لم يكن الثالث من سبتمبر 2025، مجرّد احتفال، جرت وقائعه في بكين بذكرى تاريخية “مرور 80 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية”.

 فعلى منصة العرض العسكري الأضخم في تاريخ الصين الحديث، ارتسمت صورة ثلاثية، هزّت المشهد الدولي، الرئيس الصيني شي جين بينج في المنتصف، عن يمينه فلاديمير بوتين الرئيس الروسي، وعن يساره كيم جونج أون الرئيس الكوري الشمالي.

خلفهم آلاف الجنود وآليات متطورة وصواريخ نووية فرط صوتية.

الصورة لم تكن بروتوكولًا، بل رسالة مدروسة، الصين لا تستحضر ماضيها في الحرب العالمية الثانية فحسب، بل تقدّم نفسها كقوة رادعة مستعدة لمواجهة أي هيمنة غربية، وبناء نظام عالمي جديد.

قبلها بيومين فقط، وقف شي في قمة منظمة شنجهاي للتعاون، داعيًا بوضوح إلى نظام “ما بعد أمريكا” وتعددية قطبية، تنهي عصر الانفراد الغربي.

 هكذا جمعت بكين بين لغة السياسة في القمة، ولغة الردع في العرض، في أسبوع واحد، أرادت له أن يكون تعريفًا جديدًا لدورها العالمي، الصورة في بكين لم تكن صدفة… هي نتيجة سبعين سنة من الأخطاء الأمريكية التي صنعت تحالفًا جديدًا.

الصورة التي خرجت من بكين، لم تولد بين ليلة وضحاها. إنها نتاج سبعين عامًا من أخطاء أمريكية متراكمة،

ففي فيتنام، تورطت واشنطن في حرب استنزاف عبثية، منحت بكين فرصة للتمدد وإعادة التموضع.

وعقب سقوط الاتحاد السوفيتي، بدلا من دمج روسيا في النظام الغربي، اختارت الولايات المتحدة إذلالها عبر توسيع الناتو ومحاصرتها اقتصاديًا.

وعمقت محاولة إسقاط الحزب الشيوعي الصيني عبر دعم الحراك الطلابي في تياننمين العداء الصيني– الأمريكي.

كذا دفع وضع كوريا الشمالية مع إيران والعراق في خانة “العدو المطلق”، بيونج يانج إلى الانسحاب من الرقابة الدولية وتطوير سلاح نووي.

هذه السلسلة من الأخطاء الاستراتيجية، صنعت بيئة دفعت الخصوم الثلاثة– الصين وروسيا وكوريا الشمالية– إلى التقارب مجددًا، فكانت صورة بكين النتيجة الطبيعية لمسار طويل من الغرور الأمريكي المستمر والمتفاقم..

لغة الردع.. أسلحة قلبت المشهد

ما جعل العرض العسكري أكثر تأثيرًا، لم يكن فقط ضخامته، بل نوعية الأسلحة التي عرضتها الصين لأول مرة، في رسالة مباشرة للولايات المتحدة وحلفائها.

فللمرة الأولى، استعرضت بكين قدرتها الكاملة على الإطلاق النووي من البر والبحر والجو.

  • الأبرز كانت الصواريخ الباليستية DF -61 وDF -31 المتنقلة، وصاروخ JL -3 البحري، إلى جانب نسخة مطوّرة من DF -5C بعيدة المدى (20 ألف كم)، والقادرة على حمل عدة رؤوس نووية مستقلة، وصواريخ فرط صوتية مضادة للسفن: مثل YJ -17 وYJ-1 9 وYJ -20 وYJ -21، مصمّمة للتحليق بسرعات هائلة مع قدرة مناورة لتجاوز الدفاعات الغربية.
  • الطائرات بدون طيار “رفيقة المقاتل، كان أبرزها GJ -11 الشبحية (stealth flying wing) التي تصاحب المقاتلات، وتزيد من قدراتها الهجومية.
  • الغواصات غير المأهولة: مركبات بحرية ضخمة بطول يتجاوز 20 مترًا، تُستخدم لحماية البنية التحتية البحرية وردع أي هجوم على خطوط الطاقة والتجارة.
  • الأنظمة المضادة للطائرات بدون طيار: مزيج من أسلحة الليزر، والموجات الدقيقة عالية الطاقة، وبنادق متخصصة لمواجهة أسراب الدرونز “الطائرات المُسيرة” الغربية.
  • المقاتلات والقاذفات: النسخة المطورة من القاذفة H -6N والمقاتلة الشبحية J -35 المعدّة لحاملات الطائرات.
  • الحرب السيبرانية والذكاء الاصطناعي: ظهور وحدات جديدة مثل قوة دعم المعلومات ووحدة الفضاء السيبراني، تؤكد أن الردع لم يعد عسكريًا فقط، بل تكنولوجيًا وشبكيًا.

هذه المنظومة ترجمت تحول الجيش الصيني من قوة إقليمية إلى جيش ردع عالمي، قادر على مواجهة أنظمة الدفاع الغربية الأكثر تقدمًا..

التحالف.. شي– بوتين– كيم

وقوف بوتين، وكيم، بجوار شي لم يكن مجرد لياقة دبلوماسية، الرسالة كانت واضحة: تحالف يقف في مواجهة الغرب..

