بينما تبقى العلاقات المصرية الإسرائيلية، تراوح مكانها بين البرود والتجميد النسبي، لا تبدو القاهرة على وشك إلغاء معاهدة السلام المبرمة بين البلدين قبل 45 عاما، مقابل الحفاظ على وتيرة، تسمح بمخاطبة الرأي العام وتسكينه، عبر التلويح بتجميد التعاون الأمني.

وفقا لوسائل إعلام إسرائيلية، فقد قررت مصر تقليل التنسيق الأمني مع إسرائيل حتى إشعار آخر، عقب الضربة التي استهدفت قيادات من حركة حماس الفلسطينية في العاصمة القطرية الدوحة، مشيرة إلى أن القاهرة بصدد إعادة ترتيب قنوات الاتصال الأمنية مع إسرائيل.

تخفيض وتعطيل

ورغم أن مصر التزمت رسميا الصمت، ولم يصدر عنها أو وسائل إعلامها ما يشي بذلك، لكن التقارير الواردة من تل أبيب تنقل تأكيدات لمصادر إسرائيلية ومحللين مطّلعين، بأن مصر تنوي «إعادة هيكلة اتصالاتها الأمنية مع إسرائيل» إثر ضربة الدوحة.

ويُتداول على نطاق واسع، أن مصر قد حذّرت من خفض مشاركتها في محادثات وقف إطلاق النار الخاصة بقطاع غزة، وأن مشاركتها في هذه المحادثات ستبقى محدودة “ما لم يغيّر نتنياهو المسار”، حيث ترى القاهرة، أن سياسات إسرائيل الأخيرة تُشكّل «انتهاكات خطيرة»، وقد تُبرر لها اتخاذ مواقف دفاعية أو تعديل في مستوى التنسيق.

تصف معظم التقارير الإسرائيلية الوضع باعتباره خفضاً أو تعديلاً مؤقتاً في التنسيق الأمني، وليس قطعاً نهائياً أو إنهاء لمعاهدة السلام، دون تأكيد من الطرف المصري حتى الآن.

من هذا الجانب، تبدو إسرائيل قلقة من إمكانية أن تتحول مصر إلى موقف أكثر تحفظاً ودعماً للجهة الفلسطينية، خصوصًا إثر الأحداث في الدوحة.

تكمن المخاوف الإسرائيلية، في أن يتجاوز الأمر إلى ما يُعد “خرقاً” للبروتوكولات أو الاتفاقيات الأمنية، خصوصاً تلك المرتبطة بتحريك القوات أو التنسيق في سيناء أو الحدود المشتركة.

سيناريو مكرر

لكن الأمر ليس جديدًا بالكامل، وهذه ليست المرة الأولى التي تُلوّح فيها القاهرة بورقة التنسيق الأمني، فخلال اجتياح لبنان 1982، وانتفاضة الأقصى عام 2000، وعملية «الجرف الصامد» 2014، ظهرت تهديدات مشابهة بتعليق أو تخفيض التعاون.

 كما جرى الحديث العام الماضي عن تحذيرات مصرية من «تجميد الملحق الأمني»، إذا أدت العمليات الإسرائيلية في رفح إلى نزوح فلسطينيين إلى سيناء في سياق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة الفلسطيني المحتل.

في السابق، أشارت تقارير إسرائيلية إلى تحذيرات مصرية من تعليق معاهدة السلام (بما في ذلك الملحق الأمني)، إذا أدت العمليات في رفح إلى نزوح فلسطينيين إلى سيناء، ما يعني أن  مصر قد حذرت، من أن عملية عسكرية في رفح قد تؤدي إلى تعليق معاهدة السلام.

ويتمحور الحديث الإسرائيلي عن تخفيض التنسيق الأمني بعد الغارة الإسرائيلية على قطر، باعتباره “تعطيلاً أمنيًا إقليميًا”، ومع ذلك، لا يوجد تعليقا كاملا للملحق الأمني، بل تحذيرات وتخفيض جزئي في التنسيق، مع استمرار عمل القوة المتعددة الجنسيات (MFO).

 تعكس التوترات الأخيرة نفس المخاوف، خاصة حول رفح والانتشار المصري في سيناء، مما يشير إلى أن الأمر تكرر بنمط مشابه، دون تصعيد يؤدى إلى تعطيل كامل.

