إعادة تشكيل الشرق الأوسط ليس أمراً مستجداً، بل هو أمر قديم مرتبط في التاريخ المعاصر بضعف، ثم اضمحلال، ثم انحلال، ثم سقوط، ثم تمزيق، ثم اقتسام الإمبراطورية العثمانية التي آلت إليها مقاليد الإقليم وشعوبه، أربعة قرون بالتمام والكمال، الجديد في موضوع إعادة تشكيل الشرق الأوسط، أنه وصل إلى درجة من الهوان المُخزي، حيث أصبح طموحاً لدولة طارئة وغريبة ومصطنعة ومستجدة في الشرق الأوسط وهي إسرائيل، قبل ذلك كان الصراع على تشكيل الشرق الأوسط محل صراع بين إمبراطوريات أوروبية عظمى في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ثم كان موضعاً لصراعات القوة والنفوذ والأيديولوجيا بين الأمريكان والسوفيت في النصف الثاني من القرن العشرين، ثم بات شأناً أمريكيا محضاً منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، حتى اندلاع حرب طوفان الأقصى، ثم حرب الإبادة الإسرائيلية 7 أكتوبر 2023، ثم من ذلك التاريخ باتت مسألة إعادة تشكيل الشرق الأوسط شأناً صهيونياً خالصاً، تعلنه إسرائيل دون مواراة وتنفذه بكل وحشية توراتية، تعتمد الإبادة مهمة مقدسة، كما هو منصوص عليها في سفر التثنية خامس أسفار التوراة.

بعد سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، أصبح الإقليم كله- بما في ذلك فلسطين- بلا صاحب، وقبل سقوطها، كان الإقليم مكشوفاً لا حامي له، ولا مدافع عنه، إذ كانت الدولة العثمانية صاحبة السيادة عليه أضعف، وأوهى من أن تدافع عن الإقليم أو تحميه، أو حتى تدافع عن نفسها وتحمي وجودها، فمنذ انهزم العثمانيون أمام الروس في حرب السنوات الست 1768 – 1774، ومناعة السلطنة العثمانية تتداعى وتتساقط وتنهار، باتت تعجز ليس فقط عن مواجهة إمبراطوريات عظمى، كانت في السابق تلجمهم وتلزمهم حدودهم، لكن باتت كذلك تعجز عن مواجهة تمردات صغيرة، يقوم بها قوى محلية تابعة لها، وتعد جزءاَ من أملاكها وتحت سيادتها وسلطانها مثل، تمرد علي بك الكبير في مصر والشام والحجاز، ثم تمرد الوهابيين في نجد، ثم تمرد اليونانيين، ثم تمردات متتالية في البلقان، عجز العثمانيون عن حسن السياسة والإدارة، ثم عجزوا عن الحسم بالقوة، ثم لجأوا لأساليب الدسائس والمساومات والمؤامرات، وتحريض طرف ضد طرف، فقد حرضت السلطنة العثمانية رجال علي بك الكبير على خيانته، وحرضت محمد علي باشا على الوهابيين، ثم على اليونانيين، ثم شرعت تستفيد من لعبة التوازنات الأوروبية، حيث ساعدها الإنجليز والفرنسيون ضد أطماع الروس، ليس حباً فيها، لكن خوفاً من زحف الروس إلى قلب أوروبا، لو تحققت مطامحهم في السيطرة على البوسفور والدردنيل والبحر الأسود والأستانة ذاتها.

في وجود الدولة العثمانية عاش الشرق الأوسط لأكثر من قرن من الزمان مكشوفاً عارياً دون أي حماية تحصنه، كان الغزو الفرنسي لمصر والشام عند خاتمة القرن الثامن عشر، وفاتحة القرن التاسع عشر نقطة البداية التي وصلت ذروتها مع دخول الجيوش الفرنسية والبريطانية الشام والعراق في الحرب العالمية الأولى، وقد تزامن ذلك مع ميلاد فكرة الدولة الصهيونية في فلسطين مع وعد بلفور 1917. 

