس الانسحاب من الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل.

بدأت إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، وضع هذا التصور موضع التنفيذ تحت حكم اليمين ممثلاً في آرييل شارون، في إسرائيل وجورج بوش الابن في الولايات المتحدة، من خلال اجتياح الضفة الغربية عام 2002، ومحاصرة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، حتى وفاته عام 2004، (التي تثور حول ملابساتها شكوك كبيرة)، وكذلك غزو العراق عام 2003، وحرب لبنان في 2006. إلا إن هذه التجارب انتهت إلى نتائج مختلطة. فرغم الآثار المدمرة للغزو الأمريكي للعراق، وقوة الضربات التي وجهتها إسرائيل إلى حزب الله وإلى لبنان، والضعف الكبير الذي لحق بمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية عقب إخماد انتفاضة الأقصى، ورحيل عرفات، فإن هذه الأحداث أظهرت حدود قدرة الولايات المتحدة وإسرائيل، لأن نتيجتها كانت صعود إيران وحلفائها وحركات أخرى متشددة، بينما كان رد الفعل الشعبي النهائي في الولايات المتحدة، وإلى حد ما إسرائيل سلبياً؛ بسبب ارتفاع التكاليف المادية والبشرية مع محدودية العائد.

*      *      *

مرت السنوات، ورغم التوتر وحالة العداء، فقد عمت المنطقة حالة من التوازن بين إسرائيل وخصومها، يتبادلان المناوشات والاشتباكات الصغيرة من وقت إلى آخر، لكن دون أن تنزلق الأمور إلى مواجهة واسعة من شأنها تغيير الوضع الاستراتيجي، وبدا أن واقعاً جديداً ترتاح إليه إسرائيل، ولا يضغط على خصومها يفرض نفسه. فقد توقفت عملية السلام، وتسرب الضعف إلى منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة في رام الله، وفتر نشاطهما في السعي إلى إقامة الدولة الفلسطينية. كما أن الحملة ضد إيران وحلفائها لم تتخذ شكلاً نشطاً يهددهم، رغم ما كسبته إسرائيل من نقاط في الساحة السورية بعد 2011، واستقر الحال لحماس في إدارة الأحوال في قطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وساد اقتناع بأن تطلعات الحركة انحصرت مع مرور الوقت في تثبيت حكمها للقطاع وتحسين وضع الحصار، بينما تسارعت خطوات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية التي تربطها بها معاهدات سلام، وهو ما اتسع نطاقه في ظل ما سميت بـ”الاتفاقات الإبراهيمية”، وازدادت حركة التجارة والاستثمار العربية الإسرائيلية، حتى أصبح موضوع النقاش الذي تنشغل به المنطقة هو توقيت وشروط انضمام المملكة العربية السعودية إلى الاتفاقات الإبراهيمية.

لكن هذا السطح الإقليمي الهادئ نسبياً في ظاهره، أخفى تحته عوامل غليان، ظلت تتراكم وتحتقن انتظاراً للحظة الانفجار، التي نعلم الآن، أنها كانت حتمية. فإسرائيل، بقيادتها وصفوتها السياسية اليمينية المتشددة، كانت تسعى إلى إغلاق ملف القضية الفلسطينية بتصفيتها نهائياً، وبناء شبكة علاقات إقليمية تقوم على وضع تهيمن فيه على المنطقة استنادا إلى قوتها، وتستفيد مما بها من موارد مالية كبيرة، خاصة في الخليج العربي، وتقدم نفسها للعالم، باعتبارها المركز الاستراتيجي والاقتصادي والحضاري للمنطقة، ويتيح لها في نفس الوقت، أن تتحيّن الفرص للقضاء على خصومها. وقد اقتنع قادتها، أن أولويتها الأولى، ومفتاح تحقيق كل طموحاتها، هو إقناع الولايات المتحدة، بأن تنضم إليها في توجيه ضربة قاصمة لإيران، تعلم أنها لا تستطيع القيام بها بمفردها.

