من انسحاب 2005 إلى فوضى 2025

حين أعلنت إسرائيل انسحابها من قطاع غزة عام 2005، بدا الأمر في أعين البعض خطوة جريئة نحو السلام، لكنها بالنسبة لآخرين كانت مجرد “إعادة تموضع”. في ذلك الوقت، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أريئيل شارون الخطوة بأنها “تحرّر لإسرائيل من العبء الديموجرافي” تحت مسمى فك الارتباط عن قطاع غزة، بينما عدّها مراقبون بمثابة تكتيك استباقي للفصل بين غزة والضفة تمهيدًا لإنهاء فكرة الدولة الفلسطينية.

واليوم، وبعد عقدين تقريبًا، تعود إسرائيل إلى غزة… ولكن ليس كقوة محتلة فحسب، بل كقوة تعيد تشكيل الوعي والواقع، وتفرض واقعًا جديدًا تحت مسميات إنسانية وأمنية وربما مستقبل مختلف للمنطقة بأسرها..

لماذا قد يصبح إعلان الاحتلال خيارًا “حتميًا”؟

منذ اندلاع حرب أكتوبر 2023، التي وصفها كثيرون بأنها الأعنف منذ عام 1967، أعلنت إسرائيل هدفها الرئيسي: تفكيك حماس واستبدالها بكيان محلي معتدل. لكن بعد مرور أكثر من 20 شهرًا على العمليات، فشلت كل محاولات فرض هذا الهدف.

المرحلة الانتقالية

السلطة الفلسطينية رفضت تولي إدارة غزة ما دامت تحت السيطرة الإسرائيلية، معتبرة ذلك “فخًا لتقويض شرعيتها الوطنية”.

الجهات الدولية– بما فيها الأمم المتحدة– فشلت في تشكيل إدارة مؤقتة.

المجموعات المحلية كـ “أبو شباب” و”مجلس الأعيان” فشلت في اكتساب أي شرعية شعبية حقيقية، وبدت وكأنها واجهات هشة مرتبطة بمصالح خارجية وتحت رعاية إسرائيلية والغزيون يدركون جيدا أنهم مرتزقة لا أصحاب قضية.

النتيجة؟ الفراغ السياسي والأمني تمدّد، ولم يبق أمام تل أبيب إلا أحد خيارين: إعادة احتلال مباشر (ولو بوجه ناعم)، أو مواجهة حالة فوضى مزمنة قد تجر المنطقة إلى اشتباكات إقليمية.

الاحتلال بوجه إنساني… وتمويل مباشر

في تقرير نشرته قناة “7” الإسرائيلية في 5 أغسطس 2025، تم الكشف عن تحويل 3 مليارات شيكل من ميزانية الدولة لتغطية “احتياجات سكان غزة”. ورغم أن هذا الرقم يُقدَّم كاستجابة إنسانية، إلا أن دلالاته السياسية والأمنية أعمق بكثير.

ما وراء التمويل:

العودة لتحمّل مسئوليات إدارة الأرض والسكان: وهو أحد التعاريف القانونية للاحتلال.

فتح الباب لمشاريع البنية التحتية: السيطرة على المياه، الكهرباء، شبكات الإنترنت، ونظام التعليم.

بناء سلطة موازية تحت الغطاء المدني: تسريبات أمنية تتحدث عن تشكيل “مجالس محلية مدنية” بإشراف إسرائيلي مباشر.

بمعنى آخر، إسرائيل لا تعود إلى غزة عبر الدبابات فحسب، بل عبر الميزانية والقوانين والإدارة المدنية تعود لتصبح كل شيء.

من يدفع فاتورة الاحتلال الجديد؟

دافع الضرائب الإسرائيلي

يُتوقع أن تتجاوز تكلفة الاحتلال السنوية 10 مليارات دولار، تشمل الغذاء، والصحة، والأمن، وإعادة الإعمار الجزئي. هذا الرقم مرشح للزيادة، خاصة مع تصاعد مقاومة شعبية تُلزم إسرائيل بالحفاظ على تواجد أمني دائم ومكلف..

