دولة– “العلم والإيمان” لم تبدأ مع السادات، فمن اللحظة التي صعد فيها محمد علي مؤسس الدولة الحديثة إلى الحكم بمباركة شيوخ الأزهر، تأسس مبدأ غير معلن، لكنه راسخ في الوعي السياسي المصري: أن الحاكم يجب أن يظهر دائمًا في صورة “الرجل المؤمن”. لم تكن هذه المباركة مجانية، بل كانت مشروطة بمكانة الإسلام في شرعية الحكم. ومنذ ذلك الحين، أصبحت السلطة في مصر تعاني من فوبيا مزمنة: “تهمة قلة الدين” تطاردها.
هذه الفوبيا لم تكن فقط خوفًا أخلاقيًا، بل أزمة شرعية. فمن لا يُنظر إليه كـ”رجل يعرف ربنا”، تترنح صورته في وجدان المصريين، ويصبح فريسة سهلة لمزايدات الإسلاميين، الذين برعوا عبر العقود في اللعب على هذا الوتر.
الإسلاميون– من الإخوان إلى الجهاديين– فهموا اللعبة جيدًا. أطلقوا شائعات، تطعن في أصول الحكام الدينية. من “أم عبد الناصر يهودية”، إلى أن “السيسي تربى في مدارس الفرير”، وكلها رسائل هدفها ضرب الشرعية الأخلاقية والدينية للحاكم، في مجتمع تم اختطاف معيار “التدين” فيه لصالح فصيل واحد.
عبد الناصر.. إسلام تقدمي لكنه لا يكفي
رغم صراعه الدموي مع الإخوان، لم يرد عبد الناصر، أن يظهر كعدو للإسلام، فأنشأ إذاعة القرآن الكريم، وحوّل الأزهر إلى جامعة، وعين شيخ الأزهر بقرار جمهوري. بل وابتكر مصطلح “الاشتراكية المتوافقة مع الإسلام”، في محاولة للتوفيق بين الحداثة والتدين.
ورغم ذلك، لم يسلم من اتهامات “الشيوعية” و”العداء للإسلام”.
السادات.. الرئيس المؤمن الذي اغتاله الإسلاميون
تعمد السادات، أن يتفادى تجربة ناصر، فأضاف المادة الثانية للدستور، وفتح الباب للجماعات الإسلامية، وقدم نفسه كحامٍ للعقيدة. لكنه في النهاية اغتيل على يد جماعة إسلامية رأته “مرتدًا”، لأنه– في أعينهم– وقع اتفاقية مع “العدو الصهيوني”، وقمع المتشددين.
مبارك.. تدين الدولة الأمني
أما مبارك، فاختار التوازن. سمح للخطاب السلفي بالانتشار، وأطلق قنوات دينية (مثل “الناس” و”الرحمة”)، واستخدم الأزهر كدرع سياسي. لكنه في كل أزمة دينية، كان النظام يتوتر، ويعود لتأكيد تدينه.
نتذكر جميعًا، ما حدث في عام 2000 عند نشر رواية “وليمة لأعشاب البحر”، حيث اندلعت مظاهرات طلاب الأزهر، وتمت مصادرة الرواية، وصدرت فتاوى تكفير ضد مؤلفها وناشريها، رغم أن الرواية أعيد نشرها ضمن سلسلة صادرة عن وزارة الثقافة نفسها.
حكم تفريق نصر أبو زيد عن زوجته وقضايا الحسبة وغيرها…
السيسي.. إعادة تدوير معركة الخطاب
ورث الرئيس السيسي هذه الفوبيا المتوارثة. فبعد الإطاحة بالإخوان، سعى لتقديم نفسه كـ”مؤمن مستنير”، أطلق مشروع تجديد الخطاب الديني، وتحدث كثيرًا عن “صحيح الدين”، لكنه لم يسلم من شائعات حول “أصوله الدينية”، واتهامات بأنه “فرعون العصر” أو “يحارب الشريعة”.
السلطة ورد الفعل الهستيري
في كل مرة يشتد فيها هجوم الإسلاميين، كما يحدث حاليًا مع دعوات التظاهر أمام السفارات، تتحسس السلطة “البطحة”، فترد برد فعل هستيري: تشديد الرقابة، خطب دينية رسمية، حملات إعلامية دعائية… في محاولة إثبات أنها “حامية حمى الدين”.
لكن هذه المبالغات لا تنفي الاتهام، بل تؤكده، وتُعيد إنتاج الخطاب المتناقض بين الحداثة والتقليد، وبين الانفتاح والسيطرة.
المشهد الجديد: التيكتوكرز والبلوجرز قادة وصانعو رأي شئنا أم أبينا
اليوم، لم يعد قادة الرأي مذيعي القنوات أو كتاب الصحف فقط، بل أصبحوا “البلوجرز” و”التيكتوكرز”. هؤلاء– شئنا أم أبينا– باتوا يملكون قدرة التأثير، وباتوا بدائل عملية للإعلام الرسمي. تجاهلهم أو السخرية منهم، ليس حلًا او ملاحقتهم، بل استعلاء نخبة، لم تعد تملك أدوات الواقع.
لو كنت في موقع القرار…
لو كنت في موقع صنع القرار، لما دخلت في معارك عبثية ضد هذه الظواهر، بل كنت سأفكر:
كيف يمكن ضبط وتوظيف أدوات الإعلام الجديد لخدمة الدولة والمجتمع؟
كيف أستفيد من هذه الطاقات والقدرات، بدلًا من مقاومتها بتوجس أمني؟
كنت سأخرج من عقدة “يا راجل يا عديم الدين”، وأتجاوزها نحو خطاب عقلاني، حديث، وواثق من نفسه.