أمام صيدلية الإسعاف بوسط القاهرة الشهيرة بتوفير نواقص الأدوية، تمتد الطوابير يوميًا لمرضى وذويهم، جاءوا من كل حدب وصوب من محافظات مصر باحثين عن أمل في إيجاد أدوية أساسية لحياتهم، فشلوا في العثور عليها بمدن كاملة.

يبحث الواقفون في الطابور عن أدوية مزمنة مثل، الأنسولين الذي اختفى تقريباً من بعض المناطق، ومضادات حيوية أساسية مثل أموكسيسيلين وأزيثروميسين، وعلاجات ضغط الدم وأدوية الإنزيم المحول للأنجيوتنسين، وأدوية القلب مثل الأسبرين المعدل والستاتينات.

تتضمن أيضًا أدوية الأورام ومشتقات الدم، وأدوية الأمراض النفسية مثل مضادات الاكتئاب والمهدئات، وأدوية الغدد كتلك الخاصة بالغدة الدرقية، وبعض هذه الأصناف متوفرة فقط في صيدليات محدودة أو عبر قنوات غير رسمية بأسعار مضاعفة، بحسب الصيادلة.

يصف الدكتور محمد علي صاحب إحدى الصيدليات، نقص الأدوية بأنه “جرح مفتوح” يؤثر على الأمراض المزمنة، حيث يضطر الصيادلة إلى رفض طلبات المرضى يومياً، حتى أن بعض الشركات تستغل الوضع؛ للضغط من أجل زيادات سعرية، رغم تحقيقها مبيعات قياسية في 2024.

يضيف أن النقص يفاقم من انتشار الأدوية المغشوشة أو المهربة، مما يعرض حياة الناس للخطر، وهو أمر يفسره د. عبد المجيد مالك صيدلية، بأن “النواقص” تستخدم كأداة ضغط لتعديل الأسعار، ما يعني أن الأزمة هدفها الاتفاق على تسعير جديد.

تضم السوق المصرية نحو 17 ألف مستحضر دوائي، تنتج عبر أكثر من 170 مصنعاً للدواء، ومئات الشركات المصنعة لدى الغير، بحسب تقديرات غرفة صناعة الدواء باتحاد الصناعات وشعبة الأدوية بالغرف التجارية.

بحسب الصيادلة الذين التقت بهم “مصر 360″، ما بين 200 إلى 300 مستحضر دوائي “ناقص في السوق”، تزامنًا مع ارتفاع أسعار الأدوية بنسب تصل إلى 300% خلال النصف الأول من 2025، الأمر الذي يلقي بظلاله القاسية على محدودي الدخل، الذين يجدون أنفسهم عاجزين عن تأمين العلاج أو مضطرين للتضحية باحتياجاتهم الأساسية لشراء دواء قد يعني الحياة لهم أو لأحبائهم.

الدواء.. سلعة أمن قومي

الدكتور علي عوف، رئيس شعبة الأدوية بالغرفة التجارية، شدد بداية، على أن الدواء ليس مجرد سلعة تجارية، بل هو سلعة اجتماعية وأمن قومي، مشيراً إلى حرص الدولة على توفير الدواء بأسعار مناسبة قدر الإمكان للمواطنين.

قال إن هيئة الدواء هي الجهة الوحيدة المسئولة عن التسعير الجبري للدواء في مصر، والتسعير يتم بناءً على دراسة لتكلفة المواد الخام، والتعبئة، والرواتب، والكهرباء، والمياه، لكن أسلوب التسعير الحالي قديم، ولا يعكس الواقع الحقيقي للتكاليف التي تتكبدها الشركات.

يرى عوف أن التسعير الجبري يؤدي إلى خسائر للشركات المنتجة، إذ أن الأسعار المحددة من الهيئة غالباً ما تكون أقل من تكلفة الإنتاج الفعلية، واعتبر ارتفاع تكاليف الإنتاج، بما في ذلك الكهرباء والتأمينات ورسوم تسجيل الملفات، دون تحريك الأسعار، يدفع بعض الشركات إلى إيقاف الإنتاج، ويتسبب في نقص الأدوية الحيوية مثل أدوية القلب، الهرمونات، والسكري في السوق المصري، وبين أن الشركات الوطنية غير قادرة على تغطية السوق بالكامل عند انقطاع الأدوية المستوردة، مما قد يؤدي إلى أزمة حقيقية.

أزمة الـ “كاردفسين” 

يضرب د. علي عوف مثالا بعقار “كاردفسين” البديل المصري لعقار “لانوكسين” المستخدم لعلاج ضعف عضلة القلب، والذي كان شبه منعدم التوفر مؤخرا، وسيظل كذلك خلال ثلاثة أسابيع على الأقل، حتى في صيدليات الإسعاف القليلة العدد.