غطاس: باقية

وفي ظل تصاعد التوترات السياسية والإعلامية بين القاهرة وتل أبيب، يرى خبراء السياسة، أنّ الأمر لا يصل إلى حد المساس بمعاهدة السلام.

أكد المحلل السياسي سمير غطاس، أنّ ما يُثار بشأن إلغاء معاهدة السلام المصرية– الإسرائيلية «مبالغ فيه»، موضحاً أن ما يجري الحديث عنه في بعض وسائل الإعلام لا يتعدى فكرة «تعليق أو تجميد» بعض أشكال التنسيق الأمني، وهو ما «لا يمس جوهر المعاهدة ذاتها».

المحلل السياسي سمير غطاس
المحلل السياسي سمير غطاس

وقال غطاس: «المغزى من إعلان تعليق التنسيق فيه رسالة سياسية، لكن لا يوجد أي تصريح رسمي بهذا الصدد»، مشيراً إلى أنّ العلاقات الثنائية تمر بحالة من التوتر، وأضاف: «التوتر في العلاقات قائم ويتزايد، كما تُستخدم صفقة الغاز أحياناً كورقة ضغط».

وأوضح أنّ معاهدة السلام لا تزال «مضمونة للطرفين»، قائلاً: «حتى التسريبات الخاصة بوقف التعاون الأمني، لا تعني أنّ المعاهدة قد تُلغى». واستطرد مبيناً، أنّ التصعيد قد يأخذ أشكالاً أقل حدّة من الإلغاء، مثل «التجميد أو التبريد أو التعليق»، مؤكداً أنّ «إلغاء المعاهدة مرتبط بفكرة الحرب، وهناك خطوات عديدة تسبق ذلك».

وفيما يتعلق بالملف الاقتصادي، أشار غطاس، إلى أنّ المصالح المشتركة تجعل من الصعب تجاوز الاتفاقات الموقّعة، خصوصاً في مجال الطاقة، قائلاً: «مصر هي الزبون الأنسب للغاز الإسرائيلي، ولذلك تحصل عليه بسعر أقل، بينما البدائل الأخرى مثل، قطر أو الجزائر أكثر تكلفة بكثير».

وشدد غطاس، على أنّ المؤسسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل تنظر إلى مصر، باعتبارها شريكاً استراتيجياً، موضحاً: «الحفاظ على الأمن مع مصر، حتى وإن كان سلاماً بارداً، يظل أفضل بكثير من أي حرب أو احتكاك مسلّح».

وخلص إلى، أن التصريحات المتشددة الصادرة من بعض الدوائر السياسية أو الإعلامية «لا تعكس بالضرورة تغييرات جذرية في السياسة الفعلية»، مضيفاً: «لا ينبغي القفز إلى النتائج؛ فالمواقف قد تتراوح بين التجميد والتبريد والتعليق، لكن المعاهدة نفسها باقية».

عبد الواحد: استنتاجات متسرّعة

بدوره، اعتبر اللواء محمد عبد الواحد، الخبير الاستراتيجي في شؤون الأمن القومي، أنّ الحديث المتداول عن وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل «يثير كثيراً من التساؤلات حول المقصود منه»، مشيراً إلى أنّ بروتوكول الترتيبات الأمنية الموقّع عام 1981 هو المرجعية التي تُنظّم هذا التعاون.

اللواء محمد عبدالواحد، خبير الأمن القومي والشؤون الأفريقية
اللواء محمد عبد الواحد خبير الأمن القومي

وقال عبد الواحد «الجملة التي ظهرت بشأن وقف التنسيق الأمني غير واضحة، فالعالم كله يسأل: ما المقصود بهذه العبارة؟ هل التنسيق الأمني المشار إليه يتعلق بالاتفاقية أو بالبروتوكول الأمني الموقع عام 1981؟».

ولفت إلى أنّ هذا البروتوكول ينص على ضرورة التنسيق المسبق بشأن أي تحركات عسكرية في سيناء، قائلاً: «نفترض أنّك في ظروف معينة أردت زيادة القوات في سيناء لمواجهة الإرهاب، كما حدث في عام 2000، عندها تقوم بإخطار الجانب الآخر. أما إذا تحركت، دون أن تُعلمه، فذلك يُسجَّل مخالفة».

