عرض نقدي لكتاب
«THE OBLITERATION DOCTRINE: Genocide Prevention, Israel, Gaza and the West»
«عقيدة الإبادة: منع الإبادة الجماعية، إسرائيل، وغزة، والغرب» لدان شتاينبوك الصادر في ٢٠٢٥ م عن دار نشر كلاريتي برس.
قُدِّر لي أن أدرك مبكرًا أن القتل الجماعي الذي يتعرض له الفلسطينيون منذ أكتوبر/تشرين أول ٢٠٢٣م هو مستقبل البشرية المشترك.
ترتبط الإبادة الجماعية في غزة بظاهرة أوسع نطاقًا تتمثل في القتل الجماعي الذي لوحظ في صراعات أخرى لا تزال مستعرة (اليمن والسودان ودول الساحل الإفريقي والمكسيك وأوكرانيا…). يُظهر ذلك أن العنف المسلح اليوم يأخذ أشكالًا متنوعة، سواء كانت حروبًا تقليدية بين دول، أو حروبًا أهلية، أو عنفًا مرتبطًا بالجريمة المنظمة، مما يشير إلى أن القتل الجماعي قد يكون مستقبلًا مشتركًا للبشر جميعًا.
غالبًا ما تعتمد مبررات القتل الجماعي على مفاهيم الدفاع عن النفس وعقيدة الأمن القومي ومواجهة التهديدات الوجودية المتصورة، والتي تتجذر في المعتقدات الأيديولوجية المتطرفة التي تشرعن العنف ضد الآخر.
وانطلاقًا من هذا الفهم سعيت في الفصل الأخير من هذا الكتاب، إلى التعمق في فهم الإبادة الجماعية في غزة من خلال دمج العدسات التحليلية المتعددة والمترابطة للوقائع المقدمة في التقارير الكثيرة التي قامت بها مؤسسات بحثية وإعلامية وحقوقية مختلفة. يشير هذا الاقتراب إلى نهج متعدد الجوانب لفهم الإبادة الجماعية، واستكشاف أبعادها وتداعياتها المختلفة.
الخطير في غزة، وقد استمرت الإبادة لما يقرب من ٢٤ شهرًا وما يزيد عن ٧٠٠ يوم، أنه تم تطبيعنا مع العنف الممنهج.
يشير التطبيع، في سياق الإبادة الجماعية، إلى العملية التي أصبح من خلالها النظام الدولي والمجتمعات، وخاصة المجتمعات العربية، معتادة على العنف المروع والتدمير المنهجي الذي يحدث هناك، مما يسمح للحياة بالاستمرار كالمعتاد على الرغم من هذه الفظائع. وهذا يشمل جعل الإبادة الجماعية المستمرة، مع التجويع المسلح، وقتل الأطفال والنساء، وقطع المياه والكهرباء، وقصف المستشفيات والمدارس ودور العبادة، وتدمير أحياء وعائلات بأكملها… تبدو وكأنها أمر طبيعي أو مقبول.
2 / 10
في هذا السياق تأتي أهمية كتاب «عقيدة الإبادة الجماعية» الذي صدر هذا العام، وهو بالمناسبة جزء من اهتمام غربي بتحليل وفهم الإبادة الجماعية في غزة من اقترابات مختلفة. وللمفارقة، ففي حين صدر عدد من المؤلفات لكُتَّاب غربيين وبلغات متعددة، لم يصدر كتاب واحد- حتى الآن فيما أعلم- باللغة العربية ومن باحث عربي مخصص لفهم وتحليل الإبادة الجماعية في غزة.
يتناول كتاب دان تشاينبوك- الذي ولد في هلسنكي بفنلندا عام 1954م- الفظائع المرتكبة في غزة، ويحلل دور الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، مثل ألمانيا والمملكة المتحدة، في دعم إسرائيل، مما يجعلها متواطئة في هذه الأعمال. يرى الكتاب أن الإبادة الجماعية في غزة هي نتيجة لـ «عقيدة عسكرية» وأنها تظهر فشل المجتمع الدولي والقانون الدولي في منع الإبادة الجماعية، خاصة منذ اتفاقية عام 1948م.