اجتهدت شعوب الشرق الأوسط في الدفاع عن نفسها، فدخلت في مواجهات مع الاستعمار الأوروبي، نالت الاستقلال، بعضه عبر كفاح مرير مثل، مصر والعراق وسوريا والجزائر، وبعضه منحة من الاستعمار مثل، مشيخات الخليج، وقد تم ابتكار الجامعة العربية والقومية العربية، لكن بعد أكثر مائة عام من زوال السيادة العثمانية، حتى وقت اندلاع حرب طوفان الأقصى في خريف 2023، ما زال الشرق الأوسط منكشفاً وفاقداً للأمان، وفي العالم العربي تحديداً، فإن الدولة الوطنية سواء في بلاد الفقر أو في بلاد العسر، لا تزال فكرة متعسرة، بينما سقطت كافة مشاريع الوحدة العربية مع هزيمة الزعامة الناصرية 1967، ثم مع غزو بلد عربي لبلد عربي آخر 1990، ومنذ غزو العراق للكويت في ذلك التاريخ وعرب الخليج وجهتهم أمريكا وإسرائيل في البداية، ثم الآن أصبحت وجهتهم إسرائيل، ثم أمريكا بهذا الترتيب، وبهذا خرجت قوى المال العربية، لتدور في فلك محوره الأقوى والأقرب إسرائيل. فبعد غزو العراق للكويت، ثم بعد تحرير أمريكا للكويت، باتت عقيدة جديدة لدى الأسر الحاكمة في الخليج، وهي أن الخطر عليهم يأتي من الأشقاء العرب، بينما إغاثتهم وحمايتهم ونجدتهم تأتي من أمريكا، وأمريكا لم تدخر جهداً في دفع العرب، كل العرب، بعد تحريرها للكويت، من الجلوس على موائد التفاوض مع إسرائيل. واحتاج التاريخ من الزمن أن تمر ثلاثون عاماً بعد عام الغزو 1990، حتى عام السلام الخليجي- الإسرائيلي العميق مع اتفاقات إبراهيم 2020.

السؤال: لماذا أصبح لدى إسرائيل طموح إعادة تشكيل الشرق الأوسط؟ لماذا تتصرف كما لو كانت إمبراطورية عظمى؟ لماذا تسعى لشرق أوسط على مقاسها وإرادتها؟

الجواب: أمريكا مهدت لها تسعة أعشار الطريق، فقد تزامن غزو العراق للكويت مع سقوط الاتحاد السوفيتي، فخسر العرب من الداخل ومن الخارج، خسروا بقايا تضامنهم في الداخل، كما خسروا قوة عظمى، كانت توازن النفوذ الأمريكي، ففي السنوات العشر بين سقوط الاتحاد السوفيتي، وحادث 11 سبتمبر 2001، كانت أمريكا قد سيطرت منفردة سيطرة تامة على العالم العربي، وهذا أطمعها بعد 11 سبتمبر في إحداث تغيير جذري في العالم العربي، فقد رأت أن الأنظمة الحاكمة والثقافة السائدة في العالم العربي هي التي أنتجت الشباب الذي نفذ الهجوم على قلب أمريكا، بدأت بمشاريع لتصدير الديمقراطية الأمريكية عنوة، فمولت صحفاً وإذاعات وتلفزيونات، وملأت العالم العربي جمعيات ومنظمات تحت ستار المجتمع المدني، ولم تبخل بتمويل ولا بحماية، ثم بدأ إسقاط الأنظمة في مهمة تاريخية، استغرقت عشرين عاماً بالتمام والكمال، من إسقاط البعث في العراق 2003، إلى إسقاط البعث في سورية 2023، وبين التاريخين، وعند المنتصف بينهما، تم إسقاط عدد من الدول العربية، وتفكيك الجيوش، وخلق نزعات تقسيم وانفصال، وتمزيق الانسجام الاجتماعي، وإحياء نزعات طائفية ومذهبية، وابقاء فكرة الدولة غائمة هائمة غير ذات قدرة حاسمة على حماية ترابها الوطني وسلامة وحدة الشعب وصيانة التماسك الاجتماعي، وتحصين السلم الأهلي ضد الفوضى والعنف والاحتراب الأهلي، كل ما فعلته أمريكا في العشرين عاماً من 2003 – 2023، هو خلق دولة عربية مُهانة، دولة عندها عقدة الدولة، اسمها دولة لكن تعجز عن بسط سلطانها على أرضها وشعبها، دولة مُهانة كان نموذجها الأول العراق 2003، حيث غزو أمريكي بلا أي سند قانوني، مع خيانة من جنرالات الجيش، مع تواطؤ من فئات واسعة من النخب العراقية في الخارج، مع تدمير لحضارة العراق، مع إسقاط النظام، مع احتلال أمريكي، مع تفكيك الجيش، مع قواعد عسكرية أمريكية، مع خلق ميليشيات مسلحة، مع تغليب طوائف على طوائف، مع تنفيذ حكم الإعدام في صدام حسين صباح عيد الأضحى المبارك 30 ديسمبر 2006. 

