أعلن الجيش السوداني يوم 11 سبتمبر استعادة مدينة بارا بولاية شمال كردفان بعد معارك طويلة ضد قوات الدعم السريع، في خطوة وصفت بأنها من أبرز التحولات الاستراتيجية منذ اندلاع الحرب. فمدينة بارا لم تكن مجرد منطقة عادية على خريطة الصراع، بل كانت أحد أكبر معاقل قوات الدعم السريع ومركز عمليات رئيسي، استخدمته للتحضير للهجمات على العاصمة الخرطوم عبر غرب أم درمان.
السيطرة على بارا تحمل دلالات عسكرية وأمنية واضحة، فهي تعني عملياً قطع شريان الإمداد القادم من دارفور نحو وسط البلاد، وإغلاق واحد من أهم محاور الهجوم التي اعتمدت عليها قوات الدعم السريع في تهديد الخرطوم. كما أن استعادتها تعني تأمين العاصمة من الناحية الغربية بشكل أكبر، وربطها بشكل مباشر مع مدينة الأُبيض، عاصمة شمال كردفان، والتي ظلت تحت سيطرة الجيش طوال فترة الحرب، وشكّلت مركز الثقل الإداري والاقتصادي والعسكري في الإقليم. ومن هنا، فإن استعادة بارا تعزز من أهمية الأبيض كقاعدة متقدمة للعمليات وكعقدة مواصلات حيوية، تربط الخرطوم ببقية مناطق غرب السودان.
لقد كانت بارا خلال الشهور الماضية مركز انطلاق رئيسي لهجمات الدعم السريع باستخدام الطائرات المسيّرة الانتحارية التي قصفت العاصمة الخرطوم، بما في ذلك الهجوم الكبير في 8 سبتمبر الذي استهدف محطة كهرباء أم درمان، ومصفاة الجيلي في بحري ومجمع اليرموك الصناعي في جنوب الخرطوم. هذه الضربات كانت تهدف إلى إنهاك البنية التحتية للعاصمة وشل قدراتها الخدمية والاقتصادية. بالإضافة لذلك، اعتمدت قوات الدعم السريع على بارا كقاعدة لتنفيذ عملياتها ضد القرى المجاورة لمدينة الأبيض، وضد مناطق في غرب كردفان، مما جعلها مصدر تهديد مباشر للأمن المحلي والإقليمي على حد سواء. وبذلك، فإن استعادتها تمثل ضربة مزدوجة في إيقاف هجمات الطائرات المسيّرة على الخرطوم، وحرمان الدعم السريع من نقطة انطلاق رئيسية؛ لتهديد المدن والمناطق الحيوية الأخرى.

أهمية السيطرة على بارا لا تقتصر على الدفاع عن الأبيض والخرطوم، بل تتعداها إلى إعادة تشكيل موازين القوى في ولايات كردفان ودارفور. فاستعادة الجيش لهذه المنطقة تعني بداية فك الحصار المفروض على مدن بابنوسة في غرب كردفان، كما تفتح الباب أمام التقدم نحو كادقلي والدلنج المحاصرتين في جنوب كردفان، وهي مدن، تمثل ثقلًا كبيرًا في حسابات الصراع، سواء من حيث موقعها الجغرافي أو رمزية سيطرتها. وبالتبعية، فإن هذا التقدم يقلص من الرقعة الجغرافية التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع في غرب وجنوب وشرق دارفور، ويعزز امتلاك الجيش السوداني زمام المبادرة في مسرح العمليات.
وفي سياق موازٍ، استفاد الجيش من استعادة بارا في توسيع نطاق انتشاره داخل شمال كردفان. فخلال شهر سبتمبر، بسطت القوات الحكومية سيطرتها على عدد من المدن والقرى، خاصة في محلية أم دم حاج أحمد ومنطقة الزريبة (زريبة الشيخ البرعي)، مما عزز من انتشار الجيش، وعمّق نقاط التماس مع قوات الدعم السريع في ولاية النيل الأبيض. هذا التوسع الميداني أضاف عمقًا استراتيجيًا جديدًا للجيش، وأسهم في إعادة ترتيب خطوط التماس، بما يجعل العاصمة الخرطوم أكثر أمانًا، ومحاور القتال غربًا وجنوبًا أكثر تماسكا.
