عندما أراد شاه إيران، أن ينتقل من الديكتاتورية الصريحة إلى الديكتاتورية الرمادية، نصحه مستشاروه بتبني صيغة الرأي والرأي الآخر، والصوت والصوت الآخر، وأعاد لأجل ذلك هندسة المشهد السياسي في حزبين كبيرين، أولهما: يمثل دور الحكم، والثاني: يمثل دور المعارضة، ثم تجري انتخابات، يتبادلان فيها السلطة، لكن فطنة الشعب الإيراني لم تصدق، أن الديكتاتور يمكن أن ينقلب على نفسه بين عشية وضحاها؛ ليكون فجأة حاكماً ديمقراطياً واسع الصدر، يتحمل سماع الرأي المختلف مع سياساته وقراراته، كانت فطنة الشعب الإيراني من الذكاء الطبيعي، بحيث توقن أن الديكتاتورية الرمادية ليست أكثر من إعادة إنتاج الطغيان في ثوب جديد، ومثل كل الشعوب الشرقية، أوجزت روح الفكاهة والسخرية الإيرانية في وصف الفروق بين الرأي والرأي الآخر والصوت والصوت الآخر والحزب والحزب الآخر، بأنها مثل الفروق بين نعم ونعم يا سيدي!. 

من تمتع بالديكتاتورية، يستحيل أن يتحول من تلقاء ذاته إلى الديمقراطية، من تعود ألا يكون في البلاد غير صوته وأمره ونهيه، مستحيل أن يتنازل عن شيء من ذلك، ليس فقط لأن الطغيان بات مكوناً جوهرياً في تشكيل شخصية الطاغية وعقله وروحه وضميره وجهازه الفكري والعصبي ورؤيته للسياسة، بل وفلسفته للحياة، لكن لسبب موضوعي أكبر وأخطر: فالطغيان لسنوات طويلة يخلق معادلات اجتماعية اقتصادية سياسية نفسية، رفعت فئات من المواطنين إلى أعلى عليين، ويكونون في الغالب أقلية مقربة من دوائر الحكم، تحظى بالمنافع والامتيازات وتخفض إلى أسفل سافلين الطبقات ذات الأغلبية الساحقة من الشعب، هذه المعادلات تخلق مجتمع الطغيان ومؤسساته وثقافته، وتضرب بجذوره في الأرض، وتكون وظيفة الدولة ومؤسساتها هي حماية هذه المعادلات وضمان بقائها واستمراريتها؛ لأن هذا هو السبيل الوحيد لبقاء وأمان الطاغية ونظام حكمه والطبقات المنتفعة منه في الداخل والجهات الدولية التي يخدم مصالحها في الخارج. 

كانت تتحكم في الشاه عقدتان:

 1- عقدة رئيس الوزراء الوطني دكتور محمد مصدق– وهو النسخة الإيرانية من ثورية مصطفى النحاس، وثورية جمال عبد الناصر- فمثل النحاس باشا ضد طغيان فاروق والاحتلال، فكذلك وقف الدكتور مصدق ضد طغيان الشاه والمصالح البريطانية، لكنه تجاوز نموذج النحاس باشا، ورسم الطريق لنموذج عبد الناصر، عندما أصدر قرار تأميم البترول الإيراني من يد السطو الإنجليزي 1951، القرار الذي ألهم المصريين، وقرب المسافات بين نضال الشعبين المصري والإيراني من أجل الديمقراطية، وحكم الدستور والاستقلال والعدل الاجتماعي والكرامة الوطنية، ولم يكن قرار جمال عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس غير تتويج لنضال الشعبين وكافة شعوب الشرق ضد المزدوج الملعون: الطغيان في الداخل وهيمنة الأجانب على مقدرات الشعوب من الخارج. الدكتور مصدق- عبر إجراءات ديمقراطية- قلص سلطات الشاه إلى أدنى الحدود ووضع السيادة بين يدي الشعب الإيراني ومؤسساته الديمقراطية، تواطأ ضده الشاه مع الأمريكان مع الإنجليز مع جنرالات من الجيش الإيراني، وتمت الإطاحة به في انقلاب مشين 1953. ظهور نموذج قيادي وطني ليبرالي علماني ديمقراطي لديه نزوع استقلالي ومشاعر الكرامة الوطنية مثل، مصدق كان خطراً على طغيان الشاه، كما كان خطراً على الطبقات ذات الامتيازات، كما كان خطراً على المطامع الأجنبية التي تبتز خيرات البلاد، لهذا كان يمثل عقدة كبيرة مخيفة للشاه، حتى بعد أن أطاح به انقلاب الأمريكان والإنجليز وبعض الجنرالات، لكن العقدة لا تقتصر على رعب الشاه فقط من شبح مصدق جديد، ربما يظهر في أي لحظة، بل تكونت عقدة أخرى هي شكوك الشعب الإيراني في الأمريكان، وهي شكوك يشاركهم فيها كل ذي حس وطني في العالم لديه قدر كاف من فهم دروس التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان الأمريكان، ومازالوا يعيثون فساداً وخراباً في الشرق الأوسط. عقدة مصدق جعلت الشاه، يعتقد في قرارة نفسه، أن أي قدر من الديمقراطية والحريات السياسية، ولو بمقدار خرم إبرة، فسوف تتسلل منه رياح، تبدأ خفيفة لطيفة، ثم تصبح قوية عاصفة عنيفة، ثم تأتي بزعيم يهدد سلطات الشاه، لهذا قرر الشاه إغلاق كافة منافذ الديمقراطية بالضبة والمفتاح.

