تحمل آراء الدكتور مدحت نافع، عضو اللجنة الاستشارية المتخصصة للاقتصاد الكلي التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، أهمية خاصة، فالمناصب المتنوعة التي شغلها، جعلته أكثر احتكاكًا بمناطق العطب في الاقتصاد المصري، وأكثر قدرة على تشخيص مشكلاته وأكثر دقة في طرح الحلول لعلاجها.

شغل د. نافع أستاذ الاقتصاد وخبير التمويل والتنمية المستدامة والحوكمة، عضوية مجالس الإدارة بشركات حكومية وخاصة، كما شغل منصب مساعد وزير التموين والتجارة لأعمال تطوير الشركات، ورئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب في الشركة القابضة للصناعات المعدنية.

في هذا الحوار مع “نافع” يُدلي بآرائه حول نقاط اقتصادية شائكة، تبدأ بالعلاقة بين صندوق النقد الدولي ومصر ثاني أكبر مقترض منه عالميًا، ويُقيِم السردية الوطنية الاقتصادية التي دشنتها الحكومة، ومدى قدرتها على الحلول محل برنامج الإصلاح الاقتصادي، ويحسم موقفه من جدلية نوع النمو الاقتصادي في مصر، وفقدان المواطن الإحساس بنتائجه، وأخيرًا إجابة على السؤال الأهم: متى تخرج مصر من عثرتها الاقتصادية؟

وإلى نص الحوار:

مع قرب انتهاء برنامج صندوق النقد مع مصر وقسوة الشروط الأخيرة.. هل يمكن لمصر وقف التعاون مع الصندوق فورًا؟.. وهل نحتاج لبرنامج جديد مع الصندوق بعد 2026؟

مصر قادرة على أن تمضي بعيداً عن الصندوق بعد انتهاء برنامجها في 2026، لكن لا يجب إنهاء البرنامج قبل موعده المحدد، لأن التكلفة المباشرة حينها كبيرة، ويمكن للحكومة أن تعالج البطء في تنفيذ بعض الإصلاحات، وتطلب مداً أو تأجيلاً لبعض هذه الإصلاحات.

ما المطلوب لمرحلة ما بعد برنامج صندوق النقد الدولي؟ 

البرنامج الجديد يجب أن يكون أكثر اشتباكاً مع المشكلات والأزمات طويلة الأجل، ويتجاوز قضايا سعر الصرف والتضخم؛ هذه المشكلات تتعلق بتحقيق استدامة مالية أطول والقضاء على عجز الموازنة، وحل أزمة الديون سواء المحلية أو الخارجية، مع التزامات محددة، يجب أن تلتزم الحكومة بها أولاً قبل القطاع الخاص.

هل يمكن اعتبار السردية الاقتصادية برنامجا بديلا؟

السردية تقوم على بناء اقتصاد إنتاجي متنوع مموّل بالاستثمار المباشر، لا بمزيد من الديون المستنزفة للحيز المالي للحكومة، والمضاعفة للعجز المزدوج بمرور الوقت، واستمرارية السردية ومصداقيتها يرتبطان بمدى تبنيها شعبيًا، بتبسيط مفاهيمها وتقديمها للمواطنين كجزء من قصة وطنية جامعة، بعيدًا عن التفاصيل التقنية المعقدة، وكذلك مدى قدرتها على الاندماج مع المشروعات القائمة، وضمان أن تكون مرجعًا فعليًا في مسار التنمية.

هل تعد الاستثمارات الأجنبية أحد التحديات في طريق تحقيق ذلك؟

التعويل على الاستثمارات الأجنبية لسد فجوة الادخار المحلي مرهون بقدرتنا على تحسين بيئة الأعمال، وخفض تكلفة التمويل لتتحوّل مصر إلى منصة للتمويل الأخضر عبر مؤسسات دولية وإقليمية جادة، والحل يكمن في معادلة متوازنة أطرافها، تعبئة المدخرات المحلية، تشجيع القطاع الخاص، وتوسيع الشراكات مع المؤسسات الدولية، مع ضمان أن ينعكس ذلك في النهاية على فرص العمل وتحسين معيشة المواطن.