إلى جانب الأهمية العسكرية، تمثل استعادة بارا مكسبًا اقتصاديًا استثنائيًا، فهي تعني تأمين طريق الصادرات القومي الذي يربط غرب السودان بوسطه وشماله وشرقه. هذا الطريق ليس مجرد مسار للنقل، بل هو شريان اقتصادي أساسي، يقوم عليه اقتصاد السودان. فموارد الإنتاج الزراعي والحيواني والمعادن التي تزخر بها دارفور وكردفان تمر عبر هذا الطريق إلى الخرطوم وبقية الولايات، ومنها إلى الأسواق الإقليمية والدولية. السيطرة على بارا وضمان سلامة الطريق القومي تعني استعادة حركة التجارة والإمداد، بما يعيد الانتعاش للاقتصاد الوطني المرهق، ويمنح المدن الكبرى متنفسًا بعد شهور من الاختناق. كما أن هذا الطريق يرتبط بعدة شبكات أخرى، منها ما يتجه شمالًا عبر مدينة الدبة، ومنها ما يربط بغرب السودان، فالنيل الأبيض وصولًا إلى شرق السودان، وهو ما يجعل تأمينه خطوة استراتيجية نحو استقرار البلاد اقتصاديًا.
الزاوية الإنسانية لا تقل أهمية عن البعدين العسكري والاقتصادي. فاستعادة بارا تمثل بارقة أمل لعشرات الآلاف من النازحين الذين فرّوا من منازلهم؛ نتيجة هجمات الدعم السريع. عودة الجيش إلى السيطرة على المنطقة تعني إمكانية عودة تدريجية لهؤلاء النازحين، واستعادة مجتمعاتهم المحلية لنمط حياتها الطبيعي. كما تتيح هذه السيطرة ممرات أكثر أمانًا لوصول المساعدات الإنسانية والإغاثية، وهو ما يسهم في تخفيف معاناة المدنيين، خاصة في ظل الظروف المعيشية القاسية التي فرضتها الحرب.
إضافة لذلك، فإن عودة الاستقرار إلى بارا، وما حولها ينعكس على مدينة الأبيض نفسها، إذ يساهم في إنعاش أسواقها وربطها بعمقها الغربي، ويمنحها دورًا أكبر كمركز لوجستي وتجاري يخدم الإقليم بأكمله. كما أن تخفيف الضغط عن المدن الأخرى التي استقبلت موجات نزوح من كردفان ودارفور يساهم في إعادة التوازن السكاني والخدمي لهذه المناطق.
إن استعادة بارا في هذا التوقيت الحرج تعني أن الجيش لم يحقق نصراً عسكرياً فحسب، بل رسخ مكسباً استراتيجياً شاملاً يعيد له زمام المبادرة على أكثر من صعيد. فهي خطوة عززت من قدرة الدولة على حماية عاصمتها من التهديدات الجوية والبرية، وأعادت فتح شرايين الاقتصاد عبر طريق الصادرات، وفتحت الباب أمام معالجة ملف النازحين واللاجئين. باختصار، فإن هذه الخطوة تعزز من سيطرة القوات الحكومية على بقية أجزاء السودان، وتمنحها أفقًا أوسع للتحرك نحو إنهاء التهديدات في كردفان ودارفور، وتقليص المساحة التي يسيطر عليها الدعم السريع إلى حدود أضيق.
وعلى المدى الأبعد، فإن استعادة بارا يمكن النظر إليها كبداية مرحلة جديدة في الحرب، مرحلة تعكس قدرة الجيش على استعادة زمام المبادرة، وعلى إعادة ترسيم حدود السيطرة، بما يخدم مصلحة الدولة السودانية. فالتقدم في شمال كردفان وغربها وجنوبها، إذا تواصل بنفس الوتيرة، قد يغير المعادلة بشكل جذري، ويمنح الحكومة فرصة أكبر لفرض الاستقرار السياسي والأمني، مع ما يتبع ذلك من استحقاقات في إعادة الإعمار والتنمية.
إن معركة بارا لم تكن مجرد معركة على مدينة، بل كانت معركة على المستقبل. بانتصار الجيش فيها، ارتسمت ملامح جديدة للصراع في السودان، ملامح تؤكد، أن استعادة الأرض ليست فقط استعادة للجغرافيا، بل هي أيضًا استعادة للسيادة، وللقدرة على حماية الاقتصاد والمجتمع، وفتح الطريق أمام عودة الحياة الطبيعية لملايين السودانيين.