منذ أيام قليلة تناولت وسائل الإعلام والوسائط واقعة وفاة الإعلامية عبير الأباصيري، والتي وافتها المنية داخل مستشفى الهرم، وذلك بعد أن أصيبت بأزمة صحية، وتم نقلها إلى مستشفى الهرم، بحسب كونها المستشفى الأقرب، وقد تناولت الوسائل الإعلامية، بأنها لم يتم تقديم الاسعافات الأولية أو معاملتها كمريضة طوارئ، وذلك لعدم وجود مبلغ 1400 جنيه كمقدمة نقدية لتقديم الخدمة العلاجية اللازمة للحالة، الأمر الذي أدى إلى تفاقم حالتها وتأخر وضعها الطبي، مما أسفر عن وفاتها. وبعيدا عن الأخذ والرد والقيل والقال ما بين أهلية المتوفية، وكذلك الوسائل الإعلامية، وبين الردود الرسمية، والتي تحاول أن تصور الحالة على غير ذلك النحو، وهو الأمر الذي يخلي ساحة الجهات الحكومية من المسئولية.

إلا أن الأمر لا يمكن أن يترك سدى، دونما التطرق إلى كيفية تقديم الخدمات الصحية، وتوفير الوسائل العلاجية اللازمة، بعد أن بات القطاع الأعظم من الخدمات الصحية والعلاجية مدفوع الأجر، فمن لا يملك لا يعالج. ففي ظل الأزمات الطاحنة التي يتحملها فقراء الشعب المصري، وأخصهم تحديداً بتحمل القدر الأكبر من المعاناة الاقتصادية والأزمات التي تعيشها الدولة في ظل غياب سياسات واضحة وقادرة على إيجاد حلول مناسبة غير التحمل والدعوة إلى التقشف، لم تقف السياسات الرسمية عند ذلك، وإنما ترغب في زيادة العمق والخلل بينها وبين المواطنين بزيادة المعاناة في خصوص العلاج والتداوي، فبعد أن تم رفع أسعار الأدوية لمرات، كان آخرها منذ أيام قليلة، والذي رفع أسعار الأدوية بنسب مرتفعة، قد يصير العلاج أو الدواء معها من الأمور محل الاختيارات الحيايتة لدى المواطنين، إذ أن أكثرنا لن يستطيع الحصول على قائمة الدواء كاملة، جاء الإعلان عن رغبة الحكومة في بيع مجموعة من المستشفيات التي تسمى بمستشفيات التكامل وتحويلها إلى القطاع الخاص، أمراً يزيد أعباء المواطنين، وخصوصا بعد مراجعة أسماء المستشفيات المطروحة البيع، تجد أنها في مناطق ما بين شعبية وريفية، مما يدلل على أنها من المناطق الأكثر احتياجاً لتقديم الخدمات وليس لبيعها.

ولا بد لنا، وأن نؤكد على أن  الحق في التداوي و تلقي العلاج ليس نوعا من الترف، أو سلعة تكميلية للمواطنين، لكن تعد صحة المواطنين وحقهم الدائم في وجود رعاية صحية دائمة أحد أهم أساسيات قيام المجتمع بذاته، حتى وإن تحولت بشكل من الأشكال إلى سلعة في ظل منظومة السعار العالمي والتكالب نحو سياسة السوق، ولكن عند حدود الحق في التداوي يجب أن يكون هناك ثمة حدود تقف عندها السياسات الخاصة والسعي نحو المزيد من الربح، أو بمعنى آخر، يجب أن تكون السياسة الرسمية للدولة حريصة على توفير  الخدمات الصحية بشكل أو بآخر للمواطنين، على أن لا تتركهم سلعة أو لقمة سائغة في أفواه تجار الخدمات الصحية.

