لعبة البنج بونج الاقتصادية، التي يمارسها دونالد ترامب مع خصومه في الداخل والخارج، سيكون لها نتائج عميقة سواء على النظام العالمي أو على النظم الاقتصادية للدول المتخلفة.
الصراع بين دونالد ترامب وخصومه يعكس خلافًا جوهريًا وجادًا في الرأسمالية الأمريكية. فترامب يدافع عن الرأسمالية التقليدية، التي تركز على حماية السوق الأمريكي، والرأسمالية المرتبطة بالصناعات والإنتاج المحلي، وفرص العمل الأمريكية، من خلال تقليل الاعتماد على الاستيراد. بينما خصومه يدعمون رافد الرأسمالية العولمية، التي تعتمد بشكل كبير على الإنتاج خارج أمريكا، في دول مثل الصين والهند، حيث العمالة الرخيصة، وتعيد تصدير إنتاجها إلى داخل السوق الأمريكي، مع انفتاح أكبر على الأسواق العالمية.
فللولايات المتحدة الأمريكية اقتصادان: اقتصادها الأمريكي التقليدي، واقتصادها الدولي، وهو بمثابة اقتصاد ثان لها، حيث نشأت رأسمالية عالمية عابر للقوميات، حيث تعددت المصالح وتعارضت الأدوات وآليات الحركة.
كذلك عززت سياسات ترامب بشكل واضح مصالح المجمع العسكري الصناعي الأمريكي، من خلال عقد صفقات ضخمة مع دول الخليج، لبيع أسلحة بمئات المليارات، لتخلق فرص عمل في أمريكا، مع دعم رفع ميزانية الدفاع، والتراجع عن اتفاقيات الحد من الأسلحة، مما يشجع سباق التسلح وينشط صناعة الحرب.
ورغم خلافاته أحيانًا مع جنرالات المُجَمَّع، فقد كان أفضل من يمثِّل مصالح شركات السلاح، خصوصاً بتسويق منتجاتها داخل وخارج أمريكا، برغم أن سياسة ترامب الحمائية رفعت التكاليف لبعض الصناعات العسكرية؛ بسبب الرسوم الجمركية، لكن المحصلة هي أن ترامب لعب دورًا مركزيًا في تقوية دور المجمع العسكري الصناعي اقتصادياً وسياسيا، وساهم في زيادة فرص العمل في قطاع الصناعات العسكرية، بفضل الطلب الأمريكي والخارجي.
ترامب يربك المؤسسة السياسية الأمريكية
يطلق جون بيركنز مجازاً تعبير المؤسسة الأمريكية Corporate، على المنظومة المشتركة للشركات الكبرى، والتي تشكل عصب اقتصاد الولايات المتحدة، وقاعدتها الرئيسية في بناء مجتمع الرفاهة، حسب المفاهيم التي أصَّلتها النخبة في وجدان الشعب الأمريكي على امتداد قرنين، ويصعب الفصل بين أهداف هذه المنظومة ومجريات الأمور في الولايات المتحدة، حيث بسطت المؤسسة الاقتصادية الأمريكية نفوذها، على باقي المؤسسات السياسية والعسكرية والمخابراتية والإعلامية. فالمصالح الخاصة لهذه الشركات هي بمثابة المصلحة العامة لأمريكا، مما يجعل العمل السياسي، ينحسر في التفاعل المستمر بين مجموعات المصالح الاقتصادية، التي تتنافس في السيطرة على الدولة، وتحول النظام السياسي الأمريكي في حقيقته إلى نظام للحزب الواحد، ينقسم لجناحين “الجمهوري” و”الديموقراطي”، يسيطر على كل منهما مجموعة من رجال الأعمال، ويشتركان في التوجهات الرئيسية للأيديولوجية الأمريكية. ويطلق على هذه الظاهرة Corporatocracy، وهي ما يشترك فيه مع جون جالبريث، والذي استخدم تعبير Corporation.