الولايات المتحدة

تقدم واشنطن دعمًا سنويًا ثابتًا لإسرائيل بقيمة 3.8 مليارات دولار، ويُخشى أن يتحوّل هذا الدعم إلى غطاء مالي غير مباشر لاحتلال غزة.

في الكواليس، يعتقد بعض المحللين أن إدارة ترامب تتغاضى عن الاحتلال ما دام لا يُعلَن رسميًا حتى الآن، ولكن هل أعطت الإدارة الأمريكية الضوء الأخضر لفكرة إعادة احتلال غزة مع زيارة مبعوثها إلى غزة مؤخرا تحت ذريعة مراقبة الوضع الإنساني على الأرض، مايك هاكابى واخرون ممن لهم نفوذ داخل أروقة السياسة الأمريكية، دعمهم بلاشك لفكرة إعادة السيطرة على غزة يساعد في ضمان صمت واشنطن أو حتى مباركتها في حال حدوث إعادة احتلال جزئية وحين تتزامن هذه الزيارات مع تصعيد ميداني تخلق بيئة تبريرية مسبقة لأي قرار.

دول عربية “معتدلة”

تشير تسريبات دبلوماسية إلى أن بعض الدول مثل الإمارات والبحرين قد تساهم في تمويل مشاريع “إنسانية” في غزة، عبر كيانات مثل “GHF – Gaza Humanitarian Fund”.
الخطر هنا أن هذه المساهمات قد تُستثمر سياسيًا لتجميل الاحتلال تحت لافتة “تحسين الحياة اليومية للغزيين”

السؤال الأهم كيف يستقبل الفلسطينيون هذا الواقع الجديد؟

في غزة

رغم الإنهاك الناتج عن الحصار والحرب، يرفض غالبية السكان أي إدارة إسرائيلية مباشرة.
تنشط حاليًا خلايا مقاومة بأشكال مرنة، وتحوّلت بعض الأحياء إلى مناطق نفوذ جزئي لفصائل ميدانية.
مقابلات ميدانية مع شبان من غزة تقول: “لن نقبل أن نُدار ببطاقات هوية جديدة أو نقود جديدة. الاحتلال هو الاحتلال، مهما غيّر وجهه”.

في الضفة الغربية

المخاوف تتصاعد من أن يؤدي الاحتلال الجديد إلى تحطيم ما تبقى من الوحدة السياسية الفلسطينية.

بعض مدن الضفة، مثل نابلس وطولكرم، شهدت احتجاجات ضخمة ضد محاولات تطبيع الاحتلال في غزة، وخرجت شعارات: “غزة ليست للبيع”

كيف ترى الدول العربية عودة الاحتلال؟

مصر
القاهرة تعتبر أي وجود إسرائيلي على حدودها الجنوبية تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
تخشى من موجات نزوح جديدة قد تفتح الباب أمام توترات داخلية وسياسية.

رسميًا، ترفض مصر المشاركة في أي إدارة لغزة تحت إشراف إسرائيلي رغم طرح هذا من الداخل الإسرائيلي.

الأردن والسعودية

يخشيان من ارتداد الغضب الشعبي داخليًا، خاصة مع توسّع الاحتلال وغياب أفق لحل الدولتين.

الرياض، رغم تماهي بعض دوائرها مع خيار “ما بعد حماس”، ترى في الاحتلال طويل الأمد مأزقًا استراتيجيًا لا يخدمها.

قطر

تعارض الخطوة وتحاول تقليل الضغوط على حماس وتدفع في الوقت الحالي باتجاه إعادة الإعماردون تغيير وضعية حماس.

دول التطبيع

تتبنّى سياسة الصمت، وتغضّ الطرف عن الاحتلال، مع محاولة إبقائه “غير مُعلن رسميًا، الإعلام في هذه الدول يحاول تسويق فكرة “حل إنساني مؤقت”، لكنها تفقد صداها مع توالي مشاهد الدمار ورفض الفلسطينيين.