ومن زاوية حقوقية، فيؤكد دستور منظمة الصحة العالمية، على أن التمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه هو أحد الحقوق الأساسية لكل إنسان، ويشمل الحق في الصحة الحصول على الرعاية الصحية المقبولة والميسورة التكلفة ذات الجودة المناسبة في التوقيت المناسب. ويعني الحق في الصحة، أن الحكومات يجب أن تهيئ الظروف التي يمكن فيها لكل فرد أن يكون موفور الصحة بقدر الإمكان. وتتراوح هذه الظروف بين ضمان توفير الخدمات الصحية وظروف العمل الصحية والمأمونة والإسكان الملائم والأطعمة المغذية، وهذا الأمر ما أكدته العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية، وأهمها العهد الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهو أحد الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها مصر، وحسب نصوص الدستور المصري الأخير، أصبحت ضمن المنظومة القانونية واجبة النفاذ.

حتى وإن كانت الحكومة المصرية تسعى إلى الخروج من التزامها الدستوري بضمان الحق في الصحة، أو التخلي من ذات المنطلق عن تخصيصها على أقل تقدير 3% من الناتج القومي تخصص للإنفاق الصحي، وفتح الباب للاستثمار في القطاع الصحي بكافة جوانبه وقطاعاته، وهو الأمر الذي يؤكده قانون منح التزام المرافق العامة للاستثمار في المستشفيات وإدارتها، وهو ما يعني دخول القطاع الخاص لسوق العلاج، وبالتالي تحويل الصحة وكل ما يرتبط بها إلى سلعة، تقف الدولة فيها موقفا، لا يعبر عن ما جاء بالنصوص الدستورية، ولا يتفق مع التزاماتها الحقوقية الدولية، فجاء ذلك القرار ليؤكد تلك النوايا، وهو ما يعني أن غالبية المستشفيات العاملة في القطاع الحكومي سيتم طرحها في سوق الاستثمار، لكن لا بد وأن يكون للأمر حدود، خصوصا حالة وجود الحالات الصحية الطارئة، والتي تستوجب سرعة في اتخاذ إجراءات إسعافية وخدمات علاجية على نحو يساعد المريض على البقاء على قيد الحياة، دونما التعلل بدفع مصروفات مقدمة تحت الحساب، أو ما إلى ذلك من أمور لا تتوافق بأي نسق مع مضمون ومفهوم الحق في الصحة وتلقي العلاج، وهذا ما أعتقد أنه يفهم من مضمون قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1063 لسنة 2014، بإلزام جميع المستشفيات (حكومية وخاصة) بتقديم العلاج المجاني خلال أول 48 ساعة من الدخول في الحالات الطارئة، وعلى نفقة الدولة أو التأمين الصحي، كما أن ذلك يفهم من نصوص قانون التأمين الصحي الشامل رقم 2 لسنة 2018.

لا أرى أي طريق من الممكن أن يتواجد فيه نصوص القانونين معاً، أو يسيرا معا في قالب واحد مع التزامات الدولة الدستورية بكفالة الحق في الصحة، ذلك بخلاف الالتزامات الدولية، بموجب ما صادقت عليه من اتفاقيات ومواثيق وعهود دولية، وقد قامت لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 2000، والتي تتولى رصد الامتثال للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، باعتماد تعليق عام بشأن الحق في الصحة. ويقضي التعليق العام، بأنّ الحق في الصحة لا ينطوي على توفير خدمات الرعاية الصحية في الوقت المناسب فحسب، بل ينطوي أيضاً على محددات الصحة الدفينة، مثل توفير المياه النقية والصالحة للشرب، والإمدادات الكافية من الأغذية والأطعمة المغذية المأمونة، والمساكن الآمنة وظروف مهنية وبيئية صحية وتوفير وسائل التثقيف الصحي والمعلومات الصحية المناسبة، بما في ذلك في مجال الصحة الجنسية والإنجابية، ولكن لا يجب أن يقف الأمر كذلك عند حد النصوص المكتوبة، بل يجب أن تسعى الدولة بسلطاتها المختلفة، في رقابة المستشفيات وأماكن تلقي العلاج بشكل مستمر، خصوصا في وحدات الحالات الطارئة، بما يضمن توفير الخدمة العلاجية، بعيدا عن المسميات الرأسمالية المصاحبة لكل الخطوات العلاجية، والتي صار معها تلقي العلاج نوعا من الترف لا يقدر عليه سوى علية القوم.