الإعلان عن اقتراب التوصل لاتفاق أمني سوري إسرائيلي برعاية أمريكية، ليس خبرا عابرا في خضم التطورات الإقليمية المتلاحقة، بقدر ما هو تحول عميق في بنية الصراع بالمنطقة، يعيد تعريف منظومة الأمن السوري، ويضعه تحت إدارة مباشرة خارجية، بميزان تميل كفته لصالح إسرائيل.

الأخطر أن الاتفاق جاء في وقت، تبدو فيه دمشق منهكة بعد أكثر من عقد من الحرب، بينما تدخل إسرائيل الاتفاق، وهي في ذروة قوتها العسكرية والتكنولوجية، والنتيجة بالطبع اتفاق غير متوازن، يكرس لاختلال القوة وشرعنة التفوق الإسرائيلي وازدياد نفوذه.  

السؤال الأول الذي يطرح نفسه عن مدى التوازن بين طرفي الاتفاق؟ وبالنظر إلى واقع ما تعرض له الجيش السوري من 2011 وحتى الآن، سنجد أنه تعرض لتدمير ممنهج لقدراته، حيث فقد فاعلية البنية الجوية بعد استهداف مستودعات الطائرات والدفاع الجوي في غارات متكررة. كما أنهكت المعارك الداخلية القوات البرية، بل وتحولت بعض الوحدات إلى ميليشيات مناطقية.

 إجمالا، فقدت المؤسسة العسكرية السورية عقيدتها القتالية الموحدة وقوتها، وحلت محلها ولاءات متفرقة للنظام أو الحلفاء الخارجيين.

في المقابل، تملك إسرائيل تفوقا نوعيا ضخما، طيران حديث مطور، أنظمة دفاع متعدد الطبقات (القبة الحديدية، مقلاع داود، أرو 3)، وبالطبع جهاز استخبارات نافذ في العمق السوري، وبالتالي، فالاتفاق لم يصمم لمعالجة الخلل، بل لإعادة إنتاجه بغطاء سياسي جديد أكثر فاعلية.

المعلن والسري

البنود الرسمية التي جرى الإعلان عنها في الاتفاق شملت، إنشاء مناطق عازلة على طول الحدود، والمقصود هو منطقة عازلة بعمق عدة كيلومترات شرق خط الفصل لوقف إطلاق النار في عام 1974، تُمنع فيها الأسلحة الثقيلة والتمركزات. وبالطبع المكسب الأكبر هنا لإسرائيل التي تعتبر أن أي وجود عسكري سوري أو إيراني قرب الجولان تهديد مباشر.

بالنسبة للحدود مع الأردن (جنوب سوريا– درعا/ السويداء) كشفت التسريبات التي نشرها موقع أكسيوس عن الاتفاق، أنه يتبنى إنشاء “شريط أمني”، يمنع تهريب السلاح أو تمدد الميليشيات الموالية لإيران، ويجعل المنطقة تحت رقابة مزدوجة (إسرائيلية أردنية بغطاء دولي).

يضاف إلى ما سبق الحدود الشمالية مع لبنان؛ بهدف عزل حزب الله عن خطوط الدعم الموالية في سوريا.

بينما تضمنت التسريبات السماح بممر جوي، يضمن لإسرائيل حرية حركة أكبر في العمق السوري. وانسحاب جزئي لقوات النظام من مناطق محددة مقابل اعتراف غير مباشر بواقع الجولان. كذلك ربط مسار الاتفاق بالعقوبات، بحيث يصبح الأمن السوري مرتبطا بالقرار الأمريكي.

من بين كل المواقع الجغرافية في سوريا، يبقى جبل الشيخ (حرمون) عقدة استراتيجية، لا يمكن تجاهلها بالنسبة لإسرائيل.

 تطلق إسرائيل على الجبل اسم (عين الدولة)، إذ يتيح لها مراقبة عسكرية متقدمة، تمتد من دمشق إلى البقاع اللبناني، وصولا للجليل. ومنذ احتلاله عام 1967، ثم تثبيت السيطرة عليه في 1973 تحول الجبل إلى مركز تجسس ورادار ومراقبة، يدار مباشرة من القيادة الإسرائيلية.

الاتفاق الأمني الجديد يتجنب ذكر جبل الشيخ أو إدراجه ضمن المناطق العازلة، إذ تعتبره إسرائيل خطا أحمر خارج التفاوض.

أما المناطق التي شهدت توغلات وضربات إسرائيلية مؤخرا من جنوب القنيطرة إلى ريف درعا، وصولا لممرات السويداء، فقد كانت عمليا ساحة تمهيد للمناطق العازلة بعمل فراغ أمني بها عبر الغارات والعمليات المحدودة، ثم تكريس الوضع القائم من خلال التفاوض، ومن ثم، يصبح الاتفاق امتدادا مباشرا لسياسة إسرائيل، حيث يمكننا القول إن “ما فرض بالقصف يقنن بالسياسة”.

