“نملك الأرض أولًا ثم نضع الحدود”.. كلمات تلاها ثعلب الإخوان وشيطانها الصامت محمود عزت، المرشد المؤقت لجماعة الدم، والحارس الأمين لأفكار سيد قطب، الذي سقط صباح اليوم الجمعة، في قبضة الأمن بعد سنوات من الكر والفر.
النشأة بين الأديرة والمعابد اليهودية
“مستر إكس”.. “الرجل الحديدي”.. “الثعلب”، كلها ألقاب أطلقت على محمود عزت خلال مسيرته داخل جماعة الإخوان، والتي بدأت منذ كان في التاسعة من عمره، بعدما وجد في الجماعة المتشددة غايته، وقرر أن يكون جزءً من هذا النسيج المنفرد بتماسكه عن غيره من الجماعات الأخرى.
ولد محمود عزت، في القاهرة عام 1944، لأسرة ميسورة الحال، لكنه سرعان ما ترك والده المقاول الشهير، ليرحل إلى منزل جده لوالدته بحي السكاكيني، ويقيم معه خلال فترة طفولته.
نشأ عزت، وسط جيرانه من المسيحيين الذين كانت تربطه بهم علاقات طيبة، فأحب الطفل الذي لم يتخطى الرابعة من عمره، تفاصيل الحياة التي يعيشها جده وسط قراءة القرآن وروح الإسلام الوسطية، التي كانت تجعل جيران جده من اليهود والمسيحيين يحافظون على زيارته والاستماع إلى تلاوته العذبة للقرآن الكريم، الذي كان يقدسه ويخشى عليه من رذاذ فمه فيضع حائلًا أمامه أثناء التلاوة.
نشأة عزت، وسط جيرانه من المسيحيين، جعلته يتتبع الرهبان بنظرات ثاقبة عبر شرفة منزله المطلة على أحد أديرة منطقة السكاكيني، كذلك الأمر بالنسبة لجيرانه اليهود، الذي كان يلعب مع أبنائهم ويشاركهم احتفالاتهم داخل أروقة المعبد اليهودي.
لحظة التغيير
كبر الطفل محمود، وسط هذا الجو الملئ بالألفة وقبول الآخر، حتى جاءت لحظة التغيير في حياته، مع دخوله في عامه التاسع، عندما تعرف على أعضاء في جماعة الإخوان الذين لاحظوا اهتمام الطفل الصغير بأفكارهم وتردده المستمر على فرع الجماعة بالعباسية، لتجد لجنة الأشبال بالجماعة فريسة جديدة تصلح لأن تكون أحد أذرع الإخوان في المستقبل.
سرعان ما غابت شمس الإخوان عن الطفل الصغير، الذي ارتبط بهم وجدانيًا وتأثر بما سمعه من قادتها، رغم سنه الصغير، وبدأ رحلة أخرى في البحث عن ضالته التي غابت بفعل الأحكام السياسية ضد جماعة الإخوان في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والتي طالت حتى عائلة محمود بإلقاء القبض على أحد أقاربه المنتمي للجماعة، ليجد الطفل نفسه محرومًا من مجرد التفكير في تلك الجماعة، ومطالبًا بالابتعاد عن كل ما له علاقة بهم حتى المسجد.
الانضمام لجماعة الدم
في عام 1960،انتقل محمود للعيش مع والده وأسرته بحي مصر الجديدة، ليجد تفاوتًا كبيرًا، بين المجتمع “المحافظ” الذي جاء منه وترعرع فيه، ومجتمع مصر الجديدة “المتحرر” كما وصفه، والذي يفرضه عليه والده، ليرفض محمود تلك النقلة التي سببت له صدمة، ويرفض التواجد في هذا المجتمع الذي راه وذكره بأنه يضم “العاريات” والمشغولين عن الدين بكرة القدم والمطربين.
داخل أروقة الجامعة، كان التغير الثاني في حياة محمود، فبعد أن خاض امتحانات الثانوية العامة، ونظرًا للهزة التي تعرض لها بغياب جماعته، والمجتمع المفتوح الذي انغرس فيه، لم يحصل على الدرجة التي تمكنه من تحقيق حلمه في الالتحاق بكلية الطب، ليقرر أن يعود إلى منزل جده، ويعيد الثانوية العامة، لينجح بتفوق ويلتحق بكلية الطب جامعة الزقازيق ويحصل على البكالوريوس عام 1975، فيما حصل على الماجيستير عام 1980 والدكتوراه عام 1985 كما حصل على دبلومة في الدراسات الاسلامية عام 1998 وحفظ القرآن كاملًا عام 1999.
اشتهر محمود، داخل جماعة الإخوان بالحدة والخُبث وعدم الاعتراف بالسياسية في التعامل مع الأحداث، إلا أنه تعرف على مروان حديد، أحد عناصر جماعة الإخوان، والذي كان يقود تحركات جماعة حماة ضد النظم السوري، ومن خلال حديد استطاع محمود التقرب أكثر من الإخوان، بعد أن أهداه الشاب السوري كتب ورسائل سيد قطب وحسن البنا، وفي الوقت الذي كان يعتقد فيه محمود أن الكتب مجرد هدايا لشاب مولع بأفكار وجماعة الإخوان، كان “حديد” يعد مجموعة جديدة للانضمام للإخوان عناصرها محمود وأصدقاؤه، وتم إطلاق اسم “مجموعة مصر الجديدة” على هؤلاء الشباب، وذلك عام 1962.