بوتين حصل على لحظة “كسر عزلة” منذ حرب  أوكرانيا، كيم نال شرعية دولية نادرة. شي ظهر كقائد يجمع رموز” المعسكر المضاد” في قلب بكين.

وإذا استرجعنا مشهد عيد النصر الروسي قبل شهر، حين استضاف بوتين شي، وكيم في موسكو، فإننا أمام طقس جديد يتكرر، “احتفالات الردع” التي يتناوب الحلفاء على تنظيمها لإرسال رسالة ثابتة للغرب، بأن التحالف قائم وراسخ.

ما قدّمته بكين اليوم لا يبتعد كثيرًا عن إرث موسكو في زمن الحرب الباردة. فقد كانت العروض العسكرية في الساحة الحمراء بموسكو طقسًا سنويًا لإظهار الردع، وتثبيت صورة الاتحاد السوفيتي كقوة لا تُقهر. لكن الفرق أنّ موسكو آنذاك كانت تستعرض قوتها لتعويض اقتصاد مثقل بالضعف، بينما بكين اليوم تفعل ذلك فوق قاعدة اقتصادية هي الثانية عالميًا. هذا الفارق يجعل العروض الصينية ليست مجرد تذكير بالماضي، بل إعلانًا عن قوة صاعدة تجمع بين الاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح في معادلة واحدة.

في المقابل، كان غياب “مودي” رئيس وزراء الهند عن العرض العسكري لافتًا.

الهند حضرت قمة شنجهاي، لكنها تجنبت مشهد الردع العسكري، في إشارة إلى حسابات دقيقة، نيودلهي تريد البقاء داخل دائرة الحوار مع بكين، لكن دون أن تصبح جزءا من تحالف يواجه واشنطن مباشرة.

واشنطن.. بين السخرية والقلق

واشنطن لم تتجاهل العرض، إدارة ترامب حاولت التقليل من أهميته، بينما المؤسسات البحثية، اعتبرته إعلانًا صريحًا عن تحدي الهيمنة الأمريكية في آسيا.

 ترامب علّق ساخرًا، بأن “شي يتآمر مع بوتين وكيم ضد أمريكا”، محوّلًا المشهد إلى مادة انتخابية. لكن خلف هذه التعليقات، يظل القلق الأمريكي من سرعة التطور العسكري الصيني حاضرًا بوضوح.

في الداخل، لم يكن العرض مجرد رسالة للخارج. وسائل الإعلام الصينية صاغته كـ “عيد وطني جديد”، وأبرزت صور الجنود والأسر التي تحتفل في الشوارع.

هذا البعد الجماهيري، يعكس حاجة بكين لتعزيز ثقة المواطن الصيني بدور بلاده العالمي، وربط قوتها العسكرية بفخر قومي، يوازي ما حققته اقتصاديًا. هنا، يتحول العرض إلى أداة لتثبيت “عقد اجتماعي” جديد، الدولة تحمي وتزدهر، والشعب يمنحها الولاء.

لم يكن المشهد محصورًا في الثلاثي الكبير (شي– بوتين– كيم). المنصة في بكين جمعت أكثر من 25 زعيمًا ورئيس حكومة من قارات مختلفة، من رؤساء دول آسيا الوسطى (كازاخستان، أوزبكستان، طاجيكستان)، وهناك كان الرئيس الإيراني، إلى قادة إفريقيا (زيمبابوي والكونغو)، مرورًا برؤساء من أوروبا الشرقية مثل ألكسندر فوكيتش في صربيا، وروبرت فيتسو في سلوفاكيا.

هذا الحضور المتنوع، أرادته بكين رسالة واضحة، التحالف ليس مغلقًا على كتلة شيوعية قديمة، بل شبكة واسعة، تضم دول تبحث عن بدائل للهيمنة الغربية.

وفي المقابل، كان الغياب الغربي لافتًا، لا وجود لزعماء من الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، على الرغم من تواجدهم سابقا في احتفالات عام 2015، أو حتى شركاء آسيويين كبار مثل، اليابان وكوريا الجنوبية والهند. غياب هؤلاء كشف بوضوح خطوط الانقسام الجديدة في النظام الدولي

بهذا المعنى، لم يكن الحضور الدولي مجرد وجوه على المنصة، بل خريطة سياسية مصغّرة للعالم القادم: عالم تتزعمه الصين في تحالف مرن متشعب، بينما يكتفي الغرب بمراقبة المشهد من بعيد..

العرب.. عين على بكين

في العالم العربي، حظي المشهد بقراءة مزدوجة من جهة، هناك من رأى فيه إعلانًا عن قوة بديلة قادرة على موازنة النفوذ الأمريكي، خصوصًا في ظل ما تتركه السياسات الغربية من فراغات في المنطقة.

ومن جهة أخرى، أثار العرض تساؤلات عن حدود “التحالف الشرقي” وقدرته، على أن يكون شريكًا للعالم العربي، أم أنه مجرد تحالف ردع عسكري بعيد عن قضاياه. بالنسبة لكثير من المراقبين العرب، كان المشهد في بكين فرصة للتفكير: هل يمكن المراهنة على الصين كقوة ضامنة لتوازن عالمي جديد، أم أن العالم يتجه ببساطة نحو مواجهة كبرى لا مصلحة للعرب، في أن يكونوا طرفًا فيها؟