السويداء وجبل العرب.. الخسارة الكبرى

رغم أن الأنظار تتركز على مصير الجولان، وما سيحدث في دمشق، فإن السويداء وجبل العرب (جبل الدروز) يمثلان أحد المفاتيح الأخطر في الاتفاق الأمني الجديد.

المنطقة المأهولة بالدروز، عاشت خلال السنوات الأخيرة حالة استثنائية، فداخليا لم تنخرط بالكامل في الحرب، لكنها لم تسلم من فوضى الميليشيات المحلية، وتدهور الوضع الاقتصادي، وتراجع الثقة في دمشق كمرجعية دولة.

على المستوى الأمني، تحولت إلى ممر تهريب أسلحة ومخدرات عبر الحدود الأردنية، وهو ما جعلها نقطة صراع ثلاثي بين النظام، والميليشيات، والضربات الإسرائيلية.

في الاتفاق: المناطق العازلة الجنوبية تشمل أجزاء من السويداء، خاصة في المناطق الحدودية مع الأردن.

الهدف المعلن هو ضبط التهريب، ووقف تمدد المجموعات الموالية لإيران، أما غير المعلن: عزل جبل العرب عن أي نفوذ خارجي محتمل وتحويله لمنطقة محايدة أمنيا بغطاء دولي، وهوما يعني خسارة النظام السوري لسيطرته الكاملة على المحافظة، والطائفة الدرزية تجد نفسها في وضع معقد، فهي محمية من الفوضى الأمنية عبر الترتيبات الدولية، لكنها معزولة سياسيا عن القرار المركزي في دمشق.

الاتفاق لا يرسم فقط حدودا جديدة، لكنه يعيد تعريف العلاقة بين الدولة السورية ومكوناتها الداخلية.

 الجولان.. الملف الغائب  

إذا كان جبل الشيخ “العين الإسرائيلية على الشام “والسويداء الخاصرة الجنوبية المهملة، “فإن الجولان هو الرمز الأكبر لفقدان السيادة السورية.

  منذ احتلاله عام 1967، وضمه رسميا عام 1981 ثم “الاعتراف الأمريكي من خلال إدارة ترامب”، لم يعد الجولان موضوعا فعليا على طاولة التفاوض الدولية.

في جولات المفاوضات السابقة (مدريد 1991_ محادثات جنيف 2000) كان الجولان الملف الأصعب، “لكن اليوم أصبح ملفا غائبا. ففي الاتفاق الأمني الجديد، لم يرد ذكر الجولان في البنود المعلنة.

وعكس تركيز الاتفاق على المناطق العازلة شرق خط الفصل (1974) ضمنيا، فإن الجولان لم يعد جزءا من النقاش، وهو ما يعني أن إسرائيل نجحت في إخراج أهم ملف سيادي من معادلة التفاوض.

بذلك تحول الجولان من أرض محتلة إلى أرض مهمشة سياسيا، وهو أخطر أشكال الشرعنة التدريجية للاحتلال.

في معادلة الاتفاق حتى الآن، تبدو إسرائيل الرابح الأكبر، فهي تفرض نفسها كمدير للأمن في سوريا، وتضمن إخراج إيران من خاصرتها الشمالية، وتتمكن من النفاذ إليها جوا بسهولة، وتجمد الجبهة السورية بما يسمح لها بالتركيز على لبنان وغزة، بينما تثبت سيطرتها على الجولان كأمر واقع.

 أما الولايات المتحدة، فتحتفظ بسلاح العقوبات للتلاعب به وقت الحاجة، وتثبت إسرائيل كحجر الزاوية في معادلة المشرق، وتضعف إيران عبر تفكيك خطوط الدعم، قبل أن تسوق الاتفاق كإنجاز دبلوماسي، يعوض إخفاقاتها في ملفات أخرى، في المقابل، تبدو سوريا الرابح الأصغر، إذ تنال متنفسا اقتصاديا محدودا عبر التخفيف الجزئي للعقوبات، وتعود للتفاوض الدولي، مما يكسب الشرع وحكومته اعترافا سياسيا دوليا مؤقتا، لكن هذه المكاسب ستتلاشى أمام الخسارات الأعمق، فقدان القرار السيادي، تقييد الجيش، وتحويل أمن الدولة إلى ملف مدار من الخارج.

الاتفاق الأمني السوري الإسرائيلي ليس تفاهما عابرا، بل مشروع لإعادة هندسة الأمن في المشرق، إسرائيل تكرس تفوقها، أمريكا تحتفظ بأدوات الضغط، سوريا تتنفس قليلا لكن بثمن باهظ، فيما يتم إقصاء إيران تدريجيا.