الانتقال الأكبر لثعلب الجماعة
أصبح محمود، عاشقًا لسيد قطب وواحدًا من جماعة الإخوان، رسميًا في هذا التاريخ، ما جعله يتعرض للاعتقال عام 1965، ليظل في السجن حتى عام 1974، وخلال تواجده في ليمان طره، تعرف على عدد كبير من قادة الإخوان، داخل السجن، على رأسهم القيادي الإخوانى مصطفى مشهور، الذي أصبح مرشدًا للجماعة فيما بعد، حيث ربطتهما علاقة صداقة قوية، استمرت عقب خروجهما معًا من السجن، وسافرا معًا للخارج، على غير رغبة مرشد الإخوان وقتها عمر التلمساني.
ورغم نجاتهما من اعتقالات سبتمبر1981، إلا أنهما استمرا في نشاطهما وسط سخط من أعضاء الإخوان لهروب طرفين منها دون حديث، وبدأ مشهور وعزت في تكوين التنظيم الدولي للإخوان بالخارج، ومع زيادة نشاط الجماعة في مصر منتصف الثمانينات، عاد محمود إلى مصر، ليدخل في مقامرة جديدة داخل الجماعة، من خلال المشاركة في الإشراف وإدارة شركة “سلسبيل” التي كانت موكلة بالاحتفاظ بمعلومات حول أعضاء التنظيم، وذلك بصحبة خيرت الشاطر، وتم التحقيق معه لمدة 6 أشهر، بعد مداهمة الأمن للشركة.
لم يكن “مشهور” ليترك صديقه الوفي صاحب الخمسة أبناء، حيث أوكل له مهمة الاشراف على لجنة أعضاء التدريس التابعة لقسم الطلاب بالجماعة، ما جعل محمود يتوغل داخل الجماعة، ويتعرف على أدق تفاصيلها، ويتدخل في كل شئونها، ما جعله يدير دفة أهم القرارات المأخوذة فيها من وراء الكواليس.
لم تمر فترة طويلة، حتى تمكن محمود من فرض سطوته داخل الإخوان، الأمر الذي تجلى في انتخابات الجماعة، والتي حقق فيها محمود ناجحًا كبيرًا اعتقل على إثره ومكث في السجن 5 سنوات انتهت عام 2000، متوليًا منصب أمين جماعة الإخوان.
اشتهر محمود داخل جماعة الإخوان بالحدة والخبث وعدم الاعتراف بالسياسية في التعامل مع الأحداث، كما كان يكره الإعلام، ويراه محرضًا ضد الجماعة، وكان يدير شئون الإخوان في الخفاء، ويهوى تصدير وجهًا أخر بدلًا منه لمواجهة الأخرين.
الخلاف والإطاحة بالمعارضين
لم يكن محمود يقبل بروح الاعتدال التي دعي إليها التيار الوسطى بالجماعة بقيادة محمد حبيب وعبد المنعم أبو الفتوح، لذلك قسم الجماعة إلى قسمين، تيار الإصلاح بقيادة مجموعة الاعتدال، وتيار القطبيين، وهو التيار المتشدد، بقيادة محمود عزت، وعلى إثر هذا الانقسام، تمت الإطاحة بتيار الإصلاح من مكتب الإرشاد، مقابل تصعيد تيار القطبيين منهم محمد بديع وخيرت الشاطر ومحمد سعد الكتاتني ثم انضم لهم فيما بعد عصام العريان ومحمد البلتاجي.
استمرت مقاليد الأمور تحت إدارة الثعلب محمود عزت، ومع سقوط حكم الإخوان، أعلن عن تولى محمود عزت منصب المرشد للإخوان بصورة مؤقتة، الأمر الذي لم يكن مصادفة، فمحمود هو الأجدر بهذا المنصب لكي يتمكن من إعادة التنظيم لقوامه، وتكرار تجربته مع مشهور بالخارج في تكوين التنظيم الدولي للجماعة، كذلك يمكن لمحمود وضع الخطط والطرق التي تمكن الجماعة من تهديد الدولة المصرية مستخدمًا الأسلوب الجهادي الذي طالما كان الأسلوب الاقرب لتلميذ قطب المخلص محمود عزت.
بمكر الثعالب استطاع عزت، الهروب عن أعين الأمن رغم سقوط قادة الإخوان الواحد وراء الأخر، ولكنه كالعادة استخدم اسلوب المواربة والاختفاء الذي يجيده جيدًا، ولم يجد معضلة في التواصل مع إخوان الخارج، وإسناد المهمات لهم، وتكليفهم بتنفيذ التعليمات التي تجعلهم على الساحة باستمرار، وإن كانت أزمات الجماعة ونقص التمويل، وانقسام الأعضاء ما بين راغب في التصالح مع الدولة وراغب في التصعيد، أدت إلى العديد من الأزمات التي احتوى محمود جزء كبير منها، ولكن جزءًا كبيرًا من الجماعة تمرد ورفض أفكار محمود الصدامية، خاصة وأن أحدًا من عناصرها لم يستأمنه محمود على مكان اختباؤه
وبعد سنوات من البحث والجدل والتساؤلات، سقط “مستر إكس” الأستاذ بجامعة الزقازيق والقيادي الخفي للجماعة الدموية، في يد العدالة، بعدما خلق هالة من القوة والمجد حوله، جعلته الشخصية الأكثر سلطة داخل الإخوان.