 شكل هذا النقص أزمة حقيقية، تهدد حياة عدد كبير من المرضى، خصوصًا مع غياب البدائل، مضيفًا أن هناك بوادر انفراجة، لكن الأزمة لا تزال قائمة، وتتطلب إجراءات أسرع وأفضل؛ لأنه وبكل أسف الدواء بات متوفرًا فقط داخل صيدلية الإسعاف فرع “الجيزة”، فهل يعقل أن يتكدس ملايين من المواطنين أمامها وهل الكمية الموجودة ستغطي الطلب عليها؟

اعتبر عوف، أن الأمر يستدعي شفافية كاملة من هيئة الدواء أمام رئيس مجلس الوزراء واعترافاً بالمشكلة، بدلاً من إنكارها أو التقليل منها، مؤكدًا أن الأسماء التجارية المشهورة للأدوية تكون أسعارها مرتفعة، فيما يمكن العثور على بدائل أقل شهرة بنفس الجودة وبأسعار أقل بكثير.

وشدد “عوف”، على أن الدواء المصري يتمتع بجودة عالية تعادل المستورد، ومن الضروري تغيير وعي وسلوك المستهلك تجاه البدائل المحلية، موضحًا أن المشكلة ليست في قدرة المصانع على الإنتاج، وإنما في نقص الدعم والتعاون من هيئة الدواء، خصوصا في مجال توقع النقص وتحفيز الإنتاج المحلي مسبقاً.

أكد أن الهيئة مطالبة بمرونة أكبر في المفاوضات مع الشركات وتحسين إدارة نقص الأدوية بشكل احترافي، وأضاف أن بعض الخطوات بدأت تُتخذ مؤخرًا، مثل زيادة إنتاج أدوية القلب، لكن هذا جاء متأخراً بعد خسائر كبيرة. د

مسئولان: الوضع طبيعي وجيد

تصريحات الدكتور علي عوف، رئيس شعبة الأدوية بالغرفة التجارية تتنافى مع حديث د. علي الغمراوي، رئيس هيئة الأدوية، الذي يقول إنه تم القضاء على أزمة نواقص الأدوية، وحال وجود نقص في دواء أو آخر، فهو حالة طبيعية وموجودة على مستوى العالم، والنواقص لا تتعدى الـ17 مستحضرا، وهو أمر طبيعي.

وفي سياق شبه متطابق يقول رئيس لجنة التصنيع الدوائي بنقابة صيادلة القاهرة، محفوظ رمزي، إن السوق الآن في حالة جيدة، والمرضى خاصة مرضى السكري، لا يعانون من نقص الأدوية، التي يزعم البعض أنها غير موجودة.

وأضاف رمزي، أن الوضع الآن مختلف تماماً عن مارس 2024، حيث تم توفير جزء كبير من الأدوية والأمور مستقرة إلى حد كبير، موضحًا أن بعض النواقص المحدودة لأسماء تجارية تعود لعلاقات تجارية بين الشركات ومقدمي الخدمة الطبية، لكن الهيئة تعمل على سد الخانات الكبرى، بما في ذلك الأنسولينات والبيوتكنولوجي.

تطرق إلى جولة قام بها في بعض الصيدليات، كشفت له “نقصًا مؤقتًا” في الأنسولين وأدوية أخرى؛ بسبب نظام “الكوتة” الذي يخصص كميات محدودة؛ بسبب مشاكل في التوريد أو المصنع، وليست مشكلة في الصيدليات نفسها، لكنه أكد، أن الوضع الدوائي الآن أفضل بكثير من السابق، مع استعداد هيئة الدواء للتدخل، وحل أي أزمة تظهر لضمان استقرار السوق وتأمين احتياجات المرضى.

بلغت مبيعات الأدوية بمصر نحو 154.7 مليار جنيه خلال عام 2023، بزيادة تلامس 25% مقارنة بعام 2022، فيما تراجعت الوحدات المباعة بنسبة 7.3% إلى 3 مليارات عبوة خلال العام نفسه.

بيروقراطية ومافيا

من جانبه الدكتور وحيد عبد الصمد، أمين عام نقابة الصيادلة السابق، قال إن إنشاء هيئة الدواء في مصر جاء على غرار نفس البيروقراطية القديمة للإدارة المركزية لشؤون الدواء، ما قضى على استقلالية القرار التي كانت مطلوبة بدرجة وزير.

ووضح أن الهيئة الجديدة لم تتبنَ النظم والأساليب الحديثة المعتمدة في هيئات دوائية عالمية مثل الـ FDA الأوروبي والسعودي، بل استمرت في العمل بنفس السيستم “أي النظام” القديم وأفراد الإدارة السابقين، ما أدى إلى بقاء المشاكل نفسها.

وأشار عبد الصمد، إلى وجود تعارض حاد في السياسات وقرارات التسعير، خصوصًا بعد تعويم الجنيه المصري وارتفاع سعر الدولار، حيث أن 90% من مدخلات التصنيع الدوائية يتم استيرادها بأسعار متغيرة يوميًا.

