لم يكن حوار أمين عام الجامعة العربية الأسبق “عمرو موسى”، بكل حمولاته المثيرة للغضب على نطاق واسع، جديدا.

بدواعي التدقيق في تاريخ بث الحوار لأول مرة على شاشة محطة “أم بي سي” ضمن برنامج “السطر الأوسط”، ثبت بيقين أنه جرى قبل خمس سنوات كاملة بعد نشر الجزء الثاني من مذكراته، التي تطرقت إلى تجربته في الجامعة العربية.

لماذا استدعاء نص تلفزيوني قديم الآن؟!

هذا سؤال أول.

هل كان ذلك مقصودا بدواعي الحملة المتصلة على “جمال عبد الناصر” وإرثه، وما يمثله في الضمير العربي العام؟

هذا سؤال ثان.

استغرقت المساجلات مراجعات من مواقع فكرية وسياسية متناقضة لسؤال: هل كان “عبد الناصر” ديكتاتورا؟

غابت الرؤى النقدية الجادة، وتصدرت المشهد أحكام مرسلة أقرب إلى تصفية الحسابات مع فكرة الثورة نفسها، ومع إرث “عبد الناصر” كله.

لم تكن هناك أية نظرة تساعد على أية إجابة جادة، تنظر في عصره وتحدياته، والأوزان الاستثنائية، التي اكتسبتها مصر في عالمها العربي وقارتها الإفريقية، وداخل حركة العالم الثالث، ولا إلى طبيعة نظامه ومدى تناقضه مع مشروعه.

قوة “عبد الناصر” في مشروعه لا في نظامه.

هناك فارق جوهري بين النقد المشروع وتصفية الحسابات.

الأول، يؤسس لرؤية تساعد على بناء المستقبل.. والثانية، تمثل اعتداء حقيقيا على الذاكرة الوطنية.

في جميع السيناريوهات والاحتمالات المستقبلية، لا يمكن تجاوز المشروع الناصري بغير البناء على أهدافه ومراميه.

بتعريف الدكتور “جمال حمدان“، فإن الناصرية هي المصرية الخالصة، أن تكون مصريا يعني بالضبط أن تكون ناصريا، سواء اختلفت مع “عبد الناصر” نفسه، أو بعض سياساته.

كان قصده المباشر نظرية الأمن القومي في مصر، التي اكتسبت كامل ملامحها وصياغتها في عصره.

وبتعريف الأستاذ “محمد حسنين هيكل”، فإنها المشروع الوطني المتجدد.

إنه مشروع واحد، يضاف إليه، ويطور حسب احتياجات العصور المتغيرة.

إذا ما لخصت ثورة يوليو في هزيمة (1967)، فإنه عدوان على الحقيقة يعجز عن تفسير لماذا عاش “عبد الناصر” في وجدان شعبه، كأنه لم يحكم أحد غيره مصر رغم رحيله قبل خمسة وخمسين عاما؟

بقوة الحقائق يفترض أن تكون مصر قد عبرت الهزيمة في نصر أكتوبر (١٩٧٣).

كان يفترض أن تعبر بالوقت نفسه أي مشاعر سلبية لحقت الهزيمة، لكنها تكرست.

لماذا حاربنا وضحينا؟

في السؤال شيء من هزيمة الروح.

النتائج ناقضت التضحيات والسياسة خذلت السلاح.

كان الوجه الآخر لتبديد ثمار النصر في أكتوبر هو تكريس الهزيمة في يونيو.

بدا الأمر مقصودا، حتى لا تثق مصر في نفسها مرة أخرى، حتى وصلنا إلى حافة الخروج من التاريخ.

ما هو متوافر- حتى الآن- شهادات لقادة عسكريين، يدافعون فيها عن أنفسهم، أو يتهمون آخرين بالمسئولية.

حسب المثل الشائع، فإن “الهزيمة يتيمة والنصر له ألف أب”.

تلك الشهادات- رغم أهمية بعضها- لا تؤسس لرواية مصرية موثقة ومتماسكة ومصدقة.

وثائق يونيو مودعة في خزائنها، والخزائن عليها أقفال ومتاريس.

