لأول مرة في تاريخها، تتعرض الدوحة لقصف جوي مباشر. خمس عشر طائرة إسرائيلية، عبرت الأجواء في تشكيل هجومي، لتقصف قلب العاصمة الخليجية، عشرة قذائف على هدف واحد في ثواني معدودة، المشهد لم يكن مألوفًا، ولم يخطر يومًا ببال قادة الخليج.
منذ 2012، قدّمت قطر نفسها كـملاذ سياسي لقيادة حماس، ووسيط إقليمي بغطاء إنسانى سياسي وبموافقة أمريكية.
لكن ما حدث في التاسع من سبتمبر 2025 قلب الطاولة رأسًا على عقب؛ فالملاذ لحركة حماس لم يعد آمنًا، والحماية الأمريكية لقطر ليست سوى وهم.
الصدمة مضاعفة؛ لأن الدوحة لم تُقصف في سياق حرب شاملة، بل في لحظة كانت فيها تؤدي دور الوسيط، وتقود مباحثات التهدئة. تم ضرب عاصمة الوسيط في اللحظة التي تقدّم فيها مقترحًا للسلام.
دخان الدوحة واعتراف نتنياهو
الانفجارات دوّت في شمال العاصمة، ارتجّت النوافذ في الأبراج الزجاجية، وغرق الحي الراقي في كتارا في أعمدة دخان سوداء. في المقاهي الراقية، ترك الناس أماكنهم وهربوا مذعورين إلى الشوارع. صفارات الأمن تعالت، والطرق أُغلقت، بينما تسللت رائحة البارود عبر رطوبة الخليج.
لم تمضِ ساعات حتى خرج بنيامين نتنياهو معلنًا بوضوح: “هذه عملية إسرائيلية خالصة ضد قيادات من حماس، ونحن نتحمل المسئولية كاملة”.
بكلمة واحدة، تحولت الفاجعة من انفجار غامض إلى زلزال سياسي: إسرائيل تعترف علنًا، بأنها قصفت قلب عاصمة خليجية مفترض أنها تتمتع بالسيادة والاستقلال، واللحظة الأشد قسوة: القيادات المستهدفة كانت تناقش مقترح هدنة أمريكي.
هذه ليست ضربة عسكرية فقط. هذا توقيع إسرائيلي على سماء قطر، ورسالة لكل عاصمة خليجية: لا حصانة لأحد وبعدها بساعات، نقلت رويترز عن ترامب، إن البيت الأبيض كان يعلم بالضربة، وأنه طلب من ويتكوف إبلاغ قطر، لكن واشنطن بوست قالت أن قرار إبلاغ الدوحة جاء بعد وقوع الضربة.
المعلومات الأولية أكدت، أن العملية استهدفت خليل الحية، نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، إلى جانب موسى أبو مرزوق وأعضاء آخرين من فريق التفاوض، هؤلاء ليسوا مجرد قادة سياسيين: هم “العقول التفاوضية” التي تنسج الخيوط بين حماس والعواصم منذ فترة ليست بالقليلة.
إسرائيل لم تطلق النار على أشخاص فحسب، بل على فكرة التفاوض من أساسها. الرسالة واضحة: حتى العقول التي خرجت من غزة لتبحث عن حلول سياسية، لن تُعفى من الاستهداف.
الذراع الطويلة والغطاء المفقود
وذكرت وسائل إعلام أن العملية شملت مشاركة 15 طائرة مقاتلة إسرائيلية، أطلقت 10 قذائف على هدف واحد خلال ثوانٍ قليلة، كما تم تزويد الطائرات بالوقود جوًا في طريقها إلى موقع الهجوم، لكن حتي الآن، لم تعلن رسميًا تفاصيل العملية، ونوع السلاح المستخدم.
وبعض التحليلات الميدانية، تشير إلى احتمال استخدام ذخائر دقيقة منخفضة الانفجار أو أدوات هجومية متطورة استنادا على أن الأضرار المادية محدودة نسبيا، مع إبقاء المباني المجاورة سليمة إلى حد كبير.
وتشير أخري، إلى أن العملية نفذت بواسطة سرب من المقاتلات الهجومية F-15I الرعد – راعام . هذه الطائرات قادرة على الوصول إلى مدى يتجاوز 1600 كيلومتر قتالياً، لكنها لا تستطيع التحليق إلى الدوحة ثم العودة من دون الاعتماد على التزود بالوقود جوا وهو الدور الذي يمكن أن يقوم به سرب طائرات الصهريج الإسرائيلية KC-707 “Re’em” أو ربما الجيل الأحدث KC-46 Pegasus.
ومن المحتمل أن تكون نُفذت بواسطة سرب من المقاتلات لتأمين العبور، ما يعني عمليًا وجود عملية معقّدة، يمكن كشفها أمام الرادارات الإقليمية لأكثر من دولة.
من الناحية التقنية، من الصعب الادعاء أن هذه الطائرات عبرت إلى الدوحة خلسة” قطر تمتلك منظومات باتريوت قادرة على تعقب الطائرات على مدى 180 كيلو متر. ورافال وتايفون ومقاتلات حديثة برادارات متطورة والأهم أن قطر تستضيف على أراضيها رادار إنذار أمريكي ضخم، يرصد أي تحرك جوي من الخليج والعراق وإيران.
لكن المشكلة ليست في الرصد، الأجواء القطرية تُدار فعليًا ضمن شبكة القيادة والسيطرة الأمريكية في قاعدة العديد، ما يعني أن أي إنذار أو اعتراض يمر أولًا عبر غرف عمليات يديرها الأمريكيون. بكلمات أخرى: الرادار يرى، لكن اليد التي تضغط على الزر ليست يد الدوحة.