يجادل الكتاب أيضًا بأن الغرب، وبسبب تاريخه الاستعماري، سعى لتقويض اتفاقية الإبادة الجماعية منذ الأربعينيات، ونجح في إضعافها عن طريق استبعاد بعض الجوانب مثل الإبادة الثقافية والتطهير العرقي. ويشير إلى أن هذا الإضعاف للقانون الدولي سمح بتطور «عقيدة عسكرية للإبادة» في إسرائيل، والتي تم تطبيقها بوضوح في غزة.
يُقدِّم الكتاب مفهوم «عقيدة الإبادة»، وهو مصطلح جديد في دراسات الإبادة الجماعية، مُركّزًا على تطبيقه على الحرب على غزة (2023- ….) وسلوك إسرائيل بموجب القانون الدولي. يسلط الكتاب الضوء على مسئولية الدولة عن تسهيل الإبادة الجماعية من خلال المساعدة أو الغطاء السياسي أو التقاعس، مُوسِّعا النقاشات من المسئولية الأخلاقية إلى الالتزامات القانونية.
أثار الكتاب ردود فعل قوية، وقد لاقى ترحيبًا من قبل عدد من الأكاديميين والخبراء المختصين في الإبادة الجماعية والقانون الدولي الإنساني. يُعتبر هذا الكتاب امتدادًا لأعمال سابقة للمؤلف، حيث سبق له في عام 2025 م نشر كتاب آخر بعنوان: «سقوط إسرائيل: تدهور السياسة، الاقتصاد والجيش في إسرائيل»(1).
في كتاب سقوط إسرائيل صاغ الكاتب مصطلح «الإبادة الخوارزمية». الإبادة الخوارزمية «Algocide»، هو مصطلح جديد يجمع بين كلمتي algorithm (خوارزمية) وgenocide (إبادة جماعية)، للإشارة إلى الاستخدام المنهجي للخوارزميات والذكاء الاصطناعي في شنِّ أعمال إبادة جماعية ضد المدنيين.
(1) Dr. Dan Steinbock «The Fall of Israel: The Degradation of Israel’s Politics Economy & Military» January 2025.
3 / 10
تتميز الإبادة الجماعية الخوارزمية، أو «الإبادة الخوارزمية»، بالاعتماد على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة للغاية لتسهيل عملية التدمير، وفيها ننتقل من «حق القتل» إلى «حق الخوارزمية في القتل».
يستكشف كتابه الأخير، الذي يقع في فصول سبعة، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة، السياق التاريخي للإبادة الجماعية، مُشيرًا إلى محاكم نورمبرج وطوكيو، وتأثير الحرب الباردة على الوقاية، و«مبدأ السؤال السياسي» المُثير للجدل المُستخدم في المحاكم الأمريكية لرفض القضايا المُتعلقة بالسياسة الخارجية. كما يُجري بحثًا نقديًا لتسليح المجاعة واستخدام التقنيات المُتقدّمة، كالذكاء الاصطناعي، في الفظائع الحديثة، إلى جانب قمع حرية الصحافة والرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي خلال النزاعات. وعلاوة على ذلك، يفحص الكتاب دور الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى في التواطؤ مع أعمال الإبادة الجماعية، وخاصة من خلال نقل الأسلحة والدعم السياسي، ويناقش التحديات التي تواجه الهيئات القضائية الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية في مقاضاة مثل هذه الجرائم، وخاصة في ظل النفوذ المتزايد للجنوب العالمي في السعي إلى المساءلة
عقيدة الإبادة الجماعية
إن الإطار التفسيري الذي وضعه دان شتاينبوك لفهم الإبادة الجماعية، كما ورد في «عقيدة الإبادة»، متعدد الأوجه، إذ يستند إلى أبعاد تاريخية وقانونية وجيوسياسية لشرح طبيعة وآليات وتواطؤ عمليات الإبادة الجماعية الحديثة، وخاصة الوضع المستمر في غزة.
وتتضمن العناصر الرئيسية لإطاره ما يلي:
١- مبدأ الإبادة كإطار نظري: تمثل هذه العقيدة أساليب الحرب المدمرة في القرن الحادي والعشرين، حيث تطبق التكتيكات العسكرية القديمة جنبًا إلى جنب مع التقنيات المتقدمة. إنها تهدف إلى التدمير الكامل لأي شيء بحيث لا يبقى منه شيء، بما في ذلك الدمار المادي (البنية التحتية، والمراكز الحضرية، والمباني العامة، والمستشفيات)، والقضاء على كل من المقاتلين وغير المقاتلين، والبيئة بأكملها. ويشمل ذلك أيضًا محوًا للمعاني والرموز وإزالة شيء من الذاكرة، مثل المتاحف والمكتبات والمؤسسات الثقافية، وهو ما أطلق عليه المحامي البولندي رافائيل ليمكين (١٩٠٠-١٩٥٨م) «الإبادة الثقافية».