تقليديًا، يدعم الجمهوريون السوق الحرة- تخفيض الضرائب- وتقليل دور الحكومة في الاقتصاد. لكن ترامب اختار سياسة حمائية، تركز على الصناعة الأمريكية وحماية العمال. أما الديمقراطيون، فعادة ما يدعمون زيادة الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، والضرائب الأعلى على الأغنياء لدعم العدالة الاجتماعية. ومن المعروف، أن الدورة الاقتصادية، وهي التغيرات الدورية في النشاط الاقتصادي لأية دولة، وتمر بأربع مراحل: الانتعاش (بدء تعافي الاقتصاد والنمو من جديد)- الرواج (نمو ونشاط اقتصادي مرتفع)- الركود (تباطؤ في النشاط الاقتصادي)- الكساد (انخفاض حاد في النشاط كالبطالة وقلة الإنتاج).
وهنا يبدو أن هناك تقسيم أدوار في السياسة الاقتصادية لكل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في أمريكا، ومراحل الدورة الاقتصادية! ففي الركود- الحزب الديمقراطي يميل لزيادة الإنفاق وتحفيز الاقتصاد. وفي الانتعاش والرواج يأتي الحزب الجمهوري، الذي يميل لتقليل الإنفاق وخفض الضرائب للحد من التضخم. وهي سياسات تناسب المرحلة التي يمر بها الاقتصاد لتحقيق التوازن. كما أن هناك تعاونا غير معلن؛ لكي يتحقق التوازن بين النمو والسيطرة على التضخم.
العلاقة بين اختلاف سياسات ترامب وخصومه وبين الحزبين الجمهوري والديمقراطي
يمثل ترامب تيارا جمهوريا ذا أسلوب شعبوي، يعارض العولمة التجارية. بينما الخصوم الديمقراطيون يميلون إلى سياسات أكثر انفتاحًا على التجارة العالمية. ولقد أصبح الصراع السياسي في أمريكا اليوم، ليس فقط بين ديمقراطيين وجمهوريين، بل هو صراع أعمق بين رأسمالية الإنتاج القومي ورأسمالية عابرة للقومية.
وقد أثرت سياسة دونالد ترامب بشكل كبير، على الموقف التقليدي للحزب الجمهوري، الذي دعم السوق الحرة والعولمة. واتجهت إلى سياسات حمائية، تشجع الإنتاج المحلي ودعم الصناعات المحلية، مثل الصلب والسيارات، وحماية الوظائف الأمريكية وزيادة الوظائف في بعض القطاعات، مع رفض بعض الاتفاقيات التجارية الدولية، التي كان الحزب الجمهوري نفسه يدعمها سابقًا. وأصبح الحزب أقل تمسكًا بسياسات التدخل لحماية المصالح الأمريكية، ورفع الرسوم الجمركية على الواردات لتحفيز الإنتاج في أمريكا، ودعم الشركات الأمريكية ضد المنافسة الأجنبية.
ساعدت سياسة ترامب في تقليل العجز التجاري قليلاً، لكنها أثرت على العلاقات الاقتصادية الدولية. حيث تَمَثل التطبيق العملي لسياسة ترامب الحمائية في عدد من الإجراءات، التي يواجه بها الفاعلين الرئيسين في النظام الدولي. فقد فرض رسوما جمركية عالية على الصادرات الصينية، للحد من المنافسة وحماية الصناعة الأمريكية داخل الولايات المتحدة، ومارس ضغوطا على أوروبا واليابان من أجل إعادة التفاوض أو الانسحاب من اتفاقيات تجارية، ليضمن شروطًا أفضل لأمريكا بتعديل الاتفاقيات التجارية، وزيادة التصدير الأمريكي، مع فرض رسوم على بعض السلع. وفي مواجهة المكسيك وكندا، أجرى تعديلات كبيرة على اتفاقية التجارة USMCA، لتحسين وضع العمال الأمريكيين، وربط القضايا الاقتصادية بسياسة الهجرة، للحد من العمالة الأجنبية، حيث فرض قيودًا على الحدود، للحد من الهجرة غير الشرعية، لتقليل الاعتماد على العمالة الأجنبية، خاصة في قطاعات الصناعة والزراعة. كذلك وضع قيودًا على الاستثمار الأجنبي والشركات العابرة للجنسيات التي تعمل داخل أمريكا، لكي يراقب ويحد من تحكم الشركات الأجنبية، في الأصول والمشروعات الأمريكية، ويحمّي الصناعات المحلية.
