تنفرد دولة إسرائيل الطارئة بين كافة دول الشرق الأوسط، أنها الدولة الوحيدة تقريباً التي تعمل في خدمة الشعب، بينما كافة دول الشرق الأوسط تقريباً، الشعوب فيها تعمل في خدمة الدولة، ثم الدولة تعمل في خدمة الحكام، ومن حولهم من فئات تحظى بالتمييز، وتفوز بالمنافع القريبة والبعيدة، ثم الحكام ومن حولهم يعملون في خدمة مصالح القوى الدولية سواء قوى السياسة والقرار أو قوى الاقتصاد والمال، وذلك يترتب عليه أخطر ما في معادلة السياسة في الشرق الأوسط، وهو أن إسرائيل هي أكثر دول الشرق الأوسط امتلاكاً لقرارها واستقلالاً في تفكيرها واخلاصاً لمصالحها وأمنها القومي، يساعدها في ذلك أمران: أولهما الدعم غير المحدود من أمريكا والغرب سواء بالسلاح أو المال أو الدبلوماسية أو الإعلام، إذ تعتبرها أمريكا والغرب امتداداً عضوياً للحضارة الغربية، كما هي جزء مكمل للأمن القومي الأوروبي والأمريكي. الحكومة والحكام في إسرائيل لهم مطلق الحرية والتصرف فقط، في كل ما يسمح لهم به الشعب الإسرائيلي، وشاهد ذلك حرب الإبادة التي تشنها على الشعب الفلسطيني فعليها توافق وطني، يصل إلى حد الإجماع داخل المجتمع الإسرائيلي حكاماً ومحكومين، وهذا إجماع في شكله ديمقراطي، لكن في مضمونه وحشي بربري همجي من شأنه تعميق العنف الإسرائيلي ضد محيطه العربي الإسلامي، هذا الإجماع الوحشي هو إعادة خلق جديدة لإسرائيل، حيث المزيد من الوحشية، تضمن المزيد من قهر الأعداء.

الوحشية في ذاتها، ليست جديدة فهي خصيصة طبيعية، رافقت إسرائيل منذ لحظة ولادتها كفكرة صهيونية، ثم كدولة يهودية، لكن الجديد هو شرعنة هذه الوحشية وتعويد النفس عليها، دون أدنى حرج أمام الضمير، ثم تعويد العدو الفلسطيني عليها، فليس أمامك إلا أن تخضع لسيدك الصهيوني، أو تلقى جزاءك إبادة لا تُبقي عليك ولا تذر منك شيئاً غير حطامك وأشلائك، ثم تعويد المحيط العربي والإسلامي، أن من حق إسرائيل أن تغضب كما تشاء، ثم تدمر كما تشاء، ثم تسفك الدماء كما تشاء، تغضب كما لو كانت إله الشرق الأوسط، الإله الذي له الحق المطلق في التأديب والعقاب، ثم لا يكون من حق الدول العربية والإسلامية غير الصمت، أو مناشدة المجتمع الدولي أو الانتظار، حتى يسكن غضب الإله ثم ينظرون كيف يشاركون في إعادة الإعمار، أخطر ما يجري منذ انطلقت حرب الطوفان، ثم حرب الإبادة في خريف 2023، هو هذا المعنى: تعويد أهل الإقليم كافة على حرية إسرائيل المطلقة في التدمير والتخريب والقتل وسفك الدماء، مجرد بروفات وتمارين وتدريبات ومناورات عملية ميدانية على قصف العواصم وضرب الأهداف وقتل القيادات وإبادة المدنيين في أكثر من بلد عربي وإسلامي في وقت واحد، من غزة إلى الضفة إلى لبنان إلى سوريا إلى اليمن إلى إيران، وكان قصف العاصمة الإيرانية طهران مساوياً في الوزن المعنوي هزيمة العرب في يونيو 1976، انتهى الوزن المعنوي الكبير الذي كان يملأ مخيال الشرق الأوسط في الربع قرن الأخير أي منذ مطلع القرن الحالي. 