جانب آخر من عقيدة الإبادة وهو الجهود المتضافرة لتقليص أو عكس أو إلغاء التنمية المستقبلية، مما يؤدي إلى «التدمير الشامل» أو «إلغاء التنمية».
4 / 10
٢- السياق التاريخي الاستعماري: يضع شتاينبوك عمليات الإبادة الجماعية المعاصرة، مثل تلك التي وقعت في غزة، ضمن إطار تاريخي واسع يشمل المعاملة الاستعمارية الأوروبية للشعوب الأصلية. يرى أن تاريخ الإبادة الجماعية متشابك مع نقد الاستعمار الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر، مستشهدًا بأمثلة مثل الغزو الإسباني للأمريكيتين وإزالة الطابع الإنساني عن السكان الأصليين. ويربط صراحةً بين «التجويع الجماعي المسلح» الذي شهدته غزة وبين الاستعمار الاستيطاني، بما في ذلك حروب الهنود الأمريكيين، والإبادة الجماعية للهيريرو والناما التي قامت بها ألمانيا في جنوب غرب إفريقيا ١٩٠٤، و١٩٠٨م، وخطة الجوع النازية.
يرى المؤلف أن «مبدأ الإبادة» أو «عقيدة الإبادة» بحد ذاته له سوابق في سياسات الأرض المحروقة، والعقاب الجماعي، واستغلال المدنيين منذ العصور القديمة، والتي أُعيد توظيفها ضد نضالات إنهاء الاستعمار.
3- رؤية رافائيل الأصلية مقابل الاتفاقية المخففة: يعتمد شتاينبوك بشكل كبير على رؤى رافائيل ليمكين، مؤسس اتفاقية الإبادة الجماعية ١٩٤٨م.
كان فهم ليمكين الأصلي للإبادة الجماعية يتضمن مرحلتين أساسيتين: «تدمير النمط الوطني للمجموعة المضطهدة»، و«فرض النمط الوطني للظالم»، والذي قد يحدث إما على السكان المتبقين وإما على الإقليم بعد إزالة السكان والاستعمار.. شمل التعريف الأولي الواسع الذي قدمه ليمكين الإبادة الجماعية الجسدية والبيولوجية والثقافية، فضلًا عن عمليات القتل السياسي والتطهير العرقي. ومع ذلك، يسلط شتاينبوك الضوء على كيفية قيام القوى الغربية عمدًا بتخفيف واستبعاد هذه العناصر الرئيسية من اتفاقية الإبادة الجماعية النهائية لعام 1948م أثناء الحرب الباردة، مما أدى فعليًا إلى إعاقة قدرتها الوقائية.
4- فشل منع الإبادة الجماعية: يرى المؤلف أن اتفاقية الإبادة الجماعية «صُممت للفشل». هي في المقام الأول تتعامل مع إدانة متأخرة بدلًا من منع الإبادة الجماعية أو معاقبتها بشكل فعال. يركز الشكل الحالي للاتفاقية على تحديد هوية المقترف لفعل الإبادة بأثر رجعي، مما يعني أنه لا يمكن تأكيد الإبادة الجماعية إلا بعد وقوعها.
هذا النهج يضيق نطاقه بشكل كبير، ويقمع تدابير الاستجابة التي يتخذها المجتمع الدولي، حيث تركز المناقشات على ما إذا كان قد تم تجاوز عتبة قانونية بدلاً من منع الفظائع.
5- الآليات الحديثة للإبادة والقصد: يوضح شتاينبوك كيف تتم عمليات الإبادة الجماعية الحديثة «بشكل أسرع وأكثر كفاءة وتدميرًا» بفضل التقنيات المتقدمة والذكاء الاصطناعي، يشمل ذلك استخدام الذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف،
5 / 10
وتخفيف القيود على سقوط الضحايا المدنيين، ونشر «قنابل غبية» -ليست موجهة، مما يشير إلى نية «محو الوجود الفلسطيني بالكامل». إن نية تدمير مجموعة، حتى ولو جزئيًا، هي معيار قانوني حاسم للإبادة.
