قد لا يكون بدر عبد العاطي وزير الخارجية المصري، في شعبية وشهرة سلفه السابق عمرو موسى، لكنه اليوم بات الوزير الأكثر شعبية في الحكومة الحالية، على الأقل لدى قطاع من الرأي العام، بعد التسريب الأخير الذي يتحدث فيه عن إجراءات تأمين السفارات المصرية في الخارج.
ويبدو أن التسريب على صلة بالمؤتمر السنوي لرؤساء البعثات المصرية في الخارج، حيث استمع عبد العاطي، إلى مقترحاتهم بشأن سبل رفع كفاءة الأداء وتطوير آليات العمل.
المعاملة بالمثل… من التهديد للتنفيذ
في تسريبه الذي أثار الجدل، أعلن الوزير بوضوح، أنه اتفق مع جهاز الأمن الوطني على تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، ردًا على ما تعتبره مصر تقصيرًا من الجانب الهولندي في حماية سفارتها بالخارج، وخاطب سفير مصر في هولندا، قائلا: أنا اتفقت مع الأمن الوطني على تخفيف الأمن عند سفارة هولندا في مصر بمبدأ التعامل بالمثل، وبلغة عامية مبسطة واحدة وغير معتادة، أضاف: “ولو حد عندك كلمك إديله على دماغه، وقوله له لو ما تحركتوش هنرفع الأمن خالص”.
هنا يلوح، أو يهدد بتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل مع سفارات الدول الموجودة في مصر، التي تتسامح أو تتقاعس أو تتهاون في حماية السفارات المصرية في الخارج.
وهذه نقلة نوعية، لا شك في الخطاب الديبلوماسي المصري، وإن كان عبر تسريب يبدو متعمدا، لكن الرسالة الحقيقية وصلت للداخل والخارج، وأهمها أنه يتعين على الدول التي تستخف بمطالب مصر بتشديد الأمن حول سفاراتها لمنع أي محاولة للتطاول عليها، قد وصلت إلى كل دول العالم بلا استثناء.
هولندا ليست الهدف ولا المطلوب بالضرورة، لكن عبد العاطي طبق حرفيا مبدأ المثل الشعبي “اضرب المربوط، يخاف السايب”.
والدولة التي لن تلتزم، ستجد نفسها في نفس موقف السفارات المصرية، بعد رفع الحواجز الأمنية، وفك الطوق الأمني المبالغ فيه حولها.
وهكذا لم يكتف عبد العاطي، بالدبلوماسية الناعمة، بل قرع الجرس بصوت عالٍ برسالة مختصرة، تقول بوضوح، إن حماية سفارات مصر ليست خيارًا، ومن يتقاعس عن ذلك سيشرب من ذات الكأس.
وتلك الدبلوماسية، تعلي مبدأ احترام مصر أو مواجهة تبعات تجاهلها، حتى لو أدت إلى توترات مع بعض العواصم الأجنبية.
احتجاجات لاهاي
على خلفية احتجاجات استهدفت بعثات مصر، مثل إغلاق رمزي للبوابات وتنظيم اعتصامات في لاهاي، وتزامنت مع وقائع مماثلة في لندن وفيينا وبيروت خلال شهر يوليو الماضي، انتشر تسجيل مصور، لبدر متحدثا عن المسألة للمرة الأولى بشكل رسمي.
أغلق ناشطون مصريون سفارة مصر في لاهاي بسلسلة وقفل، وكرروا الفعل نفسه أمام سفارة الأردن؛ بسبب ما وصف بـ “التواطؤ” في الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل وكخطوة رمزية تضامنًا مع الفلسطينيين في غزة.
وساهم انتشار وتداول هذا الفعل على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي، في إقدام نشطاء في دول أخرى بينها، تركيا وبريطانيا على احتجاجات مماثلة أمام السفارات المصرية.
ولم يخل الأمر من بعض المزايدات، بعدما ظهر لاعب سابق مغمور لكرة القدم، معلنا ما وصفه بحظر تجوال أمام سفارة مصر في هولندا، ومرابطته أمامها بدعوى حمايتها.
رد فعل السيسي وهولندا
وقبل هذه الواقعة، انعقدت مشاورات سياسية بين مصر وهولندا في لاهاي برئاسة كبار مسئولي الخارجية من الجانبين، ركزت على مجالات التعاون الاقتصادي وملف الهجرة، وأهمية إعادة وقف إطلاق النار في غزة وضمان تدفق المساعدات الإنسانية سريعًا.