المؤكد ثم المؤكد ثم المؤكد، أن كافة حكومات الإقليم باتت تدرك- بصورة أكبر- ما في الدولة الإسرائيلية من خطر بعضه ظاهر وأكثره كامن، بشاعته التي تظهر اليوم ليست إلا قليلاً من كثير، سوف تكشف عنه الأيام في المستقبل القريب أو البعيد. لكن الإدراك للخطر الإسرائيلي في شكله الجديد وحده، لا يكفي لمواجهته أو التحوط له، إنما يلزم الاستعداد العملي له، والاستعداد العملي مستحيل دون استدعاء همة الشعب وإحياء روح التحدي والارتفاع لمستوى الخطر الوجودي الذي يهدد الإقليم كله، وأهله كلهم دون استثناء، ثم من المستحيل استدعاء همة الشعوب مع بقائها على ما هي عليه من وضع مُخز مُذل مشين مُهين، حيث الشعوب في خدمة الدول، حيث الدول في خدمة الحكام ومن حولهم، وحيث الحكام ومن حولهم في خدمة المصالح الدولية وقوى المال العالمية، لا بد من تغيير هذه المعادلة المريضة إلى معادلة صحية سليمة حيث: الشعوب مصدر السيادة، وحيث الأمة صاحبة الإرادة، وحيث الكلمة العليا لعموم الناس، باعتبارهم ملاك أوطانهم وأسياد أنفسهم، فهم قوة الإنتاج، وهم قوة الدفاع، وهم أساس الوطن وقوامه، فلا معنى للوطنية، دون أن تكون مرادفاً لجملة الحقوق المدنية والواجبات العامة والحريات الأساسية، ولا معنى للوطنية، دون أن يكون الناس أحراراً في بلدانهم، كما لا معنى لها دون عدالة، ينال بها كل ذي حق حقه دون انتقاص، كما يؤدي ما عليه من واجبات دون افتئات، لا معنى للوطنية مع اعتقاد الحكام، أن الشعوب قطعان ينبغي أن تسير على قضبان، تُساس بالقوة وتُلجم بالحديد وتُدار بالقهر، وتحمد حكامها في الغنى والفقر، كما في اليسر والعسر. الوطنية في الشرق الأوسط لم تعد غير فكرة مبتذلة، يتخفى وراءها الحكام ومن حولهم، يحمون بها ما ينعمون به من سلطان مطلق غير مقيد، كما يحمون بها ما يراكمون من ثروات ممصوصة ومعصورة من دماء وعرق وكد الشعوب المغلوبة على أمرها. الوطنية في الشرق الأوسط أناشيد وأغان وهتافات كاذبة خاطئة، تغطي وتخفي سردية حزينة أليمة من قهر الشعوب وإفقارها وتزييف وعيها ونزع روح الحياة منها وتبليط همتها وسفلتة إرادتها وإطفاء نور الله في أعماقها. الوطنية في الشرق الأوسط ليست أكثر من حيلة ماكرة خبيثة، تسخط وعي الشعوب ثم تحنطها ثم توهمها، أنها ما زالت على قيد الحياة. شرق أوسط هذه هي علاقة شعوبه بحكامه، من المستحيل أن يرتفع لمستوى التحديات التي تهدد وجوده من جذوره. 