6- تواطؤ الدول الغربية: يؤكد شتاينبوك أن الغرب، وخاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، متواطئة في الإبادة الجماعية من خلال أفعالهم «المتعمدة» وتقاعسهم. يتضمن هذا التواطؤ: توفير «الأسلحة والتمويل» الذي يمكّن من ارتكاب الفظائع، والغطاء السياسي والدبلوماسي -مثل استخدام حق النقض ضد قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومعارضة إجراءات محكمة العدل الدولية.
يسلط تشاينبوك الضوء على المعرفة المسبقة للولايات المتحدة بأهداف «التطهير العرقي» الإسرائيلي والعواقب الإنسانية المحتملة، مع استمرار الدعم، كما يشير إلى الرقابة على المعلومات والتلاعب بوسائل الإعلام، والجهود المبذولة لإخفاء الإجراءات وتوجيه محتوى وسائل التواصل الاجتماعي.
7- نزع الصفة الإنسانية والتفوق العنصري: يؤكد الإطار التفسيري للمؤلف على أن أفعال الإبادة الجماعية تسبقها وتبررها عقائد الاستثنائية والتفوق العنصري، مثل اعتبار المجموعة المستهدفة «حيوانات بشرية» أو «أقل من البشر». إن هذا التجريد من الإنسانية هو خطوة حاسمة تمهد الطريق للنزوح والحرمان والتدمير.
يدعو شتاينبوك من خلال هذا الإطار التفسيري الشامل إلى استعادة التعريف الأصلي الواسع للإبادة الجماعية الذي قدمه ليمكين، وتعزيز التنفيذ الفعال لاتفاقية الإبادة، والتركيز على التغييرات المؤسسية التي تؤدي إلى الوقاية في الوقت المناسب بدلًا من تحديدها بأثر رجعي. ويؤكد أن الوقاية الفعالة تشترط واجبًا مُلزمًا، وليس مجرد التزامًا، كما تتطلب إجماعًا عالميًا، خاصة مع تزايد نفوذ الجنوب العالمي.
يرى المؤلف أن الشركات متشابكة بشكل عميق مع التواطؤ في الإبادة الجماعية في غزة من خلال الأرباح التي تحققها، وخاصة في المجمع الصناعي العسكري الأمريكي وشبكات النفوذ والتمويل المرتبطة به.
تم إصدار تقرير مقررة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ١٩٦٧م، فرانشيسكا ألبانيزي، بعنوان «من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية»(1) في أواخر يونيه/ حزيران 2025م، وتمت مناقشته في الدورة
(1) From economy of occupation to economy of genocide – (A/HRC/59/23) Report of the Special Rapporteur on the situation of human rights in the Palestinian territories occupied since 1967.
6 / 10
التاسعة والخمسين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة التي انعقدت في الفترة من 16 يونيو/ حزيران إلى 9 يوليو/ تموز 2025م. وعلى ما يبدو فإن الكتاب صدر قبل أن يطلع المؤلف عليه. يسلط التقرير الضوء على كيف أصبحت الإبادة الجماعية في غزة مشروعًا مربحًا للكيانات التجارية. لا يقتصر هذا الربح على شركات المجمع الصناعي العسكري فقط -كما أشار المؤلف، بل يمتد إلى شركات التكنولوجيا والشركات الزراعية، وشركات الخدمات اللوجستية ومنصات التجارة الإلكترونية والمؤسسات المالية.. قام التقرير برصد ٢٠٠٠ شركة وكيان مؤسسي تورطت في الإبادة في غزة.
وعلى الرغم من أهمية إشارة المؤلف لدور الربح الذي تجنيه الشركات في إدامة فعل الإبادة، إلا إنه لم يضع هذا في إطار تحليلي أوسع يتعلق بطبيعة الرأسمالية، مما حال بينه وبين ربط الإبادة الجماعية في غزة بالمعاناة التي يعاني منها البشر في ساحات أخرى مثل التفاوتات في الدخول والفرص والدخول، والتدمير البيئي، وتآكل الرعاية الاجتماعية، وانتشار الفقر…الخ.