وأشار عبد الواحد، إلى أنّ الجهة المخوّلة بمتابعة هذه المخالفات هي قوة مراقبة السلام متعددة الجنسيات، موضحاً: «تلك القوة ليست تابعة للأمم المتحدة، وإنما قوة خاصة أنشأتها الولايات المتحدة لهذا الغرض، بعد أن كان متوقعاً أن تستخدم روسيا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن».

وأضاف: «إذا خالف أي طرف الترتيبات الأمنية، تُسجَّل مخالفة رسمية ضده، كما حدث سابقاً عند واقعة احتلال فيلادلفيا. هذه القوة تراقب وتوثّق، لكنها لا تتبع الأمم المتحدة، وإنما لها طابع خاص».

وختم عبد الواحد بالقول: إن ما تم تداوله بشأن وقف التنسيق قد «يُفهم في سياقات أخرى»، داعياً إلى الحذر في تفسير التصريحات المتداولة: «ما ظهر قد يكون منصبّاً على مسائل أخرى، لذلك لا بد من التدقيق قبل استخلاص استنتاجات متسرّعة».

ترتيبات الأمن

يحدد البروتوكول الأمني، المعروف بالملحق الأول لمعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية (1979)، ترتيبات انسحاب إسرائيل من سيناء وإنشاء مناطق أمنية.

ينص البروتكول المبرم في 3 أغسطس 1981، وأنشأ القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين (MFO) كبديل لقوات الأمم المتحدة على “سحب إسرائيل قواتها من سيناء إلى ما وراء الحدود الدولية… وتستأنف مصر سيادتها الكاملة”، مع تقسيم سيناء إلى مناطق (A، B، C) بقيود عسكرية، وضمان حرية الملاحة في مضيق تيران.

نجح البروتوكول في إنهاء حالة الحرب عبر مبدأ “السلام مقابل الأرض”، لكنه فرض قيوداً على مصر، مثل حد 22,000 جندي في المنطقة A، مما أثار انتقادات داخلية.

وبموجب البروتوكول تم إنشاء القوات المتعددة الجنسيات كقوة غير أممية، تضم 15 دولة (مثل الولايات المتحدة وكولومبيا)، بـ1,200-1,500 جندي، لمراقبة الامتثال في سيناء.

ونجحت هذه القوات في منع التصعيد لـ45 عاماً، لكن اعتمادها على تمويل أمريكي (ثلث الميزانية) يجعلها عرضة للضغوط، كما حدث في 2020، عندما اقترحت واشنطن تقليص مساهمتها.

ويخالف الانتشار المصري في سيناء (66,000 جندي، بدلاً من 22,000) لمكافحة الإرهاب القيود، لكن إسرائيل سمحت به سابقاً (2011-2018).

ورغم التهديدات، لا يوجد تعليق رسمي للبروتوكول الذي يظل ركيزة استراتيجية، حيث يتجنب الطرفان التصعيد الكامل للحفاظ على الاستقرار.

 في المجمل، توازن القاهرة بين التزاماتها بمعاهدة السلام مع إسرائيل (1979) والبروتوكول الأمني (1981)، والغضب الشعبي المصري تجاه عربدة إسرائيل في المنطقة وتهديدها للأمن القومي المصري، حيث حافظت مصر على دورها كوسيط في مفاوضات وقف إطلاق النار.

في كل الأحوال، تبقى العلاقات بين مصر وإسرائيل مستقرة وباردة، وتعاني التوتير، لكن إلغاء معاهدة السلام غير وارد، بسبب المصالح المشتركة، مثل أمن سيناء وصفقات الغاز، لكن مصر قد تلجأ إلى تخفيض التنسيق كرسالة سياسية، مع ترجيح تدخل أمريكي قد يعيد التنسيق لاحقا، بالنظر الى أن أمريكا هي الضامن الرئيسي لمعاهدة السلام، بما يخدم المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.

وكسلفه الرئيس الراحل حسني مبارك، يمضي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في الحفاظ على السلام البارد مع إسرائيل، وتفريغه من جدواه ومعظم محتواه، عبر الحد من التطبيع الثنائي مع الحفاظ على الأهداف الأمنية والاقتصادية، مدفوعا بالغضب الشعبي العارم.

.