ما متطلبات نجاح السردية؟.. وهل الاقتصاد المصري قادر على الانطلاق؟

الاقتصاد المصري يمتلك مقومات للنهوض مع وجود سوق كبيرة، وموقع استراتيجي، وقاعدة إنتاجية متنوعة، وموارد بشرية واعدة، لكنه يفتقر إلى اتساق السياسات، واستدامة الإصلاحات، وتكامل الرؤية بين أذرع الدولة.. وتظل الإتاحة المعلوماتية وتحقيق التوازن بين الحفاظ على الاستقرار الكلي من ناحية، ودفع عجلة الإصلاحات الهيكلية من ناحية أخرى في ظل بيئة إقليمية ودولية، تواجه تحديات عديدة..

ما أهم التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري؟

ما زالت بيئة الأعمال تعاني اختلالات بنيوية، فالرسائل المتضاربة بين التمكين والتقييد تُربك المستثمر، ويظل القطاع الخاص في كثير من القطاعات شريكًا من الدرجة الثانية أمام كيانات عامة، تتمتع بمزايا غير متكافئة، فلا يكفي إصدار وثائق ملكية الدولة، إن لم تنعكس في سلوك الدولة كمُنظّم لا كمنافس.

قبل إطلاق السردية أطلقنا خطة ورؤية وبرنامج بأرقام واعدة فلعل آفتنا الإفراط في التفاؤل؟

مصر على مدى العقد الأخير، أطلقت برامج إصلاح شديدة الطموح، شملت تحريرًا نسبيًا لسعر الصرف ومحاولة ترشيد الدعم وإصلاح المالية العامة وتطوير البنية التحتية، ورغم أهمية تلك السياسات، لا تزال الفجوة بين الخطاب الرسمي والتجربة اليومية للمواطن واسعة، وهناك تساؤلات ملحة حول شعور المواطن العادي بثمار تلك السياسات.

تحدثت الحكومة كثيرًا عن الثمار في حين يشعر كثير من المواطنين أن الشجرة جدباء.. كيف تصل تلك الثمار؟

يجب أن ننظر إلى الإصلاح كمسار وطني، يتجاوز لغة التقارير، ليصل إلى المواطن العادي، ويُترجم في نمط معيشته، فنجاح أي برنامج إصلاح اقتصادي لا يقاس فقط بحسن تصميمه أو دقة مؤشرات أدائه، بل يتوقف بصورة جوهرية على الطريقة التي يلمس بها المواطن أثر تلك الإصلاحات بحياته اليومية ودرجة تحسنها، فالأرقام مهما بلغت قوتها، لا تستطيع وحدها أن تخلق شعورًا بالتحسّن، ما لم تترجم إلى واقع مُعاش، ينعكس في جودة الخدمات وفرص العمل واستقرار الأسعار.

وهل نجحت برامج الحماية الاجتماعية في حماية المواطن من تداعيات الإصلاح؟

الحماية الاجتماعية تعتمد بصورة شبه حصرية على التحويلات النقدية، دون ربط كافٍ بسياسات التعليم والصحة والتوظيف. برامج مثل “تكافل وكرامة” تمثل استجابة ظرفية، لكنها لا تُغني عن إصلاح منظومة العدالة الاجتماعية في جذورها، ولا يمكن أن تحل محل شبكة خدمات عامة فعالة، الحماية الاجتماعية لا يجب أن تكون مُسكنًا لتراجع الدولة، بل أداة لتعزيز التمكين، وتحقيق استهداف رشيد وعادل للفئات الأولى بالرعاية.

ما هي النماذج الدولية التي يمكن الاستفادة منها في هذا السياق؟

تجربة لولا دا سيلفا في البرازيل، حينما أطلق برنامجه لمحاربة الفقر مطلع الألفية، فلم يكتف بتحقيق معدلات نمو جيدة، بل ربط الإنجاز الاقتصادي بتحسين مباشر في معيشة الأسر الفقيرة عبر تحويلات نقدية مشروطة بالتعليم والصحة. كانت النتيجة تراجعا ملموسًا بمعدلات الفقر، واستشعر المواطنون تغييرًا إيجابيًا، وكذلك كوريا الجنوبية بعد الحرب الكورية، بحرص الدولة على أن يلمس المواطن ثمرة الإصلاح عبر تطوير التعليم وتحويل ملايين المزارعين إلى أصحاب مصانع صغيرة ومتوسطة.