2 – العقدة الثانية، أنه بعد عشر سنوات من الحكم المطلق، نصحه حلفاؤه الأمريكان، أن يخفف من شدة قبضته، وأن يبدي قدراً من الاحترام لحقوق الإنسان والحريات العامة والحقوق المدنية، نصحه الأمريكان بذلك؛ لأن رائحة جبروته ملأت العالم، وأنها تتسبب لهم في حرج كبير، لا يستطيعون الدفاع عنه، وبالفعل جرب الشاه ديمقراطية، نعم ونعم يا سيدي، لكنها كانت الثغرة الضيقة التي تسللت من خلالها أصوات الشعب المظلوم، حتى بلغت ذروتها مع انفجار واحدة من أعظم ثورات التاريخ 1978 – 1978. الدرس التاريخي القاسي من هذه الملحمة: الشاه كان يخشى ظهور دكتور مصدق جديد، يقلص من سلطاته، احتاط لذلك بكافة أشكال القمع والقهر، ثم فاجأه التاريخ بظهور من هو أشد وطأة من مصدق، إذ ظهر له آية الله الخميني، الذي رفع رأسه برأس الشاه من 1963، حتى أزاح الشاه وأطاح نظامه إلى الأبد 1979. الشاه رفض مصدق الذي أبقاه فوق عرشه، فجاءه الخميني الذي زلزل عرشه من جذوره.

الشاه لم يكن بلا إنجازات، كانت له إنجازات على النمط الخديوي الإسماعيلي في مصر، مجهودات مشكورة لتحديث الكثير من جوانب الحياة في إيران، بما في ذلك سياسات الإصلاح الزراعي التي قلصت من نفوذ الإقطاع، وزادت من قاعدة ملاك الأراضي الزراعية، وكذلك تحديث التعليم والجيش وتعظيم قوة إيران في الخليج، لكن افتقد أمرين:

– افتقد الحرية، وحرم منها شعباً، افتتح القرن العشرين بواحدة من أعظم الثورات الدستورية في سبيل الحرية، ودولة القانون والحكم النيابي وتقييد طغيان الحكام من القاجاريين الذين كانوا يقمعون الشعب، ويهدرون ثرواته، ويفتحون البلاد أمام نهب الأجانب ومطامعهم، تاريخ إيران في القرن العشرين هو تاريخ النضال من أجل الحرية والاستقلال، كانت وظيفة الشاه هي تمكين أجهزة القمع من إسكات أي صوت وطني حر، لم تتورع أجهزته عن إنزال كافة العقوبات الخسيسة بكل إيراني شجاع كريم، يعلن رأياً مختلفاً عن أسطوانة الدعاية الرسمية، حصد الليبراليون الدستوريون، وكذلك فعل باليسار الشيوعي، فلم تتبق غير المؤسسة الدينية التي جاء منها طلاب الحوزات العلمية، وعلى رأسهم الخميني. 2- افتقد العدل الاجتماعي، فرغم سياسات الإصلاح الزراعي، ورغم زيادة قاعدة الملاك، ورغم انخفاض قاعدة المستأجرين الزراعيين، إلا أن الفقر استمر الطابع المهيمن على الريف، في بلد غالب أهله يسكنون الريف، كما خلق التحديث على النمط الخديوي الإسماعيلي طبقات جديدة مترفة ملتصقة بقصور الحكم ومنعزلة عن جمهرة الشعب ومستعلية عليهم.