على الجانب الآخر، وبينما كانت الضفة الغربية تخضع للسيطرة المزدوجة من أمن السلطة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، كانت غزة تتمتع بمساحة أوسع من حرية العمل؛ نتيجة اضطرار إسرائيل الانسحاب منها عام 2005، بعدما استعصت على سيطرتها، ورأت أن هذا يساعد على استمرار انقسام الحركة الوطنية الفلسطينية. وكانت هذه الحرية التي تمتع بها القطاع هي التي أتاحت لفصائل المقاومة الفلسطينية، أن تعد لعمل عسكري كبير؛ بهدف كسر هذا الأمر الواقع، وتذكير دول المنطقة والعالم، بأن هناك قضية تحتاج إلى حل، وبدون حلها لن يستقر الحال في المنطقة، ولن تنعم إسرائيل بالأمان. هذه هي الخلفية التي كانت وراء عملية 7 أكتوبر 2023، وما أعقبها من حرب إقليمية.  

والحقيقة، أن عملية 7 أكتوبر، بحجمها الكبير وتعقيدها البالغ وخطورتها الشديدة، هزت إسرائيل بعمق قد لا يدرك أبعاده الكاملة الكثيرون، خاصة في العالم العربي، حيث يُنْظَر دائماً إلى إسرائيل من منظور طغيانها وتجبرها وعدوانيتها، وليس من حيث شعورها بالهشاشة وعدم الأمن. أطلقت هذه العملية حالة من الرعب والاستنفار داخل إسرائيل، وقلقاً شديداً في الولايات المتحدة وعواصم أوروبية رئيسية مثل، برلين ولندن وباريس؛ خشية أن تكون بداية لهجوم سريع وعلى جبهات متعددة: حزب الله، وسوريا، وإيران، وربما قوى إقليمية أخرى، فتفقد إسرائيل توازنها، وتنهار قدرتها على الصمود تحت وطأة ما بها من عناصر هشاشة وضعف داخلي، فالتف المجتمع الإسرائيلي بكل قوة حول الحكومة والجيش، وسارعت الدول الغربية إلى تقديم كل أشكال التضامن، والدعم لإسرائيل عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً ومالياً.

إلا أن نتنياهو، وبعدما نجح في استيعاب الصدمة الأولى، وأمسك بزمام المبادرة السياسية والعسكرية، سارع إلى تحويل الموقف ليأخذ إسرائيل، والمنطقة إلى حرب أكبر وأوسع، تتخطى أهدافها كل ما عرفته المواجهات التي شهدها قطاع غزة، أو المنطقة في السابق. فقد اعتبر نتنياهو، أن ما حدث هو وقت تطبيق مقولة “إن في كل أزمة توجد فرصة”، وأن عملية 7 أكتوبر يمكن أن تكون سبيله إلى تحقيق مكاسب تاريخية لإسرائيل، ومكاسب له هو شخصياً، لإنقاذ نفسه من نهاية سياسية كارثية؛ بسبب مسئوليته عما جرى في 7 أكتوبر، وبسبب التحقيقات التي تجرى معه في جرائم جنائية سابقة، توشك أن تلقي به في السجون، ولتجعل منه- بدلاً من ذلك- أحد أعظم زعماء إسرائيل، وربما أعظمهم على الإطلاق.

فرغم أن إسرائيل لم تكن هي التي أطلق أول رصاصة، كان نتنياهو هو من يقوم بتحديد مسار الحرب، مستنداً إلى دعم داخلي وغربي صلب، ومعارضة داخلية ضعيفة منقسمة، ووضع إقليمي مواتٍ، لتتعدى هدف معاقبة حركة حماس وردعها، إلى القضاء عليها كلية، لإنهاء المعضلة الأمنية التي يشكلها قطاع غزة إلى الأبد، والانطلاق من ذلك نحو استكمال خطوات ضم ما يمكن ضمه من أراضي الضفة الغربية، وكذلك تنفيذ الخطط القائمة للقضاء على حزب الله، ومن ثم الانتقال إلى مشهد النهاية الدرامي بمهاجمة إيران، وجر الولايات المتحدة إلى تلك الحرب.

*      *      *

هذه هي الخلفية التي يتصور نتنياهو، أنها تتيح له فرصة إعادة صياغة الوضع الإقليمي، حسب رؤية إسرائيلية، أو ما يطلق عليه Pax Israeliana. فهل أصبح الطريق ممهداً لتحقيق ذلك، وهل تفتقد دول المنطقة القدرة والإرادة والفرصة اللازمين لمواجهة هذه الطموحات الجامحة، ليكون لها كلمتها في صياغة شكل المنطقة ومستقبلها؟ هذا ما سأحاول التعرض له في الجزء الثاني من هذا المقال.

* سفير مصر السابق في إسبانيا.