أثار إعلان شركة” نيوميد إنيرجي”، التي تمتلك حصة بنسبة 45.34% بحقل ليفياثان بدولة الاحتلال الإسرائيلي، عن صفقة لتصدير الغاز لمصر بقيمة 35 مليار دولار، جدلاً سياسيا واقتصاديًا، خاصة مع توقيت الإعلان عنها بالتزامن مع إعلان “تل أبيب” عزمها احتلال قطاع غزة.
زاد من مساحة الجدل طريقة تقديم الاتفاق كصفقة جديدة كبيرة تدر إيرادات متوقعة بقيمة 35 مليار دولا حتى 2040، رغم أن بيان “نيوميد” لبورصة “تل أبيب” كان واضحًا، بأنه تمديد لاتفاق سابق، مع زيادة للكميات الموردة إلى 130 مليار متر مكعب، والمدة الزمنية لها، على أن تكون تلك الإيرادات طوال الاتفاق أي طوال 15 عامًا، أي أن القاهرة لن تدفعها دفعة واحدة.
بحسب بيان “نيوميد إنيرجي” التي يملكها رجل الأعمال اليهودي إسحاق تشوفا، ولها نشاط كبير بدولة المغرب، وسبق أن قدمت شركة بترول أبوظبي الوطنية “أدنوك” عرضا للاستحواذ عليها في 2023، فإن الزيادة في الكميات الموردة ستتم عبر مرحلتين، الأولى بنحو 20 مليار متر مكعب، تدخل حيز التنفيذ فورًا، والثانية بمقدار 110 مليارات متر مكعب مشروطة بتنفيذ استثمارات توسعة حقل ليفياثان، وتوقيع اتفاقية نقل غاز عبر خط أنابيب “نيتسان” لزيادة الامدادات اليومية لما بين 1.15 و1.25 مليار قدم مكعب.
التفاصيل الكاملة لتعديل اتفاقية التوريد الموقعة في 2019
تضمن تعديل الاتفاقية، حسبما أبلغت الشركة الإسرائيلية التي تضم بين مستثمريها العديد من الجنسيات مد فترة التوريد بعد استكمال مشروعات المرحلة الأولى حتى 10 سنوات من تاريخ الاستكمال، أو حتى استهلاك كامل الكمية (أيهما أقرب)، وبعد بدء المرحلة الثانية، تُمدد حتى 31 ديسمبر 2040 أو حتى استهلاك الكمية الإجمالية.
حال لم تستهلك مصر، التي ذكرها البيان كثيرًا باسم المشتري، عند انتهاء فترة التوريد، إجمالي الكمية المتعاقد عليها، تُمدد فترة التوريد تلقائيًا حتى التاريخ الذي يستهلك فيه المشتري إجمالي الكمية المتعاقد عليها، شريطة أن تكون فترة التمديد لا تتجاوز فترة التمديد سنتين إضافيتين، أي أن الاتفاقية قد تمتد حتى 2042.
يما يتعلق بالكميات التي سيتم توريدها في إطار الزيادة الثانية، يطبق التعديل آلية لتحديث السعر بنسبة تصل إلى 10% (زيادةً أو نقصانًا) بعد السنة الخامسة (حتى عام 2035)، وبعد السنة العاشرة من تاريخ التوسيع (تقييم عام 2040). وفي حال عدم توصل الطرفين إلى اتفاقات بشأن تحديث السعر، يحق لكل طرف تخفيض كمية الغاز اليومية المتبقية المطلوب توريدها بموجب التعديل، بنسبة تصل إلى 30% في تاريخ التعديل الأول، وبنسبة تصل إلى 30% في تاريخ التعديل الثاني.
شروط تعديل الاتفاقية مرهون بـ”وصلة نيتسانا”
تظل الزيادة في الكميات الموردة لمصر مرهونة حول مشروع “وصلة نيتسانا” المُخطط له، والذي تبلغ طاقته 600 مليون قدم مكعب يوميًا، والهادف إلى تعزيز صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر عبر خط الأنابيب، بتحديد تدفقات الغاز المستقبلية.
تتضمن الخطة إنشاء خط أنابيب بطول 65 كيلومترًا يربط شبكة الغاز الجنوبية الإسرائيلية في “رامات هوفاف” بشبكة الغاز المصرية بشرق شبه جزيرة سيناء، وقد أُعلن عنها بالبداية عام 2023، إلا أن استمرار الخلاف حول توزيع الكميات وأعباء التكلفة بين الشركاء بحقلي ليفياثان وتمار، التابعين لشركة شيفرون الأمريكية الكبرى، وهيئة الغاز الطبيعي الإسرائيلية يُؤجل الموعد المتوقع لبدء التشغيل.
جدل سياسي متصاعد.. فهل توجد مكاسب؟
رئيس الوزراء د. مصطفى مدبولي علَّق على تعديل الاتفاقية في خضم حديثه عن تزايد إنتاج الغاز المصري، وتوقعات العودة لمستويات ما قبل التراجع خلال عامين، مع الانتظام في سداد مستحقات الشركاء الأجانب.
