“المكان” أمام منزل العائلة بمنطقة مصر الجديدة، “الزمان” ظهر يوم حار في صيف 2017، تخرج “زينب” 32 عامًا، من منزلها قبل الموعد بنحو 10 دقائق، تقرر انتظار إحدى سيارات الأجرة التي تقلها يوميًا إلى منزل شقيقتها الكبرى بمنطقة حدائق الزيتون.
لا شيء مستحيل
وقفتها طالت هذه المرة لتأخر السائق، ما سمح لـ”محمد” 36 عامًا أن يتابعها لفترة أطول، حيث اعتاد على الوقوف بالقرب من مكان انتظارها ليراها يوميًا، دون أي هدف سوى رؤيتها من بعيد، فهو لا يستطيع فعل أكثر من ذلك، وليس بإمكانه حتى عرض مساعدته عليها، لأنه “أصم” مشكلته هذه جعلته يتابعها عن بعد لفترة طويلة، إلا أن تأخر السائق فتح طاقة من النور أمامه، حيث اضطرت “زينب” للتعامل مع أحد الباعة بالمكان، فتبين أنها هي الأخرى “صماء”، ولكنها ماهرة في قراءة لغة “الشفاه”.
يقول “محمد” إنه شعر وقتها بـ”كهرباء” تسري في جسده، وكأن العالم كله بين يديه، ولم يكن يتخيل يومًا أن الفتاة الوحيدة التي دخلت قلبه، والتي يتابعها مجبرًا في صمت لفترة طويلة، ولا يتمكن من الحديث إليها بسبب إعاقته، تحمل هي الأخرى نفس الإعاقة، وعلى الرغم من الفرحة العارمة التي انتابته، إلا أن سمة لفحة حزن ولدت بداخله كما يقول بشعور المحب: “تمنيت أن تكون زينب ناطقة ولا تعاني من أي إعاقة، فهي جميلة تستحق كل جميل”.
في أسبوع واحد كسر “محمد” حاجز الخوف بداخله، وحضر هو وأهله لخطبة “زينب”، بالرغم من عدم معرفته بحالتها الاجتماعية، مدفوعًا بشدة الشغف والحماس للقائها هي وأسرتها، ذهب مع والديه لمنزلها دون موعد سابق، وبعد جلسة امتدت لساعتين، تبين أن والدتها متوفية، وهي تعيش مع والدها الذي يخرج كل يوم لعمله باكرًا، وتذهب هي للجلوس لدى شقيقتها الكبرى بقرار من الوالد حرصًا عليها، فذلك أفضل من الجلوس في المنزل بمفردها.
وافقت “زينب” ووافق الأب بشكل مبدئي، معلقًا الموافقة النهائية على السؤال عن “محمد” في مقر عمله بقسم الإنتاج بأحد مصانع الغزل والنسيج.
بعد شهرين من هذه الزيارة، تزوج محمد وزينب، وهنا يأتي حديث “زينب” التي عبرت عن حياتها مع محمد بأنها “عوض من الله عن كل ما مضى في حياتها”، موضحة أنها لم تكن تتوقع في يوم من الأيام أنها ستتزوج، وهو ليس زواج فقط، بل ستتزوج من شخص يحبها بقدر حب زوجها لها.
عقب وفاة والدتها، ومع وصيتها الأخيرة لباقي الأسرة بالحفاظ على زينب ومراعاتها، كان الجميع يتعامل معها على أنها عنصر أساسي داخل المنزل لا يغيب، سوى للجلوس في منزل الشقيقة الكبرى طوال ساعات النهار لترعاها حتى يأتي الأب ويصطحبها لمنزلهما في المساء.
“محمد” جهز المنزل بما يساعدهما على التعامل مع صممهما، حيث ربط جرس المنزل بكهربة المنزل، أي أنه عندما يدق جرس المنزل تضيئ المصابيح وتنطفئ أكثر من مرة ليعلم الزوجان أن شخصًا قدم إليهما.
كذلك علمت “زينب” زوجها قراءة لغة “الشفاه”، كما علمها هو مراقبة إشارات المرور والاعتماد على الخطوط الموازية للرصيف خلال السير في الشارع، لتجنب التعرض لحادث، كما أنهما يساعدان بعضهما البعض في الأعمال المنزلية.
خلق الزوجان نظامًا لحياتهما لم يفقدا فيه الترفيه، فتتفق هواياتهما المفضلة معًا، وهي الرسم، حيث خصصا غرفة لممارسة تلك الهواية، كما كانت “زينب” تمارس رياضة “المشي” حول المنزل لمدة نصف ساعة يوميًا.
عيون القلب
“يا قومي.. أذني لبعض الحي عاشقةٌ، والأذن تعشق قبل العين أحيانًا.. قالوا بمن لا ترى تهذي؟ فقلت لهم الأذن كالعين توفي القلب ما كانا”.. ظننت للمرة الأولى عند قراءة أبيات الشعر هذه لبشار بن برد، رئيس شعراء العصر العباسي الأول، أنها مجرد كلمات خيالية، لرجل ولد كفيفًا، وتفوق في الشعر، إلا أن الحقيقة قد تغلب الخيال في بعض الأحيان، وهذا ما تخبرنا به في قصة “ماريان وأندرو” صديقي الطفولة، حيث ولدا كفيفين، جمعتهما مدرسة المكفوفين بالغربية، وتمت خطبتهما في عمر الـ 19 عامًا عقب إنهائهما المرحلة الثانوية، وتزوجا بعد 3 أعوام.