الاحتلال وتحديات القانون الدولي

وفق اتفاقية جنيف الرابعة، فإن الاحتلال المباشر يُلزم إسرائيل بتوفير الخدمات الأساسية، واحترام حقوق المدنيين.

في حال إعلان الاحتلال رسميًا، قد تجد المحكمة الجنائية الدولية نفسها مجبرة على فتح ملفات ميدانية تتعلق بالتهجير والإبادة الجماعية.

الاتحاد الأوروبي قد يغيّر موقفه، إذ لمّح بعض مسئوليه إلى أن “الاحتلال غير المعلن لا يُعفي من المسئولية القانونية”.

هل الاحتلال مجرد غطاء لمشروع أخطر؟

هنا تكمن المخاوف الحقيقية. الاحتلال قد لا يكون هو الهدف النهائي، بل مجرد أداة لتحقيق أهداف أخطر

التهجير الصامت: دفع السكان للهجرة الطوعية من خلال الضيق الاقتصادي والضغط الأمني.

تفتيت الهوية السياسية: خلق سلطات محلية موالية تُنهي فكرة المقاومة.

فرض أمر واقع طويل الأمد: بلا دولة فلسطينية، بلا أفق سياسي، فقط “إدارة سكانية بمعنى آخر، الاحتلال أداة للغلق النهائي لملف فلسطين”.

غزة “ستالينجراد القرن الحادي والعشرين”: صمود أم استنزاف متبادل؟

منذ بدايات حرب أكتوبر 2023، بدأت تظهر إشارات في الخطاب الإسرائيلي والإعلام الغربي إلى نموذج “ستالينجراد”، باعتباره مرجعًا لفهم طبيعة المعركة الجارية في قطاع غزة. ورغم ما تحمله المقارنة من أبعاد تاريخية كبرى، فإنها ليست مجرد استعارة بل تكشف عن تصور عسكري وسياسي يتعامل مع غزة كـ “مدينة معادية” يجب إخضاعها بالكامل، مهما كانت الكلفة.

معركة ستالينجراد خلال الحرب العالمية الثانية كانت واحدة من أكثر المعارك دموية في التاريخ، حيث دارت رحاها داخل مدينة سوفيتية محاصَرة، خاض فيها الجيش الألماني قتال شوارع شرسًا، منزلًا بمنزل، ضد مقاومة عنيدة في ظروف إنسانية مأساوية. المدينة تحولت إلى رمز للصمود والانهيار في آنٍ معًا: صمود السوفيت، وانهيار أوهام النازيين بالتوسع إلى الشرق. ويبدو أن هذا النموذج وجد طريقه مجددًا إلى تفكير بعض صناع القرار في تل أبيب.

في غزة اليوم، يمكن رؤية أوجه شبه صارخة مع تلك الحرب الحضرية القاسية. المدينة محاصرة، مدمرة في كثير من أحيائها، وتخضع لحرب متواصلة منذ شهور طويلة. العمليات الإسرائيلية تسير بمنطق “الاقتحام المتدرج”، حيًّا بعد حي، وشارعًا بعد شارع، في محاولة لفرض السيطرة الكاملة، دون أن تحقق هدفها النهائي: تفكيك حماس وإنهاء المقاومة المسلحة.

لكن، كما في ستالينجراد، لم يؤدِّ الحصار الطويل والدمار الشامل إلى كسر الروح المعنوية. بل على العكس، برزت أشكال جديدة من الصمود والمقاومة. الغزيون، رغم الإنهاك، لم يُبدوا أي استعداد للقبول بإدارة إسرائيلية مباشرة، والفصائل ما زالت تحتفظ بقدراتها الميدانية، وتتكيف مع أساليب القتال الحديثة داخل بيئة حضرية خانقة.

