بدأت هذه التساؤلات، أو قل الدعاوى، في الظهور في مصر منذ عدة أعوام مدفوعة بعوامل كثيرة، قد يكون منها، الظروف الاقتصادية الطارئة الصعبة التي تعيشها مصر في الآونة الأخيرة، أو حملات مجهولة المصدر، فتأتي فجأة، وتختفي فجأة، ولا نعلم على وجه اليقين مصدرها، أو الغرض منها، أو اعتقاد البعض أن الدولة المصرية (أو على الأقل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين)، تمنح هؤلاء اللاجئين رواتب شهرية بمئات الدولارات، بينما يعاني المواطن المصري شظف العيش، ناهيك عن أن قطاعا كبيرا من المواطنين لا زالوا أسرى لتلك الفكرة الخاطئة التي تذهب إلى أن مصر تستضيف على أراضيها، ما يربو على عشرة ملايين لاجئ، وحقيقة القول، فإن هذه المفاهيم والتصورات الخاصة تحتاج للمراجعة وتفنيد وتوضيح للرؤى الصحيحة لهذا الموضوع.

بطبيعة الحال، فإن عدم وضوح الرؤية في بعض القضايا يفتح الباب للاجتهادات، وربما الشائعات التي قد يساهم البعض في ترويجها بحسن نية، أو في بعض الأحيان عن عمد، لكن ما لا نستطيع تجاهله، هو أننا لا بد أن نوضح للرأي العام حقيقة الأمر؛ منعا لأي لغط قد يؤدي للفهم الخاطئ للموضوع.

للأسف قد بدأت إرهاصات ذلك بالفعل- لحملات كراهية ضد من تسميهم الدولة المصرية– مشكورة- في خطابها الرسمي “ضيوفنا”. ونعود إلى هذا التساؤل الذي ربما طرحه غير المتخصصين مستنكرين، أن تستقبل بلادهم أبناء دول شقيقة تشاركنا التاريخ أوالجغرافيا أواللغة… إلخ. بل أن هناك دعوات غير مسئولة تنادى بترحيل اللاجئين من مصر، وكأن اللاجئين الذين يقل تعدادهم عن الواحد بالمائة من سكان مصر هم سبب مشكلاتنا المزمنة، مطالبين بأن ننتهك القانون الدولي واتفاقيات دولية، وقعت وصادقت مصر عليها بإرادتها، بل انتهاك الدستور المصري الذي يحظر في مادته رقم 91 تسليم اللاجئين.

لماذا تستقبل مصر اللاجئين؟

الحقيقة، أنه قبل أن تقوم الأمم المتحدة بصياغة اتفاقية 1951 الخاصة بوضعية اللاجئين (والتي كانت مصر وتركيا، هما الدولتين الوحيدتين من منطقة الشرق الأوسط اللتين شاركتا في صياغة هذه الاتفاقية)، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 428، فقرة (v) بإنشاء مكتب المفوض السامي للاجئين بتاريخ 14 سبتمبر 1950 ليتولى أمور اللاجئين في العالم. يعني هذا الكلام، أن عدم تصديق أية دولة على اتفاقية اللاجئين، لا يعني أنها تتنصل من التزامها الأممي بقبول اللاجئين على أراضيها. أضف إلى ذلك فإن اتفاقية 1951 -والتي تعد هي وبروتوكول 1967 المكمل لها هي الوثيقة الأم لحماية اللاجئين، حيث تنص في المادة 46 منها على إنه يجوز للدول التي وافقت على الالتزام بأحكام هذه الاتفاقية وقبول حماية اللاجئين، من حقها أن تنسحب من الاتفاقية بموجب خطاب موجه إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ويصبح الانسحاب ساريا بعد عام من إرسال الخطاب. أي أن الدولة المصرية لا ترى أي سبب في التنصل من الالتزام الاختياري المتمثل في المصادقة على اتفاقية اللاجئين حتى الآن.

 هناك بالطبع جهود تقوم بها الدولة المصرية لتقنين الوضع أكثر، وجعل كل ما يتعلق بأمور اللاجئين بيد الدولة المصرية، لا بيد مفوضية اللاجئين، ولكن يبدو أن هذا الآن يسير بخطى متعثرة، حتى أن اللائحة التنفيذية لقانون لجوء الأجانب لم تصدر رغم مرور فترة الستة أشهر المقررة لذلك.