ترى نانسي فريزر -الفيلسوفة النسوية- في كتابها الشهير «الرأسمالية آكلة لحوم البشر»(1) أن «الأزمة العامة» التي تواجهها الرأسمالية هي «تشابك هائل من الخلل والهيمنة» حيث «يعني الظلم البنيوي استغلال الطبقات، بالتأكيد، ولكن أيضًا هيمنة النوع الاجتماعي والقمع العنصري/الإمبراطوري. هذه الأزمات، بما في ذلك عجز الرعاية الاجتماعية للأطفال، والتدمير البيئي، وتقويض السلطة العامة، متشابكة بشكل لا ينفصم مع الإمبريالية والقمع العنصري».
تُديم هياكل السلطة والمصالح الاقتصادية الإبادة ونزع الإنسانية من خلال إنتاج طبقة من الرعايا «القابلين للانتهاك» هيكليًا من خلال نزع الملكية، وتسليع المعاناة والموت من أجل الربح، وتقويض المساءلة الديمقراطية والقانون الدولي بشكل نشط من خلال التعتيم الحكومي والتكامل العميق للمجمعات العسكرية الصناعية.
تسمح هذه الديناميكية النظامية لرأس المال بالتهام حياة البشر، والرفاهية الاجتماعية، والصلاحيات العامة، مستفيدًا بذلك من العنف الممنهج والظلم المستمرين.
إن ما يجب أن نهتم به إذن بعد شيوع العنف الممنهج والإبادة المستمرة، كيف أن الأنظمة الاقتصادية العالمية، مدفوعةً بمنطق رأسمالي «آكل لحوم البشر» -وفق تعبير فريزر، ومدعومة من قوى سياسية منخرطة في التعتيم والتواطؤ، تختزل البشرية بشكلٍ منهجي إلى فئات من الكائنات القابلة لاستخراج الربح منها، أو مُدخلات
(1) Cannibal Capitalism: How our System is Devouring Democracy, Care, and the Planet – and What We Can Do About It: Nancy Fraser: Amazon.it: Libri – 31 ottobre 2023.
7 / 10
اقتصادية، أو مجرد مشاهد قابلة للمتعة…، وتُعدّ هذه العمليات ضرورية لنزع الصفة الإنسانية بما يساعد على تمكين وإدامة العنف والاستغلال الذي يشهده المجتمع المعاصر.
الجنوب: التحول من «عدالة المنتصر» إلى «عدالة الضحية»
شتاينبوك هو مؤسس وقيّم في مجموعة Difference Group Ltd، وهي شركة استشارية دولية تُعنى بتحليل العالم متعدد الأقطاب، كما يشغل منصب زميل في Shanghai Institutes for International Studies (الصين)، ومرتبط أيضًا بـالمركز الأوروبي في سنغافورة. وينتقد الهيمنة الاقتصادية والإعلامية للدول المتقدمة، ويرى أن تحوّل العالم باتجاه التعددية القطبية قد يؤدي إلى عدم استقرار عالمي متزايد وتضخّم التفاوتات الاقتصادية. المؤلف، وقد تعرّف إلى التناقض بين الشرق والغرب منذ نشأته، مما شكّل خلفيته الفكرية والثقافية، بالإضافة إلى شواغله العلمية المتعددة والمناصب التي تبوأها خارج الولايات المتحدة…، سمحت له بإدراك الدور المتزايد لدول الجنوب في منع الإبادة الجماعية.
يتخيل المؤلف دورًا مهمًا ومتطورًا لدول الجنوب العالمي في منع الإبادة الجماعية، مسلطًا الضوء على مساهماتها التاريخية ونشاطها المعاصر المتزايد. هذا الدور متعدد الأوجه يدور حول أربعة محاور كبرى:
١- الدعوة التاريخية إلى اتفاقية أوسع نطاقًا بشأن الإبادة الجماعية: يقترح المؤلف هذا الدور استنادا إلى رافائيل ليمكين، -كما قدمت- الذي ينطلق من نقد الاستعمار، متتبعًا أصول القانون الدولي ضد الفظائع إلى التنديدات بـ «الفتوحات» الإسبانية في الأمريكتين.
كان الداعمون الرئيسيون لمشروع ليمكين الأصلي الأوسع نطاقًا لاتفاقية الإبادة الجماعية في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين هم بلدان الجنوب العالمي. شكل مندوبون من دول إفريقية وأمريكية لاتينية وآسيا، بما في ذلك دول إسلامية، تحالفًا أجبر القوى الكبرى على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بشأن الاتفاقية.