ليس من مصلحة مصر حجب ما تقصته لجنة برئاسة اللواء “حسن البدري” المؤرخ المعتمد للجيش المصري بعد يونيو مباشرة عن أسباب الهزيمة بالأسرار والخرائط.
لم يعد هناك سر واحد خاف على أحد في العالم.

تتوافر آلاف الوثائق عن يونيو وأسرارها غربية وإسرائيلية، دون أن تكون هناك رواية مصرية واحدة لها صفة الرسمية.

الدول تنشر وثائقها السياسية والعسكرية بعد عدد معين من السنين؛ لتضع الحقيقة أمام مواطنيها- أيا كانت مرارتها- حتى لا تتكرر أي أخطاء، جرت في الماضي.

الأمر نفسه نفتقده في حربي “الاستنزاف” و”أكتوبر”.

هناك شهادات ودراسات نشرت، لكن الوثائق قضية أخرى.

للوثائق كلمة أخيرة، تجيب عن كل الأسئلة: كيف هزمنا؟ ولماذا؟ وكيف قاومنا وصمدنا حتى عبرنا الهزيمة في أكتوبر؟ ثم كيف أجهضت النتائج السياسية؟

هناك فارق بين مراجعة التاريخ بالوثائق المثبتة لإدراك حقائقه وتصحيح الذاكرة العامة وبين تعميق الشعور بالهزيمة كقدر إغريقي، لا يمكن الفكاك منه، أو نفي أسبابه.
بلغة الوثائق يتأسس الاتفاق والاختلاف على قاعدة معلومات صلبة.

كانت هزيمة يونيو كارثية بأي معنى عسكري، وتسببت الثغرات السياسية في بنية نظام الحكم، أن تأخذ حجمها الخطير.

ذلك جانب أول في الواقعة التاريخية لا سبيل إلى إنكاره، أو التحلل من مسئوليته.

وقد جرت مراجعتان على قدر كبير من الأهمية.

الأولى، إعادة تصحيح دور القوات المسلحة، أو دخولها إلى غير أدوارها.

أعيد بناؤها من تحت الصفر تقريبا وفق مواصفات الجيوش الحديثة، التي تعلي من شأن الكفاءة والاحتراف، وتمنع الانشغال بالسياسة.

وأسندت مسئوليتها إلى نخبة من العسكريين الأكفاء في القيادة العامة، كما في جميع الأسلحة.

تصدر المشهد العسكري المصري أفضل ما في البلد من كفاءات متاحة.

يعزى ذلك لـ”عبد الناصر” التي ساعدت شعبيته والثقة العامة فيه، رغم الهزيمة العسكرية، في تعبئة البلد كله لخوض حرب استعادة سيناء المحتلة بقوة السلاح.

كانت الوطنية المصرية مستعدة، أن تقدم كل ما لديها من طاقات عطاء ودم بإيمان حقيقي أن البلد تحارب معركة وجودها ومستقبلها.

لم تكن مصادفة بعد أيام من الهزيمة، أن تفرض قوات محدودة في “رأس العش” كلمتها على الإسرائيليين، وتوقع بهم خسائر فادحة في لحظة انتشاء عسكري.

بهذه الروح تمكنت القوات المصرية من خوض حربي “الاستنزاف” و”أكتوبر”، وكان الجندي المصري العادي بطلهما بلا منازع.

كان ضروريا لإعادة بناء القوات المسلحة على أسس احترافية تصفية أوضاع قديمة، تسببت في الهزيمة منها التدخل في الحياة السياسية، ومنها ما هو منسوب للمخابرات العامة على عهد “صلاح نصر” من انحرافات، جرى التحقيق فيها.

بعض التحقيقات سربت، وأغلبها ما زال مودعا في خزائن الدولة، ولا يصح أن تظل في مكامنها إلى الأبد بعيدا عن علم الرأي العام، وحقه أن يعرف ما حدث بالضبط.

والثانية، إعادة النظر في طبيعة النظام نفسه.

وقد ترددت في المراجعات، التي احتوتها محاضر رسمية للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، شارك فيها الرئيس “جمال عبد الناصر”، عبارات “المجتمع المفتوح” و”دولة المؤسسات”، كما بدأ التفكير في التحول إلى التعددية الحزبية.