موقف مصر التاريخي لحماية وتوفيق أوضاع اللاجئين

على الجانب الآخر، فسجل وموقف مصر التاريخي في استقبال وحماية اللاجئين، لا يقبل أية مزايدة ولا يقبل أن يُمحى؛ بسبب بعض الأمور العابرة التي قد تصدمنا من وقت لآخر. فمنذ آلاف السنين، ومصر مقصد لكل من واجه اضطهادا أو حربا أو حتى مجاعة، ما لا يتسع المجال هنا لذكر حالات النزوح الجماعي إلى مصر، لكن نكتفي هنا ببعض الحالات في القرن العشرين. فقبل أن يتبلور مفهوم اللجوء عالميا في الأمم المتحدة، بل قبل قيام الأمم المتحدة نفسها بثلاثين عام، كانت مصر ملجأ للأرمن الفارين من المذابح التركية ضدهم، والتي بدأت في إبريل 1915، حيث استقبلت مصر سفن تتبع البحرية الفرنسية، والتي أنقذت ما يقارب السبعة عشر ألفا من الأرمن في مدينة بورسعيد، أولا في مخيمات مؤقتة، ثم سرعان ما انتقلوا إلى القاهرة والإسكندرية، ثم هاجر بعضهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وعاد البعض الآخر إلى بلده، بعد أن استقرت الأوضاع هناك، ولم ينسوا أن علقوا هذه اللافتة الشهيرة باللغة العربية، والتي تقول: “إننا ندين بالجميل للشعب المصري النبيل”، والتي تحتفظ بها الذاكرة الإنسانية، والتي تعبر عن العرفان بجميل مصر في استقبال وحماية من فروا من حرب الإبادة الجماعية. 

صورة توضح موقف مصر التاريخى لحماية وتوفيق أوضاع اللاجئين
صورة توضح موقف مصر التاريخي لحماية وتوفيق أوضاع اللاجئين

ويمكن لأي شخص عادي، أن يقارن بين ما ذكره التاريخ عن قسوة عمليات صلب النساء الأرمن، وعن عبارة الشكر في الصورة الثانية؛ ليعرف أن القوى الناعمة المصرية لم تأت من فراغ، حتى منذ قرن من الزمان، حتى أن الدولة الأرمينية في مارس من العام 2023 أصدرت قرارا بتسمية أحد شوارع العاصمة ييرفان باسم شارع مصر.

بالإضافة إلى دور مصر في احتضان بعض الأرمن الفارين من مذابح الأتراك، يذكر لمصر استقبالها وحمايتها على مدى ما يزيد عن القرن من الزمان للاجئين من فلسطين والعراق وسوريا والسودان وإثيوبيا وإريتريا والصومال والبوسنة ورواندا والكونغو واليمن وليبيا والجزائر.. إلخ.

ونود أن نسرد بعض الحقائق التي ربما تكون جديدة أو غريبة أو مستهجنة، والتي ليس الغرض منها جلب التعاطف مع فئة من البشر، وقعوا في أتون حروب ليس لهم فيها ناقة ولا جمل (فالطبيعي أن نتعاطف مع من ألقوا في أتون حرب لا يرحم طرفاها أحدا)، ولكن هنا أود أن أعرض الصورة كاملة بكافة جوانبها، وعلينا أن نستقرأ الوضع وفقا لهذه المعطيات، ثم نحاول أن نصل إلى رأي مبني على معلومات موثقة، وحقائق قد تكون غائبة عن الأذهان:

وفقا لإحصاء مفوضية الأمم المتحدة للاجئين– مكتب القاهرة- فإن عدد اللاجئين وطالبي اللجوء المسجلين بمصر هو 1.035325 مليون شخص منهم 672.390 سودانيا، و139.384 سوريا، والباقي من جنوب السودان وإثيوبيا وإريتريا والصومال وحوالي 55 دولة أخرى.

لا يعني هذا، أن تعداد اللاجئين في مصر هو مليون فقط، لكن هناك من لم يتسن لهم التسجيل بالمفوضية، أو تقدموا ورفضوا وأغلقت ملفاتهم أو فضلوا الحصول على إقامات سنوية؛ بسبب تواجد أطفالهم في مدارس مصرية، أو من يمتلكون عقارات فارهة أو مشروعات بمصر، فلا يحتاجون أي مساعدات من مفوضية اللاجئين، ليصبح العدد وفقا لإحصاء تقريبي غير موثق حوالي مليوني لاجئ أو كما يوصفون في القانون الدولي (من هم في وضعية اللاجئ، لكنهم ليسوا كذلك).

تستضيف مصر حوالي مليون سوري، لكن العدد المسجل لدى المفوضية، كما ذكرت، هو حوالي 140 ألف فقط، والباقي لا يحتاج لأية مساعدة، فلديهم مشروعات، ويحصلون على الإقامات دون التسجيل كطالبي لجوء، وهم كما أسلفت، هم لجأوا إلى مصر لكن وضعيتهم كأجانب، لا تمنحهم حماية أو مكتسبات اللاجئ.