لقد دعوا إلى إدراج مفاهيم مثل الإبادة الثقافية (التدمير المنهجي للفن والتراث واللغة والمؤسسات الثقافية)، والقتل السياسي – الذي تقوم به الجماعات المسلحة، والتي استبعدتها القوى الاستعمارية السابقة في الغرب إلى حد كبير أو خففتها من نص الاتفاقية النهائي. على سبيل المثال، دعمت الصين الاتفاقية، مشيرة على وجه التحديد إلى كيف أن الاستخدام القسري للمخدرات (كما حدث في حروب الأفيون) قد يسهل الإبادة الجماعية.
8 / 10
إن استبعاد عمليات الإبادة الجماعية الاستعمارية من نطاق الاتفاقية، وهو التنازل الذي قُدِّم للقوى الغربية، جاء على حساب الاعتراف بالتجارب التاريخية للجنوب العالمي.
٢- تحدي التواطؤ الغربي والإفلات من العقاب: يُنظر إلى الجنوب العالمي باعتباره عنصرًا حاسمًا في التغلب على مقاومة الغرب للوقاية الفعالة من الإبادة الجماعية.
إنهم يقودون بشكل متزايد الجهود لمقاضاة المسئولين عن الإبادة الجماعية ومحاسبة الدول على التواطؤ.
إن قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية -ديسمبر ٢٠٢٣م هي مثال بارز، حيث قدمت جنوب إفريقيا أدلة «دامغة» وربط فريقها القانوني بين أفعال إسرائيل وبين «75 عامًا من الفصل العنصري» وبين «النكبة المستمرة» للفلسطينيين.
أعلنت اثنتا عشرة دولة أخرى، معظمها من الجنوب العالمي، عن نيتها التدخل في قضية جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، مما يدل على الدعم الدولي الواسع لهذه التحديات القانونية.
قضية نيكاراجوا ضد ألمانيا في محكمة العدل الدولية -مارس ٢٠٢٤م، مثال آخر لدور دول الجنوب. رأت نيكاراجوا أن تزويد ألمانيا لإسرائيل بالأسلحة ينتهك اتفاقية الإبادة الجماعية. تسلط هذه القضية الضوء بشكل أكبر على هذا الاتجاه المتمثل في تحدي دول الجنوب العالمي للتواطؤ.
هذه الإجراءات ترفع التقاضي إلى مستوى جديد، من خلال توسيع نطاق الاتهامات لتشمل الدول التي تدعم الانتهاكات الأساسية للقانون الدولي، ويمكن أن تؤثر على تفسير وتطوير القانون الدولي، مما قد يؤثر على الدول الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة.
يرى المؤلف أن المقاومة المتزايدة ضد التواطؤ الغربي في عمليات الإبادة الجماعية في الجنوب العالمي علامة مبكرة على التغيير الوشيك.
٣- الدعوة إلى نظام عدالة دولية شامل وفعال: يسعى الجنوب العالمي إلى استعادة تعريف ليمكين الأوسع لاتفاقية الإبادة الجماعية ليشمل الإبادة الثقافية والقتل السياسي والتطهير العرقي، أو تحقيق ذلك من خلال بروتوكولات اختيارية أو تعريفات أكثر شمولًا في المحاكم الجنائية الدولية. يمكن لدول الجنوب أن تدعو إلى
9 / 10
تعزيز التنفيذ الفعال لاتفاقية الإبادة الجماعية، وتعزيز الاتجاه نحو التعددية القطبية في المحاكم الجنائية الدولية، بدلًا من تقويضها.
يؤكد المؤلف أنه لكي تخدم العدالة الضحايا حقًا، يجب أن تعكس الحوكمة العالمية والمحاكم العالمية «غلبة الإنسانية»، مما يعني تمثيلًا وصوتًا أكبر للجنوب العالمي. إن زيادة الدعاوى القضائية بين الدول متعددة الأطراف في محكمة العدل الدولية، وخاصة القضايا التي رفعتها دول الجنوب العالمي، تعكس الرغبة في تسريع القرارات الرامية إلى وقف الهجمات العسكرية ومنع الوفيات غير المبررة.
