المعتاد في القمم العربية، خاصة الطارئة منها، ارتفاع الأصوات بالشجب والتنديد والإدانة والبيانات النارية الغاضبة، لكن قمة الدوحة الطارئة كان من المفترض أن تكون نقطة فارقة في مسار تلك القمم لخطورة الحدث الذي استدعاها وهو الهجوم الإسرائيلي على قطر ودلالته المستقبلية العميقة.

التساؤل في الشارع العربي كان ما الفارق هذه المرة؟ عقود من الاجتماعات تركت وراءها بيانات مطولة، بينما إسرائيل ماضية في القصف والتجويع والتهجير بلا تكلفة أو ردع.

الغريب، أن العرب يملكون أوراق ضغط حقيقية متعددة، اقتصادية، وقانونية، وأمنية، ودبلوماسية، لكن ما ينقصهم هو إرادة موحدة وآلية تنفيذ، حتى تتحول الخطابات الرنانة إلى أفعال رادعة.

 دعونا نطرح ما يملكه العرب لتغيير واقع بات مريرا.

  السيناريو البديل

لو أرادت القمة العربية الأخيرة بالدوحة والتي شاركت فيها الدول الإسلامية، أن تترك أثرا حقيقيا ملموسا، يحترمه الشارع العربي والرأي العام الدولي، كان يجب عليها تبني حزمة قرارت من خلال خطوات واضحة، نطرحها في النقاط التالية:

الطاقة.. الشريان الذي يمكن قطعه

إسرائيل خلال السنوات الأخيرة لم تعد فقط قوة عسكرية، بل أصبحت لاعبا مؤثرا في سوق الطاقة.

حيث تجاوزت صادرات الغاز الإسرائيلي العام الماضي”2024″، حاجز الـ 22 مليار متر مكعب، يذهب الجزء الأكبر منها لمصر والأردن، بعائدات سنوية تقترب من 3 مليارات دولار.

ولو طرحت القمة ورقة عربية جادة لوقف تمديد العقود وتعويض النقص من قطر والعراق والجزائر؛ لفقدت إسرائيل موردا استراتيجيا، وعانت من خسائر مالية مباشرة؛ تتسبب في ارتباك استثماري ضخم لديها، إضافة إلى اهتزاز صورة إسرائيل كمورد إقليمي للطاقة.

التطبيع.. الورقة الرابحة

استثمرت اسرائيل كثيرا في الاتفاقات الإبراهيمية منذ 2020، حيث بلغت التجارة مع الإمارات وحدها 3 مليارات في 2023، وزار أكثر من 250 ألف إسرائيلي دبي وأبو ظبي بغرض السياحة.

 هذا بخلاف الاستثمارات المشتركة في التكنولوجيا والأمن السيبراني والطاقة المتجددة.

ولو أعلنت القمة تجميد الاتفاقات الإبراهيمية ولو مرحليا، سيتحول التطبيع من جائزة إسرائيلية إلى ورقة ضغط حقيقية.

تجميد مشاريع ضخمة سياحية وتقنية، يعني خسائر ضخمة، والأهم تهديد إسرائيل كقوة إقليمية مدمجة داخل الإقليم بالعزلة التي لطالما حاولت الخروج منها عبر هذه الاتفاقات، وبالطبع حرج ضخم لواشنطن التي تبنت هندسة وتنفيذ هذه الاتفاقات.

 هذا بالإضافة إلى فرض عقوبات اقتصادية وتجارية للدول غير المطبعة التي تتعامل مع إسرائيل، ويشمل ذلك تجميد التفضيلات التجارية، ومنع الشركات المتورطة في دعم الاحتلال من دخول الأسواق العربية.