بعض المحللين الإسرائيليين وصفوا هذه الحالة بـ”فخ غزة”، مشيرين إلى أن الجيش بات يخوض حربًا بلا نهاية واضحة، في بيئة معادية، وسط أعباء لوجستية وإنسانية وأمنية تتزايد كل يوم. وتُطرح أسئلة صعبة داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية: إلى متى يمكن تحمّل هذا الاستنزاف؟ وهل يمكن النصر في معركة كهذه دون كسر تام، ليس فقط للمقاتلين، بل للسكان والمجتمع بأسره؟

في المقابل، يتبنى كثير من الفلسطينيين النموذج ذاته من زاوية معاكسة. غزة، في نظرهم، ليست مجرد ساحة حرب، بل “ستالينجراد عربية” صامدة في وجه آلة عسكرية متفوقة، لكنها عاجزة عن فرض إرادتها. وهنا تكمن المفارقة: الاحتلال يسعى إلى كسر الروح، لكن النتيجة قد تكون تعزيزها، كما حدث في ستالينجراد حين تحولت المدينة من نقطة انهيار إلى بداية نهوض سوفيتي كبير.

لكن هذه المقارنة تحمل أيضًا تحذيرًا خطيرًا. فمعركة ستالينجراد، رغم أنها انتهت بانتصار السوفيت، تسببت في مقتل مئات الآلاف من المدنيين، ودمار كامل للمدينة. واليوم، في غزة، تتكرر مشاهد المجازر، الجوع، انهيار البنية التحتية، ونزوح مئات الآلاف، دون أن تبدو نهاية واضحة في الأفق.

إن استحضار ستالينجراد لا يجب أن يكون تمجيدًا للصمود فحسب، بل إنذارًا بأن تحويل غزة إلى ساحة حرب لا تُحسم، قد يعيد تشكيل الصراع برمته – سياسيًا، وعسكريًا، وإنسانيًا. وقد تكون المدينة المحاصرة، كما كانت ستالينجراد ذات يوم، نقطة التحول لا في مسار الحرب فقط، بل في إعادة تعريف مَن يملك المستقبل في هذا الصراع الطويل.

من الاحتلال إلى ما بعده… إعادة كتابة الشرق الأوسط

ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد عودة إلى مربع الصفر، بل إعادة رسم لخريطة الصراع العربي–الإسرائيلي برمتها.

في هذا السيناريو، من لا يعارض الاحتلال، يتحوّل – صمتًا أو دعمًا – إلى شريك في تصفية القضية الفلسطينية.

فهل يُمكن للعرب، أو العالم، أن يدرك أن ما يُقدّم كحل “إنساني” مؤقت… قد يكون أخطر مشروع سياسي تشهده المنطقة منذ سايكس – بيكو؟


المصادر
تقارير القناة 7 الإسرائيلية (Channel 7 / Arutz Sheva):
• موقع القناة: https://www.israelnationalnews.com
• تمويل إدارة غزة أو تصريحات بتسلئيل سموتريتش.
. هآرتس (Haaretz):
• تغطية معمّقة حول الاحتلال، خطة “اليوم التالي”، والتكلفة الاقتصادية لإدارة غزة.
• https://www.haaretz.com
(Middle East Eye):
• تحليلات عن التهجير الصامت وسياسات إسرائيل طويلة الأمد.
“Is Gaza being prepared for permanent displacement?”
. الأمم المتحدة – أوتشا (UN OCHA):
تقارير شهرية عن الوضع الإنساني في غزة، وتقديرات الأضرار والاحتياجات.
https://www.ochaopt.org
مجلس العلاقات الخارجية (CFR):
مقالات تحليلية حول السياسات الأمريكية تجاه الاحتلال الإسرائيلي.
https://www.cfr.org


وثائق ومواثيق قانونية:
اتفاقية جنيف الرابعة (1949):
• تحدد التزامات قوة الاحتلال تجاه السكان المدنيين.
النص القانوني الكامل متوفر على موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر
https://ihl-databases.icrc.org/en/ihl-treaties/gciv-1949
قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بفلسطين:
القرار 242 (1967) و338 (1973): أساس فكرة “الانسحاب مقابل السلام”.
القرار 2334 (2016): يعتبر المستوطنات الإسرائيلية انتهاكًا للقانون الدولي.