وبدا أن التسريب تحول إلى حقيقة دبلوماسية وإعلامية، أكدها وزير الخارجية، عندما أعلن أنه لا يقبل المساس بأي سفارة مصرية بالخارج، لافتا إلى صدور تعليمات حازمة للتعامل الفوري مع أية تهديدات.
واستغل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حديثه الهاتفيً مؤخرا مع ديك سخوف رئيس وزراء هولندا، للتشديد على ضرورة احترام القانون الدولي والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، التي تلزم الدول بتوفير الحماية الأمنية للبعثات الدبلوماسية وعدم المساس بالسفارات الأجنبية العاملة على أراضيها، لافتا إلى تأكيد سخوف على هذا الأمر.
لكن وللمفاجأة، فإن رئيس وزراء هولندا، لم يشر إلى حادثة السفارة المصرية وتجاهلها تماما في حديثه عن اتصاله بالسيسي، رغم كونها تالية، لما حدث بأكثر من أسبوع، بل ركز بالكامل على ملف غزة والوساطة المصرية لوقف لإطلاق النار بين إسرائيل وحماس، واعتبر أن السبيل الوحيد نحو سلام دائم قائم على حل الدولتين، وتوقف كل العنف وإطلاق حماس سراح جميع الرهائن.
وقبل نحو شهرين من تقييد ناشطين بوابات سفارة مصر في لاهاي، احتجاجًا على الموقف المصري من معبر رفح، كان عبد العاطي ونظيره الهولندي كاسبر فيلدكامب، في سياق تواصُل سياسي وأمني مستمر؛ لبحث العلاقات والتطورات الإقليمية.
قراءة أمنية: الرسالة السياسية واحتمال الاستهداف
يعتقد اللواء محمد عبد الواحد خبير الأمن القومي، أن التسريب على الأرجح كان مقصودًا، وليس نتيجة اختراق عرَضي، مرجحًا أن يكون مصدره إما مكتب الوزير أو السفارة المصرية في هولندا، بهدف توصيل رسالة سياسية واضحة.
وشدد على أن مبدأ “المعاملة بالمثل،” لا يجب أن يظل على مستوى التصريحات، بل ينبغي ترجمته إلى إجراءات عملية، فكما تُغلق شوارع بكاملها في القاهرة لتأمين سفارات أجنبية، يمكن لمصر إذا قصّرت أي دولة في حماية سفاراتها المصرية، أن تخفف إجراءات الحماية أو تزيل التحصينات المبالغ فيها حول سفارة تلك الدولة في القاهرة، حتى تدرك أهمية الالتزام بالمعايير الأمنية.
واستشهد بـاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، التي تُلزم الدولة المضيفة بتأمين السفارات والبعثات الدبلوماسية على أراضيها، معتبرًا أن هذه القضية تمس سيادة الدولة، ولا يجوز التعامل معها بردود رمزية.
ومع ذلك، فقد أبدى عبد الواحد تحفظه، على ما وصفه بـ”الردود المرنة والمخففة” من الجانب المصري، معتبرًا أن بعض الدول، إذا لم تواجه برد عملي حازم، قد تتمادى في تجاهل مطالب القاهرة، وضرب مثالًا برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي– بحسب حديثه– يواصل سياسته التوسعية؛ بسبب “الصمت العربي والدولي” وعدم تفعيل القوانين الدولية.
وحكى عن تجربة شخصية خلال عمله القنصلي، حين واجه تأخيرًا متعمدًا في منح تأشيرة لمسئول مصري من قبل قنصلية ألمانية، بحجة “الجنسية”، وكيف لجأ حينها لسياسة رد مماثلة مع الألمان في إفريقيا، ما دفع الطرف الآخر إلى التراجع فورًا عن قراره. وخلص من هذه الواقعة، إلى أن بعض الدول “لا تفهم إلا لغة الحزم”.
بحسب إعلامي مصري، التقى مؤخرا عبد العاطي، وطلب عدم تعريفه، فإن “الوزير لم يخطئ في أي كلمة، وأنا أرى أنه تصرّف بشكل صحيح تمامًا”.
وتابع: “هذا كلام منطقي وصحيح، وأنا أؤيده تمامًا، وكلنا نطالب به” لأنه تأييد صريح لمبدأ المعاملة بالمثل وتشديد الإجراءات الأمنية”.
واعتبر أنه “إذا كان الهدف من نشر هذه التصريحات هو التشويش على الوزير أو الإضرار به، فقد جاءت بنتيجة عكسية، ورفعت شعبيته كثيرًا”، ما يعني أن التسريب عزّز صورة الوزير بدل الإضرار به، لافتا إلى تركيز الوزير على ضرورة، أن تقوم السفارات بدورها الكامل، وألا يتقاعس أي أحد عن أداء واجباته” في دعم رسمي لإلزام السفراء بمسئولياتهم.