لا يعرف أحدهما شكل الآخر، لكنهما يعيشان في سعادة، تقول “ماريان”: “لم أعرف شكل القمر أبدًا، لكنني أسمع الكثيرين يقولون إنه جسم مستدير كبير لونه أبيض ويزين السماء ليلًا.. سعادة كبيرة تنتابني عندما يصفني أندرو بالقمر، رغم علمي أن كلانا لم ولن يره يومًا، إلا أن إحساسه يصل إليّ”.
أما “أندرو” فيقول “إنه بالرغم من ولادته كفيفًا، فهو يعرف ملامح “ماريان” جيدًا، يرى وجهها من خلال بحة صوتها بوضوح، يشعر بها حتى وإن كانت في مكان بعيد عنه، وكثيرًا ما يتصل بها وهو في عمله لشعوره بحدوث شيء ما لها، وعندما يتواصل معها يصدق إحساسه.
غيّر “مريان وأندرو” مضمون الثقافة الإنسانية في محيطهما بالغربية، فبالرغم من الصراعات بين الأهل في البداية بحجة أن كل منهما كان يريد لابنه أو ابنته شريكًا مُبصرًا، إلا أن العائلتين تصالحتا وتغيرت وجهة نظرهما بعد تأكدهما من نجاح علاقة “مريان وأندرو”، وقد مر على زواجهما عامان، مرت خلالهما حياتهما بشكل بسيط، يزداد حبهما عندما يجد كل منهما في الآخر الصفات التي كان يتمناها، حتى في علاقتهما الجنسية.
يقول “أندرو” إنه يشعر أن حياتهما أكثر جاذبية وسعادة من المبصرين.
اعتمد الزوجان على برامج التسجيلات الصوتية في التعامل مع بعضهما البعض عن بعد، كما جهزا منزلهما لتتيسر عليهما الحركة بداخله، فالأثاث قليل للغاية، والمنزل ممهد من الداخل بممرات تساعدهما على الوصول لكل الأماكن دون عناء، كما اهتما بوضع كل الأجهزة على وضع أعلى طبقة صوت حتى يتمكنا من معرفة كل شيء حولهما، فالتلفاز والغسالة وجرس الباب والهاتف كل شيء في وضع الصوت الأعلى المرتفع ليساعدهما على معرفة ما يحدث حولهما، ووضع جرس كبير بالقرب من أماكن الخطر يحدث أصواتًا مزعجة بمجرد الاقتراب منه، كالشرفات والبوتاجاز والسلالم وغيرها.
فاقد الشيء يعطيه
كرسي متحرك تجره سيدة عجوز تكاد تجر نفسها على استحياء، “توحيدة السيد” 72 عامًا، تدفع بالكرسي الذي تجلس عليه ابنتها “نجلاء” 27 عامًا داخل أحد المصالح الحكومية لإنهاء بعض الأوراق الهامة، يلتقيهما على السلم “نبيل” 25 عامًا، والذي يُنهي أمورًا متعلقة بأسرته، يلاحظ مجهود الأم في دفع الكرسي فيعرض المساعدة، توافق الأم، يصمم هو على توصيلها إلى خارج المبنى في رحلة استغرقت نحو نصف ساعة، ليس لسبب سوى لصعوبة حركة “نبيل” نفسه وهو يعتمد في رؤيته على عين واحدة، أما الثانية ففقدها في سن صغيرة.
يحاول “نبيل” طوال طريق الخروج أن يوازن الرؤية، وخلال الرحلة حصل على رقم والدة “نجلاء” ليتواصل معها بشأن أماكن بيع كراسي متحركة أسهل في الاستخدام، كما أنه انتبه إلى أن “نجلاء” لم تنطق بكلمة واحدة طوال هذه المدة.
بعد شهر من المقابلة الأولى جاء موعد اللقاء الثاني، في أحد متاجر بيع الكراسي المتحركة، رتب اللقاء “نبيل” ووالدة “نجلاء”، الظهور مختلف هذه المرة، حضرت “نجلاء “في كامل أناقتها، ترتدي ملابس جميلة، تفوح منها رائحة عطرة، لم يستطيع “نبيل” التزام الصمت معها هذه المرة، تطوع ببعض العبارات في محاولة منه لمعرفة عمرها واسمها الذي لم يكن يعرفه وبعض المعلومات عنها.
اتفق مع والدتها على زيارتهما في اليوم التالي مع الشركة التي ستشحن الكرسي، ومن هنا بدأ التعارف.
تمت الخطبة بعد اللقاء الأول بنحو 6 أشهر، وتزوجا بعد عام واحد، وقد كان كافيًا لتجهيز عش الزوجية، وبالرغم من امتلاك “نبيل” لأحد الشقق في البداية إلا أنه قرر تركها والبحث عن أخرى، حيث كانت في عقار بلا مصعد.
كغيرها من العلاقات بدأت بالرفض من قبل العائلتين بسبب الإعاقة، فأهل “نبيل” بخلاف اعتراضهم على عمر “نجلاء” التي تكبر ابنهم بنحو عامين، كانوا يرغبون أيضًا في شريكة لابنهم تتحرك، حتى تتمكن من إسعاده ومساعدته.
كذلك أهل “نجلاء” كانوا يعتقدون في البداية أن فقدان “نبيل” لإحدى عينيه سيكون عائقًا أمامه وأمام “نجلاء” في المستقبل، إلا أن التجربة أثبتت خطأ ذلك، فتزوج الحبيبان نهاية عام 2016، وأنجبا طفلة اختاروا لها اسم “تمارا” وهي لم تحمل إعاقة أي منهما، لكنها ورثت “خفة دم” الأم كما وصفها الأب، و”طيبة” الأب كما تراها الأم، فوفقًا لرؤيتهما، الحب الحقيقي دائمًا ما يكون غير مشروط، ولا إعاقة سوى إعاقة الروح، وما دون ذلك فالحب له طريقة وجمال خاص لا يعرفه إلا من مر به.