بالعودة لمصر.. لماذا لغة الأرقام في جانب وحياة المواطن في جانب آخر؟

الفجوة تأتي من تكاليف وعوائد الإصلاح، فكثير من الإصلاحات تُسدد تكاليفها من معاناة المواطنين بصورة آنية، لكن عائداتها قد تتأخّر لعدة سنوات أو عقود، فضلاً عن أن أعباء وثمار الإصلاحات الاقتصادية لا تتوزع بالعدل بين الطبقات وفئات المجتمع، فقد يستفيد أصحاب الدخول الأعلى بصورة أسرع من أصحاب الدخول المحدودة، مما يعمق شعورًا بانعدام العدالة، أما ثالث الأسباب، فهو غياب قنوات فعالة لقياس الرأي العام وربطه بعملية صنع السياسات، وهو عنصر جوهري بكل التجارب الدولية والتاريخية الناجحة.

اعتبرت أن الإتاحة المعلوماتية عنصرا لنجاح السردية.. وأعدت التأكيد على قياس الرأي العام.. هل نحتاج لمؤشرات تقيس انعكاس الإصلاح الاقتصادي على حياة المواطنين بدقة؟

للإجابة على هذا السؤال يمكن دراسة ما يحدث في العالم، فدول شمال أوروبا مثلًا، توجد مؤسسات مستقلة، تقيس «مؤشر الثقة الاقتصادية» بانتظام، يتضمن أسئلة مباشرة للمواطن حول شعوره بالاستقرار الوظيفي، وتوقعاته للأسعار، وقدرته على الادخار أو الاستثمار، وفي بريطانيا استطلاعات الرأي العام، يتم توظيفها لتعديل السياسات وإعادة رسمها.. هذه الأدوات تساعد الحكومات على فهم الفجوة بين المؤشرات الكلية (كالعجز والتضخم) وبين الانطباعات اليومية بالأسواق.

كيف نضيق الفجوة بين اهتمام الحكومة بالمؤشرات ورؤية المواطن الذي يرى أن أولاده لن تتناولها على العشاء؟

لتحقيق ذلك علينا اتباع ثلاثة مسارات متكاملة، أولها تعزيز الأثر المباشر على حياة المواطن: عوضًا عن الاكتفاء بالحديث عن ارتفاع معدلات النمو أو انخفاض معدلات البطالة وعجز الموازنة، يجب ترجمة الإصلاحات إلى تحسين ملموس في جودة المدارس الحكومية، وتوافر الدواء بالمستشفيات، وخفض زمن الانتظار للحصول على خدمة عامة، تلك التفاصيل الصغيرة تصنع الفرق في وجدان المواطن، أكثر مما تصنعه المؤشرات المجردة، والثاني بترسيخ قنوات قياس الرأي العام ودمجها بالسياسات، والثالث تحسين قنوات التواصل بين الحكومة والمجتمع، فكثير من الإصلاحات قد تكون ضرورية، لكنها تُقدَّم للناس بغير رواية مقنعة.

أثير جدل حول مدى تحقيق مصر نموًا اقتصاديًا «حقيقيًا» في السنوات العشر الأخيرة أو بالأحرى فترة تعاونها مع الصندوق.. ما رأيك؟

ارتفعت قيمة الناتج المحلي الإجمالي- بالأسعار الثابتة- من نحو 5.7 تريليون جنيه في ٢٠١٥ إلى أكثر من 8.3 تريليون جنيه في ٢٠٢٥، بأسعار سنة ٢٠٢١ /٢٠٢٢. وباحتساب متوسط سعر الصرف خلال سنة الأساس (نحو 19 جنيهًا للدولار)، فهذا يعني أن الناتج المحلي الإجمالي قد شهد نموًا حقيقيًا من حوالي 300 مليار دولار إلى 437 مليار دولار بالأسعار الثابتة، أي أن حجم الاقتصاد نما ليس فقط بالأسعار الجارية، ولكن بالأسعار الثابتة كذلك، أي أن حجم (وليس فقط قيمة) ما ينتجه المجتمع من سلع وخدمات، ارتفع خلال السنوات العشر الأخيرة.

هل المعضلة في حجم النمو أم في نوع النمو؟

بالطبع، طبيعة النمو وقنوات توزيعه العنصر المهم، والتساؤلات يجب أن تكون عن: هل كان النمو مؤد لفرص عمل حقيقية، محفَّزًا بالاستثمار وبالصادرات؟ هل كان نموًا داعمًا للقدرة التنافسية للمنتجات المصرية، أم أنه نمو هشّ، مرتبط بنمو الاستهلاك، تزداد معه معدلات الفقر، وتتفاقم بسببه أزمة الدين، والعجز المزدوج في الموازنة العامة وميزان المدفوعات؟ هذه أمراض اقتصادية عمرها أطول كثيرًا من السنوات العشر موضوع الجدل.

