إذا قبلت حماس بتسليم سلاحها أو استخدمت التعبير الذي استخدمته الفصائل الفلسطينية في لبنان، بأن تسلم سلاحها “كوديعة” لدى منظمة التحرير الفلسطينية، فإن هذا لن يعني بالضرورة أن إسرائيل ستوقف الحرب، حتى لو كانت حماس قد أكدت، أنها لن تكون في سلطة إدارة قطاع غزة.
المكسب الوحيد الذي يمكن أن يحصل عليه الشعب الفلسطيني من وراء القبول بتسليم السلاح وإطلاق سراح الرهائن، هو إطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين، وليس ضمان وقف العدوان، وهو مكسب يجب أن تحرص عليه حماس، لأنه مع الوقت سيتلاشى، وستنعدم إمكانية الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين مع تراجع أعداد الرهائن، وبالتالي تراجع أهمية هذه الورقة.
والحقيقة، أن حماس وقعت طوال عملية التفاوض في عده أخطاء، ليس بينها أنها كانت متشددة في مواجهه “مرونة إسرائيلية”، إنما في كون حماس لم تتعامل مع التطرف الإسرائيلي، باعتباره معطى يجب أن تؤسس عليه كل مواقفها، وليس باعتباره موقف قابل للتغيير في ظل المعطيات الحالية.
إن مفارقة رفض حماس اتفاق الهدنة وفق مقترح المبعوث الأمريكي “ويتكوف”، ثم قبوله بعد ذلك، ثم تجاهل إسرائيل حتى مجرد الرد عليه، ولو بالرفض، إنما بالتجاهل التام والبدء في عمليتها الدموية باقتحام مدنية غزة، واستهداف المدنيين، بأعداد فاقت المئة شهيد في يوم واحد، وهي أرقام مرشحة للتصاعد مع كل يوم، تستمر فيه في عمليتها الدموية.
السؤال الذي يُطرح ما الذي جعل حماس، ترفض مقترح هدنة “ويتكوف” الشهر الماضي، وحملت الشعب الفلسطيني مزيدا من الضحايا، وسهلت عملية احتلال مدنية غزة؟ صحيح إنه لا توجد ضمانة، بأن قبول حماس لاتفاق الهدنة فور طرحه، سيلزم إسرائيل بأي شيء، وهو صحيح، ولكنه سيصعب مهمتها في رفضه، لأن الرئيس الأمريكي سيعتبر رفض مقترح مبعوثه هو رفض لقراره الشخصي، وربما يمارس ضغوطا على رئيس الحكومة الإسرائيلية لقبول الهدنة الجزئية، وربما تسفر الضغوط الدولية على دولة الاحتلال على إيقاف الحرب، بعد أن تعلن حماس قبولها بتسليم السلاح والخروج من إدارة قطاع غزة.
مفهوم تماما، أن قرار تسليم سلاح أي فصيل مقاوم هو قرار ليس فقط صعب، إنما جارح أيضا، خاصة إنه من الناحية الرمزية يعني الهزيمة، ولكن من الناحية العملية يعني الحفاظ على دماء الشعب الفلسطيني، وبما فيه عناصر المقاومة نفسها التي بات الحفاظ على أرواح عناصرها أهم من الحفاظ، على ما تبقى من سلاح، معظمه خفيف، ويمكن استعادته مرة أخرى في حال تعثر الحل السلمي، ومع دورة جديدة للصراع.
الوضع الحالي، يقول إن حماس لم تعد تمتلك أوراق قوة في يدها، إلا ورقة الرهائن، فغابت تقريبا قدراتها العسكرية، ولم تعد قادرة على ردع أو إيلام إسرائيل، كما أنها على المستوى السياسي معزولة عن الحراك الذي يجري في دول العالم ضد الجرائم الإسرائيلية، على خلاف تجارب التحرر الوطني الأخرى مثل فيتنام التي دعمتها قوة عظمى في العالم أي الاتحاد السوفيتي، ومعها كل قوى اليسار ومناهضي الحروب في أوروبا وأمريكا والعالم كله، ونفس الأمر ينطبق على جبهة التحرير الجزائرية والمؤتمر الوطني الإفريقي اللذين كانا جزءا من تجربة التحرر الوطني في العالم كله، ونالا دعم كثيرين في مختلف دول العالم، بما فيها جانب كبير من شعوب الدول التي تحتلها، كما حدث مع فرنسا في الجزائر، ومع بريطانيا التي دعمت لفترة طويلة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، حتى تخلت عنه وسهلت من سقوطه مع قيادة نيلسون مانديلا للكفاح ضد هذا النظام، وأصبح بعدها أيقونه إنسانية وجنوب إفريقية.
إن كل هذه التجارب امتلكت أوراق ضغط، تخصهم وتخص داعميهم أثناء التفاوض مع محتليهم، في حين إنه في حالة حماس، فإن معظم الأوراق التي تضغط بها على إسرائيل في مفاوضات الهدنة من خارجها؛ نتيجة ضعف الحركة حاليا، وانفصالها عن المسار الإنساني العالمي لحركات التحرر ورفض معظم المؤسسات المدنية الداعمة للشعب الفلسطيني لحركة حماس.
إن التشدد في التفاوض دون امتلاك أوراق ضغط قوية سيخسرك، وسيجعلك في كل مرة، تقبل بأقل مما طرح عليك في المرة السابقة، وإن إعلان انتهاء هذه الجولة من الحرب كان يجب أن يتم منذ بدايات العام؛ لأن سلاح حماس قد دُمر معظمه، وقُتل معظم قادتها وكثير من عناصرها، وإن التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية وصل لحدوده القصوى، ونسف جانبا مهما من الأكاذيب الإسرائيلية، وبالتالي فإن استمرار حرب لا توجد فيها مقاومة، ولا قدرة على المقاومة، إنما قتل متعمد للمدنيين والأطفال، خطأ فادح.
إن التأخر في الاعتراف بحصيلة هذه الحرب لن ينصر المقاومة، مهما كانت صلابة عناصرها وشجاعتهم ونبل مقصدهم، لأنها لم تعد هناك أي أوراق ضغط يمكن أن تضاف لصالح حركة حماس، إنما بات أقصى ما يمكن أن تصل إليه هو أساسا بفعل تدخلات خارجية، وسيقتصر على عملية تبادل أسرى، لن تؤدي إلى بقاء حماس كتنظيم مسلح أو كإدارة حكم في غزة، ولا لجم السياسات الإسرائيلية الاستيطانية، إنما إطلاق سراح أسرى فلسطينيين من السجون الإسرائيلية، وإنقاذ حياة مئات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين الذين باتوا مهددين بالقتل والجوع؛ بسبب استمرار الاعتداءات الإسرائيلية.
لقد أصبحت حماس في الوقت الحالي أمام خيارات صعبة، وضعت فيها؛ نتيجة سوء تقديرها لكثير من الأمور وأيضا، وربما أساسا نتيجة استباحة إسرائيل لكل القيم والمبادئ والأعراف الدولية بصورة لم يعرفها العالم مع أي دولة مارقة في تاريخه المعاصر، فأصبح هامش المناورة الذي تتمتع به حماس شبه معدوم، ويتطلب اتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة؛ من أجل حقن دماء الأبرياء والإفراج عن بعض الأسرى، وترك القيادة لجيل ومشروع فلسطيني جديد.