ردود الفعل الداخلية والخارجية
تباينت ردود الأفعال في الداخل والخارج، على سياسات ترمب الحمائية لحماية الصناعة المحلية. فقد لاقى ترامب دعمًا من العمال، الذين فُقدوا وظائف بسبب العولمة، فسياساته شجعت على استعادة فرص العمل في الصناعة الأمريكية، فاستقبلت نقابات العمالية بالولايات المتحدة سياسات ترامب بحماس، لأنها تدعم فرص العمل الأمريكية واستعادة وظائف المصانع. كذلك دعمت النقابات السياسات، التي تقلل الهجرة غير الشرعية، لكي تحمي حقوق العمال الأمريكيين. لكن الشكاوى جاءت من بعض قطاعات الأعمال والاقتصاد، الذين يعتمدون على العمالة الأجنبية والمواد الخام المستوردة، بسبب زيادات التكاليف، والقيود الجديدة، وأيضًا ارتفاع أسعار بعض السلع، بسبب رسوم الاستيراد، مما أثر على المستهلك الأمريكي.
الشركات الأمريكية التي تعمل في الخارج، وتصدر للسوق المحلي، واجهت تحديات مع سياسة ترامب الحمائية، بسبب زيادة الرسوم الجمركية والقيود على الواردات. فبعضها عانت من ارتفاع تكاليف الإنتاج؛ بسبب الرسوم، مما أثّر على أسعار منتجاتها داخل أمريكا، فحاول بعضها نقل الإنتاج أو بعض سلاسل التوريد Supply Chain (توريد الخامات- الشركات المصنعة– التوزيع)، للحد من التأثيرات السلبية لسياسة ترامب الحمائية، مما ساعدها في تجنب رسوم جمركية عالية، وتحافظ على أسعار منتجاتها، مناسبة للسوق الأمريكي مثلما فعلت شركة “جوجل”، التي نقلت بعض خطوط إنتاجها، بعيدا عن الصين إلى دول أخرى مثل فيتنام والهند، كذلك نقلت شركة “آبل” بعض أجزائها من الصين إلى الهند وفيتنام. وشركات مثل نايكي وأديداس وسعت مصانعها في فيتنام وإندونيسيا، بدلًا من الصين. كما نقلت شركات السيارات أجزاء من إنتاجها من المكسيك لأمريكا أو لدول أخرى أقل رسومًا. هذه الشركات حاولت أن تقلل تكاليف الرسوم وتضمن استقرار التوريد لمنتجاتها.
بالنسبة للصين فقد ردت على سياسات ترامب الحمائية، بخطوات قوية ومتعددة. منها أنها فرضت رسومًا انتقامية تتراوح بين 10- 34% على منتجات أمريكية من قطاعات الزراعة والطاقة والآلات، كما وضعت حواجز غير جمركية، عرقلت استيراد بضائع أمريكية، أو فرضت قيودًا على تصدير معادن نادرة حيوية للصناعات التقنية والدفاعية. كما أدرجت شركات أمريكية في قائمة الكيانات غير الموثوق بها، وفتحت تحقيقات مكافحة احتكار ضد شركات مثل جوجل. رفعت دعاوى ضد الولايات المتحدة في منظمة التجارة العالمية.
وسَّعت الصين علاقاتها التجارية خارج أمريكا، لتقليل اعتمادها على السوق الأمريكي. وأصبحت مستعدة لمواجهة الحرب التجارية بثبات، واستراتيجيات طويلة الأمد. أما الاتحاد الأوروبي فقد تحمل في البداية، وراهن على عدم التصعيد، لكن لما زادت التهديدات بالرسوم، قرر أن يرد بالرسوم الانتقامية على صناعات أمريكية مهمة، وفي نفس الوقت، حافظ على استراتيجيات تفاوضية ذكية مع واشنطن، كما عرض اتفاقات لتخفيف الرسوم وتعزيز التعاون في الطاقة والتقنية. أما اليابان فقد عقدت صفقة تجارية مع أمريكا، خفضت فيها الرسوم الجمركية على منتجاتها، مقابل فتح أسواقها أمام بعض السلع الأمريكية مثل الشاحنات والأرز، أيضا التزمت بالاستثمار في الاقتصاد الأمريكي. هذا بينما كان رد فعل المكسيك وكندا متوازنًا مع اتفاق USMCA، ورفعتا مستوى التعاون مع أمريكا، لتعديل شروط التجارة بما يناسب الجميع، لكنهما كانا حذرين من سياسات ترامب الحمائية. فالمكسيك حسَّنت شروط الأجور وسلاسل الإنتاج في اتفاقية USMCA، للحفاظ على تنافسيتها. وركزت كندا على حماية صناعاتها الرئيسية، ورفضت فرض رسوم انتقامية كبيرة، لكنها استجابت بالتفاوض والتعاون الاقتصادي.