ما مخاطر الاعتماد على النمو عن طريق الاستهلاك؟

الاقتصادات التي اعتمدت لعقود على الاستهلاك المحلي كمحرك للنمو انتهى بها المطاف إلى أزمات متكررة بميزان المدفوعات، وتآكل القدرة الشرائية، وفقدان الثقة في العملة المحلية. بينما الاقتصادات التي تبنّت نموذجًا قائمًا على الاستثمار الموجه نحو التصدير، مثل الصين وكوريا الجنوبية وفيتنام، استطاعت أن تحقق نموًا متواصلًا وتحولًا هيكليًا بوقت قصير نسبيًا.

وماذا عن الحالة المصرية في النمو المعزز بالاستهلاك؟

إذا كان النمو الاقتصادي في مصر معززًا في الأساس باستهلاك القطاع العائلي، وبنسبة تقترب من ٩٠٪، فإن هذا القطاع المتنامي في العدد، لا بد أن يظل مستهلكًا، حتى ولو كان هذا الاستهلاك على حساب زيادة الدين والاستيراد والضغط الشديد على ميزانية الأسرة، وتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، لأن ثبات الناتج مع نمو السكان يعني مستوى مرعبًا من نقص الموارد.

ما المطلوب حتى يكون النمو صحيًا ومستديمًا؟

المطلوب أن يتحول الاستثمار الخاص في الأنشطة الإنتاجية (الزراعة والصناعة) إلى القاطرة الحقيقية للاقتصاد، وأن ينعكس على زيادة الصادرات الصناعية والزراعية والخدمية، لا أن يظل محصورًا في قطاعات غير قابلة للتداول الخارجي أو منخفضة القيمة المضافة، كما يجب تحفيز النمو من خلال الاستثمار والإنتاج، وهو ما يستلزم رفع معدل الادخار المحلي إلى نحو 20% مقارنة بالمعدل الحالي الذي يتراوح بين 6 إلى 8%، وهي فجوة يمكن سدها عبر زيادة تدفقات الاستثمار الأجنبي.

ما التحديات التي تقف أمام نمو الاقتصاد المصري؟

يتوقع البنك المركزي نمو الناتج المحلى الإجمالي بنسبة 4,8٪ خلال السنة المالية 2025– 2026، مع إمكانية الوصول إلى 5,1٪ في العام التالي، إذا ما استمر الانضباط المالي وتم تسريع وتيرة الإصلاحات، لا سيما في مجالات تحرير الأسواق، وتبسيط إجراءات الاستثمار، وتوسيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، لكن هناك بعض التحديات القائمة، أبرزها: ارتفاع عبء خدمة الدين، وضغط فاتورة الواردات، والحاجة الملحّة إلى زيادة الإنتاجية الصناعية والزراعية.. هذه الملفات ليست ثانوية، بل حاسمة لأي استقرار طويل الأمد.

لماذا تحسن سعر صرف الجنيه أمام الدولار؟.

التحسن جاء نتيجة مباشرة لاتباع البنك المركزي سياسة نقدية متشددة ومستقلة، حافظت على أسعار فائدة مرتفعة، جذبت التدفقات الدولارية، خاصة مع عودة بعض المستثمرين الأجانب إلى سوق أدوات الدين المحلية، وتحسّن الكثير من مصادر النقد الأجنبي، وفي مقدمتها السياحة وتحويلات العاملين بالخارج. ولا يمكن إهمال فكرة تراجع قيمة الدولار بمختلف أسواق العملة بالخارج، على خلفية السياسة الحمائية الأمريكية.

هل يوجد تدخل من البنك المركزي لدعم الجنيه؟

السياسة النقدية الحالية بمصر تميزت بما يمكن وصفه بإدارة «الربط المرن» لسوق الصرف، بحيث تم امتصاص الصدمات دون استنزاف مفرط للاحتياطيات الأجنبية، والتي ارتفعت بالفعل إلى نحو 49 مليار دولار بنهاية يوليو الماضي، لكن تحسّن الجنيه بصورة مستقرة يبقى مرتبطًا بمدى قدرة الاقتصاد على توليد تدفقات دولارية مستدامة من عائدات التصدير والسياحة، وتحويلات العاملين بالخارج، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وليس فقط عبر أدوات الدين أو الاستثمارات غير المباشرة قصيرة الأجل.