الدروس التي خرج بها الأمريكان من تجربتهم في العراق، هي أنه من السهل غزو أي بلد عربي، دون أن تخسر علاقاتها مع باقي الدول العربية، أي أن الدول العربية المُهانة تفضل، أن يتفرج بعضها على بعض وهو يتساقط، كان هذا الدرس هو الميلاد الفعلي لنموذج الدولة المهانة في العالم العربي، بحيث يتم قبول أي شيء، وغض الطرف عن كل شيء، وترك الأمور تجري في استسلام كامل لمقادير التاريخ. لم تفطن الدولة العربية المهانة لأهمية العراق في المنظومة العربية، ثم لم تفطن، لأن ما يحدث مع العراق مجرد تجربة سوف يتم تكرارها مع غير العراق، لم يفطن أحد إلا بعد فوات الأوان مع موجات الربيع العربي، حيث بدأت الأنظمة تتساقط مثل الفئران، تساقطت وكانت تعلم، أن الأمريكان ينحرون وينخرون في جذورها وفي عمق دارها ومن داخلها. تكررت الفطنة المفقودة مع تقسيم السودان وإعلان استقلال دولة جنوب السودان قبل موجات الربيع العربي بأشهر قليلة في صيف 2011، ثم يسقط النظام السوداني 2019، ثم تفكيك الجيش السوداني، ثم تمزيق نسيج المجتمع السوداني، ثم حرب أهلية، ثم مستقبل مجهول، والمستقبل المجهول هو القاسم الأعظم المشترك بين كافة الدول العربية دون استثناء واحد، وهذه أكبر إهانة في حق أي شعب أو دولة، إذ يجهل إلى أين تسوقه الأحداث، ويفقد الوعي بالطريق وتضيع البوصلة من بين يديه. هذه الدولة العربية المُهانة، ومعها الجامعة العربية المُهانة، دخلت الاختبار العسير على مدار عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، وقد خرجت إسرائيل من هذا الاختبار بأن العرب- وهم قلب الشرق الأوسط- في لحظة مثالية بالنسبة لتوسيع وتعميق المشروع الصهيوني، كما تأكد لديها، أن اللحظة مواتية للضرب على حديد الشرق الأوسط، وهو ساخن وإعادة تشكيله وفق هواها، وهو معدوم الإرادة منزوع الحمية، إسرائيل تحصد ثمرات عشرين عاماً من التخريب والتدمير الأمريكي المنظم للعالم العربي 2003 – 2023، فهل تنتهي الحقبة الأمريكية لتبدأ الحقبة الصهيونية؟ هذا مشروط، بأن يدرك العرب، أن استمرار نموذج الدولة المهانة لن يأتي من ورائه إلا المزيد من الهزائم  .

السؤال الأن: هل من الممكن الخروج من عقدة الدولة المهانة إلى أفق الدولة الحرة القوية ذات السيادة؟

هذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.