يجادل بعض المجادلين- بالباطل- أن الذي أسقط الشاه هو أنه استجاب لضغوط الأمريكان، وحاول أن يجرب ديمقراطية، نعم ونعم يا سيدي، فتسللت منها- بالتدريج- روح المعارضة التي انتهت بالثورة التي كانت فيها نهايته إلى الأبد. وهؤلاء يشبهون من يجادلون بالباطل أيضاً، أن المقادير من الحريات العامة التي أتاحها نظام مبارك 1981- 2011 هي التي انتهت بالثورة عليه، ثم سقوط حكمه في ثمانية عشر يوماً، ومثلما كانت عند الشاه عقدة من ظهور دكتور مصدق جديد، فإن عند هؤلاء عقدة من ظهور 25 يناير جديدة. هؤلاء وأولئك في إيران ومصر على خطأ كبير: فالذي يؤدي إلى سقوط الحكام هو وقوفهم عقبة في وجه الطموحات المشروعة لشعوبهم، الزعم بأن القليل من الحريات يفتح الباب للثورات هو قول يصدر فقط عن وهم متخيل، لا أساس له في الواقع، والحقيقة عكس ذلك تماماً، فالذي ينتهي بسقوط الحكام هو اعتيادهم الطغيان، حتى يظنون أنه الطبيعي والعادي، وما ينبغي أن تسير عليه الحياة، يخدرون عقول أنفسهم بهذه المخدرات، حتى تأتيهم الإفاقة على هدير الشعوب في الشوارع والميادين، تطلب الحرية والعدالة والكرامة عاجلة غير آجلة دون مساومة ولا مفاوضة، ولا تهيب ولا خوف ولا وجل، فيكون الطبيعي والتلقائي أن تخر أنظمة الطغيان ساقطة من فورها، كأنها لم تكن حتى الأمس في ذروة بطشها وعنفوانها.

عندما أراد الشاه، تحت الضغط الأمريكي، أن يتحول من ديكتاتورية صريحة إلى ديكتاتورية رمادية أو إلى ديمقراطية شكلية أو إلى ديمقراطية، نعم ونعم يا سيدي، عندما أراد ذلك، فإنه نظر إلى فروع المشكلة، وليس إلى أصلها وجذرها، نظر في أعراضها ومظاهرها، ولم ينظر في أسبابها، نظر في النتائج، ولم ينظر في المقدمات، لم يشأ أن يصارح نفسه، أن مشكلة إيران ليست في منظومتها الحزبية، وليست في منظومتها الإعلامية، فهذه وإن كانت في حد ذاتها تمثل مشاكل كبيرة، بل وخطيرة، لكنها ليست الأصل، ولا الجوهر ولا الجذر ولا السبب الحقيقي، فيما تعانيه السياسة الإيرانية من اختلالات فادحة، لم يشأ شاه إيران، أن يعترف أن أم المشكلات وأصل المعضلات هي الحكم الفردي المغلق المطلق الذي قهر الشعب الإيراني وأفقره رغم ثرواته البترولية الهائلة، كان واجب الشاه أن يصدق مع نفسه، وأن يصارحها أولاً: أنه هو المهندس الأول والأخير لكافة تفاصيل ودقائق السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع في إيران منذ الإطاحة بحكومة مصدق 1953، ومن ثم فهو- أي الشاه- هو المسئول عن كافة جوانب المعاناة ومصادر الشكوى في حياة الشعب الإيراني، وأول المسئولية أن يعترف أن الحكم الفردي المغلق المطلق هو الذي خلق منظومة إعلام الصوت الواحد الذي أقصى كل صوت مختلف، وهو الذي خلق برلمانات الصوت الواحد التي باتت مراتع، يلهو فيها المنتفعون بالسلطة، وهو الذي جعل من كافة مؤسسات الدولة أدوات لقمع الشعب الإيراني، لو أدرك الشاه، أن الحكم بالعدل والعقل هو الحل الصائب، لكان جنب نفسه الوقوع في مصيدة الحركة الوطنية بقيادة مصدق 1951- 1953، كما كان جنب نفسه الوقوع في حزام الزلازل الثورية بقيادة الخميني 1978 – 1979.