يُتصور الجنوب العالمي كقوة للتحول من «عدالة المنتصر» إلى «عدالة الضحية»، مما يضمن عدم إدانة جرائم الإبادة الجماعية متأخرة فحسب، بل منعها وملاحقتها قضائيًا على نطاق عالمي، بدلًا من إدانتها بشكل انتقائي.
إن مقارنة الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا بين حرب غزة والمحرقة النازية تُجسد زعيمًا من بلدان الجنوب العالمي يتحدث بنشاط ضد الفظائع.
٤- تحدي عقيدة الإبادة: ينظر المؤلف إلى صعود الجنوب العالمي على أنه يعزز الإجماع العالمي الفعال على رفض مبدأ الإبادة. إنهم ينتقدون التطبيق الانتقائي من جانب الغرب للقانون الدولي، ودعمهم المستمر لدول مثل إسرائيل من خلال نقل الأسلحة والتمويل، على الرغم من الأدلة الواضحة على الفظائع التي ترتكبها.
باختصار، يتصور المؤلف أن الجنوب العالمي قوة حاسمة ومؤثرة بشكل متزايد في إعادة تشكيل القانون الدولي والحوكمة العالمية لضمان التنفيذ الكامل وغير التمييزي لاتفاقية الإبادة الجماعية، والتحرك نحو نظام يعطي الأولوية للوقاية والعدالة لجميع الضحايا، بدلًا من التأثر بالمصالح الجيوسياسية أو التحيزات التاريخية.
تاريخ قوانين حقوق الإنسان، بما في ذلك اتفاقية الإبادة الجماعية، صراع من جانب الجنوب العالمي لمحاسبة الشمال العالمي الأبيض على التعهدات التي تم انتهاكها باستمرار وبشكل منهجي.
لكن مشكلتي مع الأدوار المتخيلة للجنوب العالمي هي استنادها إلى افتراض يتصور أن الجنوب يتحرك باعتباره كتلة واحدة يجمعها مصالح مشتركة -كما كان الحال إلى حد كبير في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهو ما لا يتوفر الآن. قامت الهند -وهي دولة رئيسية في الجنوب- بدعم العدوان الإسرائيلي استنادًا إلى مزيج من المصالح الاقتصادية، والاتجاهات الجيوسياسية، والاعتبارات الأيديولوجية التي تجد جذورها في اليمين الهندوسي المتطرف الذي يمثله رئيس الوزراء مودي وحزبه بهاراتيا جاناتيا.
10 / 10
في الختام، فإن الكتاب ينظر إلى الإبادة الجماعية في غزة باعتبارها أزمة متعددة الأوجه مدفوعة بمشروع استعماري استيطاني عميق الجذور، مدعوم بنظام مربح للشركات، ومبرر من خلال نزع الإنسانية بشكل منهجي…، إلا إنه لا يشير بشكل كاف إلى كيف جرى التحكم في السرد أو الرواية التي دعمت الإبادة، كما أغفل أن القتل الجماعي الذي تعرض له الفلسطينيون كان مدعومًا أيضًا بالمصالح الجيوسياسية والاقتصادية الغربية، بالإضافة إلى التواطؤ الرسمي العربي والعجز الشعبي، وقد أدى هذا التضافر بين هذه العوامل جميعًا إلى عواقب إنسانية مدمرة لن تنتهي عند حدود غزة أو الضفة الغربية.
إن الحرب على غزة، لا يجب أن تقدم باعتبارها إبادة جماعية فحسب، بل يجب أن ينظر إليها أيضًا على أنها كارثة على النظام الدولي القائم على القواعد الذي نشأ بعد الحرب الثانية، بالإضافة إلى سياقاتها الأوسع من حروب الهوية في عالم ترامب(1)، وصعود الدولة الحضارية(2)، في مقابل الدولة القومية، ونهاية الحداثة(3)، وتقويض الديموقراطية(4)… الخ. وبدون ذلك حين يكتمل وعينا بالزلزال المدمر.
(1) الفصل الرابع: «٥- غزة وحروب الهوية».
(2) الفصل الرابع: «٦- صراع الحضارات في عالم ترامب».
(3) الفصل الرابع: «7- حرب غزة ونهاية الحداثة».
(4)الفصل الخامس: «12- الإبادة في غزة وتقويض الديمقراطية في عالم رأسمالي».