بنفس الوقت، بدأت بالجامعات المصرية أقوى وأطول حركة طلابية على خلفية الهزيمة العسكرية، تدعو إلى تعبئة الجبهة الداخلية لمتطلبات القتال على الجبهة الأمامية وتوسيع المشاركة السياسية في اتخاذ القرار.

هكذا استأنفت مصر المواجهات العسكرية.

شاع وقتها شعار “يد تبني ويد تحمل السلاح”.

البناء والحرب معا، القتال والتصحيح في نفس الوقت.

مثلت الهزيمة تراجعا فادحا في المشروع القومي، لكنها لم تكن نهاية المطاف.
كانت السنوات التي أعقبت الهزيمة أفضل سنوات العسكرية المصرية، وأفضل سنوات “جمال عبد الناصر”، بالنظر إلى حجم العطاء الذى بذل.

أرجو ألا ننسى، أن المصريين قرروا وسط ظلام الهزيمة عدم الاستسلام، وأعلنوا المقاومة في تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو المليونية التي كلفت “عبد الناصر” استئناف القتال.

كانت المقاومة بالسلاح والدماء الجانب الآخر في قصة يونيو وما بعدها.

هكذا يبدو تعبير “النكسة”، الذي صكه الأستاذ “محمد حسنين هيكل” في خطاب “التنحي”، الأكثر دقة بوصف الإرادة المصرية الكامنة عند لحظة هزيمة عسكرية.

معنى التعبير، أن الهزيمة مؤقتة، وأنه يمكن تحديها وتجاوزها بتصحيح وتصويب أسبابها.

بالنتائج العسكرية ثبت صحة وصف “النكسة”.

غير أن المفارقة الكبرى، أن ما هو مؤقت من انكسار عسكري تحول بالإدارة السياسية لحرب أكتوبر إلى إقرار متأخر بالهزيمة.

بين تحولات السياسة والانقلابات الاستراتيجية، نشأت صناعة الهزيمة في الوجدان العام، فـ”أكتوبر آخر الحروب”، و”لن نحارب بالنيابة عن الفلسطينيين والعرب لآخر جندي مصري”، كما تردد على نطاق واسع في الخطابين الإعلامي والسياسي.

جرى تسطيح قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وقضية الأمن القومي المصري الذي دافعت عنه قبل أي شيء آخر.

أهدرت التضحيات الهائلة التي بذلت في ميادين القتال، ونشأت طبقة جديدة، وصفت في البداية بـ”القطط السمان” لتساند السلام مع إسرائيل.

شعر جيل كامل، وهب حياته لقضية تحرير بلاده بقوة السلاح بالخديعة الكاملة، فقد حارب من أجل حلم؛ ليستيقظ على كابوس.

كانت تلك هي الهزيمة الحقيقية، التي أرادوا إخفاءها وراء تكريس “عقدة يونيو” في الوجدان العام جيلا بعد آخر.

أي قراءة مبتسرة للتاريخ تفضي إلى التجهيل به، وتكريس ثقافة الهزيمة في أجيالها الجديدة.

المفارقة الكبرى في القصة كلها، “عمرو موسى” والصراع العربي الإسرائيلي، أن أراءه عن هزيمة يونيو، وما بعدها تكاد تناقض ما يتبناه اليوم من دعم مفتوح لقضية المقاومة الفلسطينية تحت أسوأ الظروف.

بأي نظر منصف، يحسب له دفاعه المتصل عن شرعية السابع من أكتوبر (2023) نافيا مسئوليتها عن حربي الإبادة والتجويع في غزة المحاصرة.

المقاومة حق مشروع، لا يجب الانتقاص منها، ما دام هناك احتلال فهناك مقاومة.

مشكلته أنه لم يراجع نظرته القديمة لا لحرب (1967)، ولا لأوهام السلام، التي أوصلتنا إلى حافة تهديد الوجود العربي كله، والتغول عليه بذريعة “إسرائيل الكبرى”.

أريد أن أقول بكل وضوح إنه لا يوجد مشروع واحد قادر على منازعة المشروع الصهيوني في أخطر تجلياته غير المشروع العروبي، الذي يعد “عبد الناصر” رمزه الأكبر.