واعتبر أن ضعف الرقابة والتسعير غير الشفاف أدى إلى توقف العديد من الشركات عن الاستيراد والتصنيع، مما ساهم في تفاقم أزمة نقص الأدوية في السوق، موضحًا أن هناك تضخماً في أسعار بعض الأدوية في القطاع الخاص، حيث تحقق الشركات أرباحًا خيالية تصل إلى 150%، داعيًا لرقابة صارمة تمنع الاحتكار، مع السعي لتصنيع الأدوية الناقصة فورًا.

وقال إن السوق يعاني من مافيا شركات، تستغل الثغرات، وتسعى لتحقيق أرباح غير عادلة على حساب المواطنين، ما يستدعي إصلاحات عاجلة وتحسينات في منظومة إدارة الدواء، مضيفًا أن شركات الأدوية المحلية لا تصنع أصنافاً كثيرة، رغم تسعيرها بأسعار مرتفعة، ما يسمح للمافيا بالتحكم في السوق عن طريق توفير كميات قليلة، تجعل الطبيب مجبراً على وصف الدواء الأغلى.

بخلاف رئيس هيئة الدواء، أكد أن أزمة نقص الأدوية تشمل ما بين 200 و300 صنف من أدوية ضرورية مثل، أدوية القلب والسكري والروماتيزم وأدوية التخدير والأورام، لافتًا إلى مشكلة زيادة الدين على هيئة الشراء الموحد التي وصلت إلى 43 مليار جنيه، ما يؤثر على القدرة على تلبية احتياجات المستشفيات الحكومية.

اعتبر أن الحل يبدأ بتشكيل غرفة عمليات مركزية لإعادة هيكلة السوق، مع تفعيل الرقابة على التصنيع والتداول وإعادة تسعير الأدوية بشكل شفاف، بناءً على تكاليف الإنتاج العالمية والأسعار في البورصات الدولية. وأشار إلى أهمية فرض العقوبات على المصنعين غير الملتزمين، خاصة الذين يملكون تسجيلات رسمية، لكن لا ينتجون.

لماذا نتجاهل الهند؟

انتقد د. عبد الصمد تجاهل اعتماد الهند كدولة مرجعية لصناعة المواد الخام الدوائية، رغم أنها من أكبر وأرخص الدول المنتجة عالميًا، حيث تعتمد عليها كبرى الدول مثل أمريكا في تصنيعها، مشيرًا إلى أن مصانع أمريكية تُنتج المواد الخام الدوائية في الهند بمعايير “يو إس بي” ذات المواصفات الأمريكية العالية.

الهند حققت قيمة سوقية من الأدوية بقيمة 50 مليار دولار أمريكي في السنة المالية 2023- 2024، وأصبح هذا القطاع ركيزة أساسية للاقتصاد الهندي، كما باتت صناعة الأدوية الهندية ذات مكانة بارزة في السوق العالمي، حيث تحتل المرتبة الثالثة من حيث الحجم والمرتبة الـ 14 من حيث القيمة.

 وقال عبد الصمد، إن هناك تلاعبا في سوق الأدوية، فمعظم الشركات المصرية تعتمد على استيراد كميات كبيرة منها، لكنها تأتي أحيانًا عبر مناطق حرة في أوروبا كبلجيكا وألمانيا تحت مسميات أوروبية، بهدف رفع الأسعار وعدم التصريح، بأن مصدرها هندي.

وأوضح أن هذا التلاعب في سلسلة التوريد يرفع تكلفة الدواء بشكل غير مبرر، فتشكيلات هيئة الدواء الحالية تفتقر لممثلي النقابات والمجتمع المدني والمستثمرين، مما يحد من شفافية صنع القرار، ويجعل المصالح الاستثمارية تسيطر على العملية، مؤكداً ضرورة وجود تواصل مباشر بين كل المعنيين لضمان صناعة دواء آمنة ومتاحة.

أضاف أن أسعار الأدوية في الهند أقل بنحو 50% من أسعار السوق المحلية، وهي معتمدة عالمياً، وتستورد منها دول كثيرة، بشرط أن يكون الدواء مسجلاً ومتداولاً في أوروبا وأمريكا.

من المتوقع، أن تنمو صناعة الأدوية بالهند إلى 130 مليار دولار أمريكي من حيث القيمة بحلول نهاية عام 2030، حيث اجتذب قطاع الأدوية والمستحضرات الصيدلانية أيضًا استثمارات أجنبية مباشرة تراكمية بنحو 699 مليون دولار أمريكي خلال الفترة (إبريل- سبتمبر) 2022، وفقًا للبيانات الصادرة عن وزارة تعزيز الصناعة والتجارة الداخلية الهندية.