ومع ذلك، يبقى احتمال وجود نية للإساءة إلى الوزير، فقد تكون هذه التسريبات محاولة من شخص يريد تشويه الوزير أو الإضرار به”.
لكن الإعلامي، خلص إلى أن “من سرّب هذا التسجيل هو شخص من داخل سفارتنا في هولندا”، في إشارة إلى أن التسريب قد يكون صادرًا من داخل الجهاز الدبلوماسي، وأضاف “من المحتمل أن من قام بالتسجيل كان يحاول الاصطياد في الماء العكر”.
اتفاقية فيينا: الإطار القانوني لحماية البعثات
تنص المادة 22 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية 1961، على حرمة مقار البعثة وعدم جواز دخولها دون موافقة، والتزام خاص على الدولة المُضيفة باتّخاذ “جميع الوسائل المناسبة” لحماية مقرّات البعثة ضد أي اقتحام أو ضرر، ومنع الإخلال بسكينتها أو مساس بكرامتها، فيما تؤكد المادة 29 على حرمة الأشخاص الدبلوماسيين، وحمايتهم من أي اعتداء أو إهانة.
وتقرّر اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية 1963، مبادئ مشابهة لحرمة المقار القنصلية وواجبات الحماية على الدولة المضيفة، ما يعني أن التزام الحماية يقع على وزارة الداخلية/أجهزة الأمن في الدولة المضيفة بالتنسيق مع الخارجية؛ ويشمل الأطواق الأمنية، والحواجز، وخطط الاستجابة، وممرات الدخول والخروج.
ومبدأ المعاملة بالمثل، مسموح به سياسيًا في العلاقات الدبلوماسية (تعديل مستوى التدابير/الحواجز/أطقم الحراسة)، شريطة ألا ينتهك جوهر المادة 22، بمعنى أن تخفيف الحواجز لا يبرّر التقصير عن “جميع الوسائل المناسبة” لمنع الاعتداء أو إهانة البعثة.
ورغم قانونية المعاملة بالمثل، لكنها محفوفة بالمخاطر، وتفتح الباب لتصعيد دبلوماسي أو أمني، بالتأكيد لا تبدو القاهرة في حاجة إليه الآن.
وفي السابق، اضطرت عدة دول غربية إلى إغلاق سفاراتها في القاهرة، ردا على تخفيف إجراءات تأمينها وفتح الشوارع المحيطة بها، مقابل تمسك السلطات الحكومة المصرية بحكم قضائي، حيث عارض وزير الخارجية المصري السابق سامح شكري، بشكل صريح، أية إجراءات تتعارض مع حريات المواطنين القاطنين في محيط هذه السفارات.
الوزير الأكثر شعبية
عبد العاطي المولود في الثامن من شهر فبراير عام 1966 في أسيوط بجنوب مصر، وشغل منصب المُتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، وتنقل بين عواصم أوروبا، ويوصف إعلاميا بمهندس العلاقات المصرية الأوروبية، انضم إلى حكومة مصطفى مدبولي، كوزير للخارجية خلفا لشكري، الذي استمر في منصبه نحو ١١ عاما.
وبعد مرور عام على توليه المنصب، بات عبد العاطي معروفا لدى مواطنيه بشكل غير مسبوق، بسبب التسريب المثير للجدل، ما بين نظريتي التعمد والاختراق، بيد أنه لا زال لديه الكثير لمنافسة سلفه عمرو موسى، الأكثر شهرة وشعبيه بين أقرانه على الإطلاق.
وتظل مسألة حماية البعثات الدبلوماسية سلاحًا ذا حدين، فهو أداة مشروعة سياسيًا لتعزيز الموقف المصري، لكنه ينطوي على مخاطر قانونية ودبلوماسية، تتطلب موازنة دقيقة بين حماية المصالح الوطنية والحفاظ على صورة مصر كدولة، تحترم التزاماتها، وتعزز مكانتها على الساحة الدولية.
بين خطابه ذي النبرة العالية الواضحة، للرأي العام المحلي، ومحاولته توصيل رسائل غير مباشرة إلى الخارج، يبدو عبد العاطى حاليا الأكثر شعبية بين زملائه في الحكومة، التي فقدت الكثير من شعبيتها؛ بسبب سياستها الاقتصادية غير المحبوبة.