بحسب مدبولي، فإن الغاز الذي بدأت مصر استيراده من إسرائيل عام 2019، لم ولن يؤثر على موقفها السياسي الثابت تجاه غزة، موضحًا أن الاتفاقية “احترافية”، وتسمح للقاهرة ببناء صناعات أو تسييل الغاز وإعادة تصديره.
تمتلك مصر بنية تحتية قوية لتسييل الغاز الطبيعي، ولديها محطتين للتسييل في إدكو بمحافظة البحيرة، ومحافظة دمياط. حيث يمكنها استيراد الغاز من دول الجوار التي تنتج الغاز، ولا تملك القدرة على تسييله بكميات كبير.
بالتالي يمكن لمصر إعادة تصدير الغاز عبر ناقلات الغاز المسال أو خطوط الأنابيب، وبذلك تحقق استفادة أكبر من تصدير إنتاجها فقط، كما تستطيع كل محطة في مصر تصدير نحو 2 مليار قدم مكعب غاز يوميا، أو ما يعادل 12 مليون طن سنويا.
يشير مدحت يوسف، نائب رئيس هيئة البترول الأسبق، إلى أن تكلفة استيراد الغاز الإسرائيلي منخفضة، وتصل إلى 7.4 دولارات، مقارنة باتفاقيات الاستيراد الغاز الأخرى، والتي يصل متوسطها إلى 14 دولارًا، ما يسهم في خفض تكلفة فاتورة الاستيراد، ومن ثم تخفيض الضغط على النقد الأجنبي.
يضيف أن تعديل اتفاقية شراء الغاز من إسرائيل يسهم في تأمين احتياجات البلاد المتزايدة من الغاز الطبيعي اللازم لتشغيل محطات الكهرباء وتوسعات المصانع المحلية، لكن شدد على ضرورة ربط سعر استيراد الغاز الإسرائيلي بمعادلة حسابية، تراعي انخفاض السعر العالمي عند مستويات محددة، وعدم تثبيت السعر طوال مدة الاتفاقية مع احتمالية انخفاض أسعار الغاز عالميًا.
جمال طه، الخبير الجيوسياسي والباحث المتخصص بمجال الطاقة، يدافع أيضًا عن المردود الاقتصادي، موضحا أن مصر تعاقدت على استيراد كميات بين ١٥٥ و١٦٠ شحنة غاز مسال بالأسعار العالمية لسد الفجوة خلال عام ٢٠٢٥، بتكلفة ٨ مليارات دولار، واستأجرت ٤ سفن تغويز هي: “هوج جاليون، وإنرجوس إسكيمو، وبروميثيوس، وإنرجوس باور”، إيجار الواحدة يتراوح بين ١٠٠ و٢٥٠ ألف دولار يوميًا، بخلاف تكلفة التشغيل، وهو أمر يوضح التكلفة الكبيرة.
معمل إسالة دمياط وإدكو.. عوائد كبيرة
يشير جمال طه، إلى أن معمل الإسالة بدمياط تكلف ١.٣ مليار دولار، وطاقته الإنتاجية ٥ ملايين طن سنويًا، ومعمل إدكو تكلف 2.8 مليار، بطاقة ٧.٥ طن سنوياً، أعلى معدلات تشغيلها أقل من ٥٠٪ من طاقتهما الإنتاجية، وغالبًا ما يتوقفان جزئيًا أو كليًا لفترات طويلة؛ بسبب نقص الغاز، في إهدار لطاقات إنتاجية، يمكنها توفير فرص تشغيل وضرائب وعائدات تصدير وخلافه، واتفاق الغاز ينهى مشاكلهما.
كما يتيح الاتفاق أيضا تعزيز النفوذ المصري لدى دول الاتحاد الأوروبي، فمصر صدرت عام ٢٠٢١ حوالى ٨.٩ مليار متر مكعب عائداتها ٣.٥ مليارات دولار، انخفضت إلى ٧ مليارات متر مكعب عام ٢٠٢٢ بقيمة ٨.٤ مليارات دولار؛ نتيجة ارتفاع الأسعار؛ بسبب الحرب الأوكرانية، ثم ٨.٣ مليون متر مكعب عام ٢٠٢٣، و١.١٥ مليار متر مكعب عام ٢٠٢٤، والاتفاق يوقف ذلك التراجع، ويرفع عائدات رسوم مرور الغاز للمصانع، وضرائب القيمة المضافة لعمليات الإسالة وعائدات التصدير والشحن، فضلا عن تشجيع الاستثمارات الأوروبية في استكشاف وإنتاج الغاز.