هذا يفتح الباب أيضا أمام فرضيه هامة: أن العملية تمّت بتنسيق ضمني مع بعض العواصم الإقليمية التي غضّت الطرف عن مرور الطائرات عبر أراضيها والتي بالضرورة رصدتها والنتيجة واحدة.
المفارقة هنا، أن إسرائيل تحاول أن تظهر، وكأنها اخترقت السماء منفردة بقدراتها التقنية، بينما الواقع يقول، إن رحلة بهذا الحجم تحتاج إلى بيئة سياسية وأمنية تسمح بالعبور. بكلمات أخرى: الذراع الطويلة الإسرائيلية لا تمتد وحدها، بل تستند إلى أبواب، فُتحت لها عمدًا أو صمتت عن إغلاقها وغضت الطرف تحت منطق “المصالح”
الضربة لم تكن نزوة، بل هي عملية محسوبة كما قال نتنياهو.
ما بين أهداف الضربة، كسر الحصانة، لم يعد لأي قيادة فلسطينية، أن تختبئ خلف وساطة أو عاصمة مضيفة، وأيضا الإعلان للجميع أن السلام لن يفرض إلا بالشروط الإسرائيلية، بالإضافة إلى تحقيق مكسب داخلي لنتنياهو، يقدمه لجمهوره، خاصة بعد العمليات الأخيرة في القدس وغزة .
ولا بأس من اختبار الخليج وشعوبه لقبول، أن تكون مدنه مسرحا للعبة الاغتيالات، التي تبرع فيها إسرائيل. وتهديد غير معلن لكل من تركيا وإيران، بأن تل أبيب تستطيع ضرب أهداف في عمق أي عاصمة بالمنطقة.
بعد ساعات من الضربة، أعلنت حماس، أن قياداتها المستهدفة نجت من الهجوم. هذا الإعلان لم يكن مجرد بيان طمأنة، بل رسالة سياسية مزدوجة: “لم يُكسر رأس الحركة، والعدو فشل في اغتيال عقولها.”
رد حماس المتوقع قد يتخذ عدة مستويات:
تصعيد عسكري مباشر بإطلاق صواريخ من غزة أو جبهات أخرى، كرسالة أن الحركة لن تُردع حتى لو ضُربت قيادتها في الخارج.
هجمات خارجية محدودة: استهداف مصالح إسرائيلية أو غربية في المنطقة، عبر شبكات متعاطفة مع الحركة.
استثمار سياسي: تحويل نجاتها إلى مادة دعائية تقول: “حتى في قلب الخليج، فشل العدو في كسرنا”.
الصبر الاستراتيجي: الاحتفاظ بالرد إلى حين تتضح مواقف قطر والخليج، لتفادي تحميلها مسئولية التصعيد.
لكن المؤكد أن الحركة ستوظف الحدث لتأكيد رؤيتها: أنها مستهدفة لأنها صامدة، وأن كل الوساطات لم تحمها لأن العدو لا يفهم إلا لغة القوة والرسالة الأهم التي تلقوها، لا مكان لقادة حماس الآن في أي مكان على الأرض، حيث لا ملاذ آمن.
العلاقات القطرية– الإسرائيلية: قناة وظيفية لا تطبيع
منذ إغلاق المكتب التجاري الإسرائيلي في الدوحة عام 2009، لم تعد هناك علاقات دبلوماسية أو اقتصادية مباشرة. لكن قطر لعبت دور القناة الوظيفية: استضافة قيادات حماس، وتمرير التمويل والمساعدات لغزة، وفتح قنوات تفاوض مع إسرائيل بغطاء أمريكي. الضربة تمثل تجاوزا لهذا الترتيب وتغير الدور القطري في التفاوض عبر رسالة واضحة “دور الوسيط لم يعد عائقا أمام ذراع إسرائيل العسكرية.
لم تكن الضربة رسالة لقطر، بل اختبارًا مباشرًا لدول التطبيع: الإمارات، والبحرين، والمغرب. هذه العواصم التي فتحت أبوابها لتل أبيب تحت مظلة “السلام الاقتصادي”، وجدت نفسها في مأزق علني: كيف تدين قصف عاصمة خليجية شقيقة، وفي الوقت نفسه، تحافظ على شراكاتها الأمنية والتقنية مع إسرائيل؟
الصمت النسبي أو البيانات المواربة التي صدرت عن بعض هذه الدول، لم تكن مجرد دبلوماسية باردة، بل تعبير عن معادلة دقيقة: لا خسارة للعلاقة مع إسرائيل، مهما بلغت كلفة الصدمة الخليجية. الإمارات التي تروّج لنفسها كقوة تكنولوجية صاعدة، والبحرين التي جعلت من التطبيع ركيزة لأمنها الداخلي، والمغرب الذي ربط مسار التطبيع بملف الصحراء الغربية… جميعها وجدت نفسها أمام سؤال الشارع العربي: هل أصبح القبول بأن تضرب إسرائيل عاصمة عربية ثمنًا عاديًا للشراكة؟
بهذا المعنى، ضرب الدوحة لم يكن صفعة لقطر فقط، بل كشف التصدع في مشروع “السلام الإبراهيمي” ذاته: أي سلام هذا الذي يسمح لطائرات إسرائيلية بعبور الأجواء العربية دون اعتراض، لتضرب قلب الخليج؟
الخلاصة: مواقف دول التطبيع كشفت الحرج العميق بين السلام الاقتصادي الذي تبنّته وبين واقع استباحة إسرائيل لعاصمة خليجية.