يذكر أيضا، أن تعداد اللاجئين السودانيين في مصر حتى اندلاع تلك الحرب (العبثية) بين طرفي النزاع الحاليين في الخامس عشر من إبريل 2023، كان 57 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجل فقط من إجمالي 280 ألف لاجئ، من حوالي 60 دولة، أي أن الوضع الحالي استثنائي.

تتراوح المساعدات التي يحصل عليها بعض (المحظوظين) من المسجلين لدى المفوضية من 1500 إلى 3000 جنيه مصريا للأسرة، وهي مساعدة يحصل عليها أقل من ثلث تعداد اللاجئين وطالبي اللجوء في مصر، بالإضافة إلى منحة مالية مقدارها 1500 جنيه سنويا لكل طالب حتى المرحلة الثانوية.

معظم اللاجئين في مصر يحصلون على مساعدات من أفراد أسرهم في أوروبا أو أمريكا أو الخليج، وهم يقومون بعمل رواج سلعي؛ بسبب مشترياتهم ناهيك عن تحويل العملة الصعبة إلى مصر. أي أخ قد يرسل إلى أخيه أو أسرته مبلغ مائتي دولار شهريا فقط، وهو مبلغ زهيد في بلاد أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية، فيعني هذا حوالي عشرة آلاف جنيها مصريا، وهو مبلغ مناسب جدا للمعيشة في مصر.

هناك العديد من الاتفاقيات بين مصر والاتحاد الأوروبي، نحصل بموجبها على مساعدات سنويا مقابل استقبالنا لهؤلاء الضيوف.

هناك مخاوف من تمركز جنسيات معينة في مناطق من القاهرة، وربما أثار ذلك توجسا لدى الجهات الأمنية، وهذا عملهم الذي قد لا نستطيع التدخل فيه.

في أعقاب اندلاع حرب إبريل 2023 في السودان، قامت الدولة المصرية بفتح الحدود لأي شخص قادم من السودان دون أية شروط، لكن سرعان ما تم إلغاء هذا القرار؛ بسبب قيام الجهات المتحاربة بفتح السجون ومقار الاحتجاز، فتسلل بعض المحكومين، وربما الإرهابيين إلى الأراضي المصرية، وهو أمر بالغ الخطورة، بعد أن قمنا بتطهير سيناء من العناصر التكفيرية الخطيرة.

هناك بالتأكيد العديد ممن ادعوا الاضطهاد، وهم بالحقيقة مهاجرون اقتصاديون، يرغبون فقط في إعادة توطينهم إلى أوروبا وأمريكا.

هناك من أتوا إلى مصر كدولة عبور للهجرة غير النظامية عبر البحر المتوسط، وإن كانت الدولة المصرية قد سيطرت على حدوها بشكل شبه كامل منذ العام 2016، حتى أن المنظمة الدولية للهجرة، أطلقت على مصر (الدولة البطل) لتمكنها من السيطرة على هذه الظاهرة.

من استنفد فرص إثبات كونه لاجئ من عدمه، وتم إغلاق ملفه، يصبح مجرد أجنبي على الأراضي المصرية، ولا تنطبق عليه ولاية مفوضية اللاجئين، فلا يتمتع بحمايتها، ويصبح ترحيله مشروعا، ولا يعد انتهاكا للقانون الدولي أو الدستور المصري.

تجدر هنا الإشارة، إلى أن أبناء السودان وسوريا لا يتم عمل مقابلات تحديد وضعية اللاجئ معهم، ومن ثم لا يغلق ملفهم، ويظلون تحت حماية المفوضية والدولة المصرية.

بالتأكيد، فإن وجود اللاجئين (ونتحدث هنا عن مليون شخص فقط)، يحمل تكلفة على البنية التحتية والمرافق، ناهيك عن ذلك الدعم المحدود للمحروقات والكهرباء.. إلخ.

من المهم أن تقرأ– عزيزي القارئ- هذه النقاط بعناية، قبل أن تكون رأيك سواء بالسلب أو بالإيجاب عن تواجد اللاجئين في مصر (فلست هنا بصدد تبرير أو تجريم وجود اللاجئين في مصر، بل أذكر حقائق على المستوى الاقتصادي والسياسي والأمني، قد تكون غائبة عن الكثيرين). والدولة المصرية عليها أن توازن بين ما هو إنساني، وما هو أمني في قرارتها.

الابادة الأرمينية 1915
الإبادة الأرمينية 1915

الإبادة الأرمينية 1915

الإبادة الأرمينية
الإبادة الأرمينية

*أشرف ميلاد خبير بالمفوضية الإفريقية لحقوق الإنسان