بحسب طه أيضًا، فإن الاتفاق يُنهي أزمة قطاع الأسمدة والبتروكيماويات الاستراتيجي، الذي توقف الحكومة إمداداته حال نقص الغاز، رغم استهلاكه من ٩ إلى ١٠٪ فقط من إجمالي استهلاك مصر، لتعطي أولوية لقطاع الكهرباء الذي يستهلك ٦٠٪، هذا القطاع الاستراتيجي حقق قرابة ٩ مليارات دولار عام ٢٠٢٤، تمثل ٢٢٪ من عائدات الصادرات المصرية، وخلال الخمس شهور الأولى من ٢٠٢٥، حقق عائدات ٣.٨٨٩ مليارات دولار، بزيادة ١٢٪ عن نظيرتها في ٢٠٢٤، لذلك فإن اتفاق الغاز يعزز قدرته على زيادة تدفقات النقد الأجنبي.
سد فجوة الاستهلاك المحلي
يوضح طه كذلك أن الاتفاق يسد الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك، فمصر استوردت ٣٢ مليار متر مكعب خلال خمس سنوات بقيمة بلغت ٨.٢ مليار دولار، وهي نفس تكلفة التعاقد على استيراد ١٥٥/١٦٠ شحنة غاز مسال لسد الفجوة خلال عام ٢٠٢٥ فقط، ما أكد الحتمية الاقتصادية لاتفاق الغاز.
يشير طه، إلى محاولات تهميش مصر بإحياء مشروع خط أنابيب الغاز من قطر إلى أوروبا عبر سوريا وتركيا التي تسعى أيضًا لمد خط أنابيب بحري لنقل غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، كما تدرس مد ممر تجاري، يجمع الغاز والنفط العراقي والسوري لنقله إلى أوروبا.
الفكرة ذاتها، يؤكدها الدكتور رشاد حامد، مستشار منظمة اليونسيف لتحليل البيانات، في منشور عبر صفحته الرسمية على موقع إكس، موضحًا أن المكاسب الاقتصادية المتوقعة تنقسم إلى ثلاثة محاور رئيسية، وهي عوائد إعادة التصدير، فإذا أعادت مصر تصدير 60% من الغاز بعد تسييله، فإنها تحقق عائدًا صافياً يُقدر بـ 22 مليار دولار، حتى عام 2040.
أشار إلى أن تفاصيل العائد على النحو التالي: تكلفة الشراء تبلغ 7 دولارات، وسعر التصدير العالمي يبلغ 15 دولارً والفرق الصافي يبلغ 8 دولارات، والكمية المعاد تصديرها تسجل 78 مليار متر مكعب، ما يعادل 2.75 مليار متر مكعب، أي أن العائد الإجمالي 22.03 مليار دولار.
تابع حامد أن هناك مكاسب إضافية، منها رسوم استخدام محطات الإسالة (إدكو ودمياط)، وهي تتراوح بين 1.5 و2 دولار، بالإضافة إلى رسوم النقل عبر شبكة الأنابيب المصرية، وإلى جانب ذلك هناك أيضا عوائد الضرائب والتوظيف الناتجة عن العمليات الفنية واللوجستية داخل مصر، وتوفير العملة الصعبة وتقليل واردات الوقود، كما أن استخدام الـ 40% المتبقية محليًا يلغي الحاجة لاستيراد الوقود السائل (غاز مسال وسولار)، مما يحسن الميزان التجاري ويعزز احتياطي النقد الأجنبي، وبالتالي إجمالي المكاسب المتوقعة من إعادة التصدير تبلغ 22 مليار دولار، والمكاسب الإضافية تبلغ 30 مليار دولار ، أي أن المجموع الكلي يبلغ 52 مليار دولار.
هل يوجد بدائل؟
الأوضاع السياسية والأمنية وغياب البنية التحتية تجعل الاعتماد على العراق وقطر والجزائر غير عملي حاليًا، لذلك النتيجة هي أن إسرائيل هي المصدر الوحيد حاليًا القادر على تلبية احتياجات مصر بكميات كبيرة، بأسعار تنافسية، وباستقرار في التدفقات، بحسب رشاد حامد.
طالب حامد بأن تعمل مصر بالتوازي على تعزيز الاستثمارات في التنقيب والإنتاج المحلي، وتسريع مشاريع الربط مع قبرص وليبيا، بالإضافة الحفاظ على التوازن السياسي مع شركاء المنطقة.
يتابع: يمكن لمصر الاستفادة من قدرات الإسالة المملوكة لها، فهي الوحيدة بمنطقة شرق المتوسط التي تمتلكها بالتعاون مع قبرص، فالخيار المفضل لقبرص (أفروديت)، هو نقل الغاز من الحقل عبر خط أنابيب تحت البحر إلى منشآت شِل بغرب الدلتا البحرية العميقة غير المستغلة قبالة سواحل مصر؛ حيث سيتم معالجته، ومن شأن هذا الخيار، أن يوفر على الشركاء تكاليف بناء منشأة جديدة مخصصة للمعالجة والإنتاج في قبرص.