ربما كانت أخطر نتائج هذا الصراع، أنها أحدثت تحولات كبرى في الفكر الاقتصادي السياسي، وفي السياسات الاقتصادية لها ما بعدها. فقد تقدمت رأسمالية الدولة الصينية بثبات منذ عام 1978، وتراجعت النيوليبرالية الأمريكية أمامها، التي دعا إليها إجماع واشنطن عام 1989، وهي مجموعة من السياسات الاقتصادية الليبرالية، التي اعتُبرت وصفة معيارية للإصلاح الاقتصادي في الدول النامية، خاصة تلك التي كانت تمر بأزمات ديون أو تسعى للحصول على قروض من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي. صاغ المصطلح الاقتصادي الأمريكي جون ويليامسون، لوصف السياسات التي كانت تُفضّلها المؤسسات الاقتصادية الدولية الكبرى، ومقرها في واشنطن .
إجماع واشنطن هو تعبير عن الرأسمالية النيوليبرالية في نسختها الدولية، حيث تُعاد صياغة الاقتصاد الوطني ليتوافق مع مصالح رأس المال العالمي، على حساب الفئات الفقيرة والدور الاجتماعي للدول النامية والسمات الرئيسية له هي، تقليص دور الدولة في الاقتصاد- الاعتماد على الأسواق الحرة و”قوى السوق”- الخصخصة الكاملة للمؤسسات العامة- جذب رأس المال الأجنبي بأي ثمن- تحرير التجارة والعملة والخدمات- تقشف مالي وتقليص الدعم الاجتماعي. والهدف المعلن له، زيادة الكفاءة والنمو من خلال تقليل تدخل الدولة.
والنتائج في دول مثل مصر، والأرجنتين، والبرازيل (سابقًا)هي: فقر، تهميش اجتماعي، اعتماد على الخارج، أزمات مالية متكررة.
في مقابل ذلك، ظهر النموذج الصيني (رأسمالية الدولة) والسمات الرئيسية هي، الدولة مركزية وموجهة للاقتصاد- السماح بالقطاع الخاص، ولكن تحت رقابة صارمة- الشركات الكبرى (البنوك، الطاقة، النقل، التكنولوجيا) مملوكة للدولة أو تابعة لها- الاستثمار الأجنبي مرغوب فيه، ولكن بشروط صارمة (نقل تكنولوجيا، شراكات محلية)- التخطيط الاقتصادي بعيد المدى (خطط خمسية)- دعم قوي للتعليم، والبنية التحتية، والصناعات الاستراتيجية. والهدف الأساسي: السيطرة على التنمية الوطنية وتوجيهها لصالح الدولة والشعب. والنتائج في الصين (منذ 1980)، نمو سنوي مرتفع- انخفاض الفقر من 80% إلى أقل من 1%- احتفاظ الدولة بالسيادة الاقتصادية الكاملة- تكوين طبقة وسطى واسعة- مع قوة تصديرية ضخمة.
ومقارنة سريعة بين نموذج إجماع واشنطن والنموذج الصيني، هي بين نموذج يعطي القيادة للأسواق ورأس المال العالمي، ويضع الدولة في موقع المراقب. والنموذج الصيني الذي يُبقي الدولة في موقع القائد والموجه، ويستخدم السوق كأداة، وليس كغاية. كثير من الدول مثل فيتنام، والهند، وماليزيا بدرجة ما، بدأت تقترب من النموذج الصيني أكثر من الليبرالية المطلقة.
لكن المفارقة أن سياسات دونالد ترامب الحمائية، ومواجهته لنشاط رأس المال العولمي، يعطي الذريعة القوية لإجراء تحولات بعيدة عن نموذج واشنطن.
- كاتب وباحث في الاقتصاد السياسي للعلاقات الدولية.