قبل مائة عام، منذ مطلع القرن العشرين، كانت شعوب هذا الإقليم تتوثب وتقفز نحو المستقبل بروح متحفزة وهمة عالية، بدأت بثورة إيران الدستورية، ثم لحقتها تركيا، ثم لحقتهما مصر، وهكذا كانت كافة شعوب الإقليم تنفض عن نفسها غبار القرون، وتنفض عن نفسها تراث الاستبداد، وتقاوم- ببسالة- الزحف الأوروبي عليها في قلب ديارها، وقبل مائة عام كذلك كانت تظهر إلى الوجود مصر وإيران وتركيا كدول مستقلة وشعوب تنزع للديمقراطية والعدالة والدستور والحداثة والاستنارة، مصر آلت منذ الربع الثالث من القرن العشرين إلى حكم الضباط وما زالت، إيران آلت منذ الربع الأخير من القرن العشرين لحكم الفقهاء وما زالت، تركيا بدأت بالضباط وبالحزب الواحد، وبالعلمانية المتشددة، لكنها في خلال المائة عام تطورت إلى من حكم الضباط إلى حكم مدني منتخب، كما تطورت من حكم الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية، كما تطورت من العلمانية المتشددة الى توازن تستفيد فيه من مزايا العلمانية مع اطلاق حريات التدين والعبادة وتوقير الأديان. بين الشعوب الكبرى الثلاثة في الشرق الأوسط تتفوق تركيا على إيران ومصر فلا يحكمها فقهاء مثل إيران ولا ضباط مثل مصر، اصطلحت تركيا مع الدين، دون أن يحكم كما في إيران ودون مزيد من المتاجرة بالدين في السياسة كما في مصر. وتضرب تركيا مثالاً حميداً لكيف يمكن الخروج التدريجي للجيش من السياسة والحكم والإدارة والاقتصاد والثقافة والإعلام، قطعاً الجيش التركي هو من أسس تركيا الحديثة على أنقاض تركيا الخلافة، لكنه منذ اللحظة الأولى وضع الضباط بين خيارين: إما العمل في الجيش أو العمل في السياسة، وكان هذا قرار أتاتورك نفسه. ثم بقي الجيش بعيداً عن السياسة، والمرات التي حدثت فيها انقلابات، لم يكن الغرض منها أن يتولى الجيش الحكم في تركيا بصفة دائمة، لكن كان الغرض منها حماية المبادئ الكمالية وهي علمانية الدولة، مدنية الدولة، بما فيها ابتعاد الجيش عن الحكم، لهذا كان الجيش يتدخل، ويعيد ترتيب الأوضاع، ثم يعود إلى الثكنات، فأحد أهم المبادئ الكمالية، هو أن الجيش التركي مكانه الطبيعي هو الثكنات العسكرية، وليس قصور الحكم ومرافق الدولة ومؤسسات الإدارة والسياسة والاقتصاد والإعلام. على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت تركيا العثمانية ثم الحديثة، وكانت إيران القاجارية ثم البهلوية ثم الخمينية، وكانت مصر العلوية، ثم الجمهورية، كانت الشعوب الثلاثة، وما زالت تناضل وتكافح في سبيل هدفين عظيمين: الحرية في الداخل، والاستقلال الوطني عن هيمنة الخارج، وبطبيعة الحال لهذا الكفاح مضمون اجتماعي، هو العدالة التي تضمن حقوق الناس في التعليم والعلاج والتقاضي والتوظيف والاستنارة والحداثة وتثقيف الروح وتهذيب الضمير وترفيع مستوى المعيشة وجودة الحياة. 

المشكلة الأكبر لم تعد فقط في أن الشعوب في خدمة الدول، لكن باتت في أنها انتهت بانهيار الدول ذاتها، فالشرق الأوسط هو الوكر الأكبر لحطام الدول المنهارة في العالم.

حتى تنهض الدول التي انهارت، وحتى نمنع المزيد من انهيار دول جديدة، يلزم أن نقلب المعادلة، فبدل أن تكون الشعوب في خدمة الدول، يلزم أن تكون الدول في خدمة الشعوب، فلا يتنقل الحكام بين القصور الفاخرة والمقرات الفارهة في ثلاث عواصم، منها عاصمتان، تم بناؤهما بالديون، وفي لمح البصر، في حين يعيش الشعب في بؤس وتعاسة وشقاء.  

كيف تكون الدول في خدمة الشعوب؟
هذا هو مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.