تقييد السماء.. الإجراء الأسرع ردعا

تفيد الأرقام، أن شركة العال تنقل أكثر من 6 ملايين مسافر سنويا، وتعتمد على الأجواء العربية والإقليمية بشكل أساسي في رحلاتها، وبالتالي فقرار جماعي عربي بأغلاق الأجواء العربية أمام الطيران المدني الإسرائيلي لفترة محددة مع استثناءات إنسانية، له القدرة على إحداث خسائر تشغيلية يومية من خلال رحلات أطول، تكاليف وقود أعلى بملايين الدولارات وصورة رمزية قوية “إسرائيل محاصرة سياسيا والسماوات مغلقة أمامها”.

التنسيق الأمني.. الورقة الأخطر

من أكثر الأوراق حساسية في العلاقة مع إسرائيل، ما يعرف بالتنسيق الأمني، وهو مجموعة من الترتيبات المشتركة معلنة أو غير معلنة بين إسرائيل، وبعض الدول العربية أو الإقليمية.

ويشمل مراقبة الحدود، وتبادل المعلومات الاستخباراتية وتفاهمات غير مكتوبة حول التحركات العسكرية.

في سيناء، ما زالت مصر ملزمة ببنود كامب ديفيد التي تحدد حجم القوات شرق القناة، وأي تعديل لهذه الترتيبات بدون تنسق أمني يربك الحسابات الإسرائيلية، وهو الأمر الذي يمكن الشعور به بوضوح هذا الأيام مع إعلان إسرائيل، أن مصر علقت التنسيق الأمني معها.

في الأردن، يعتمد الجيش الإسرائيلي على التنسيق الحدودي لمنع التهريب وتأمين غور الأردن.

أما في البحر الأحمر وشرق المتوسط، فهناك مستوى من التنسيق اللوجيستي والبحري في إطار تدريبات وترتيبات أمريكية إلى جانب دول عربية وخليجية، وهو ما وفر لإسرائيل غطاء لوجيستيا وأمنيا في ممرات استراتيجية كخليج العقبة وباب المندب للتعاون ضد التهديد الإيراني والقرصنة.

مجرد إعلان القمة العربية عن مراجعه هذه التفاهمات، أو تعليقها، كفيل بتغيير خريطة الدفاع الإسرائيلية، حيث سيجبر تل أبيب على إعادة نشر قواتها على الحدود الجنوبية والشرقية.

كما سيتطلب مضاعفة ميزانية الأمن التي تضاعفت بالفعل في موازنة 2025 لرقم غير مسبوق.

وسيفقد الجيش الإسرائيلي كروت الطمأنينة على جبهاته الخلفية، ما يضاعف الضغوط في جبهاته المشتعلة (غزة ولبنان).

هذه الورقة هي القادرة على إصابة إسرائيل في العمق، لأنها تضرب أساس عقيدتها الأمنية القائمة على أن بعض الحدود آمنة، وتكشف أن أمنها قائم على ضمانات خارجية، لا على قدرة ذاتية حقيقية.

أدوات الردع الناعم

 آلية إنسانية ملزمة، من خلال ممر إنساني ملزم ومؤمن بمراقبين عسكريين دوليين لضمان تدفق المساعدات “لغزة”، ومنع استخدام سلاح التجويع والتلاعب وسرقة المساعدات، وإذا حاولت إسرائيل تعطيل الممر، تتحول الواقعة إلى ملف فورى أمام مجلس الأمن والجنائية الدولية، مع تغطية إعلامية تكشف المنع والسرقة والمصادرة.

 البعض قد يرى هذا الطرح نظري غير قابل للتطبيق، لكن في مارس 2025، قدم خبراء القانون الدولي مقترحا مشابه لمحكمة العدل الدولية كأجراء لحماية المدنيين، لكنه لم يجد غطاء سياسيا عربيا.

لجنة قانونية عربية بميزانية معلنة

كل القمم العربية منذ 2023 رفعت شعار “الاحتكام إلى القانون الدولي” لكن لم تنشأ أبدا آلية تنفيذية لتحقيق هذا الأمر، والمطلوب لجنة قانونية عربية إسلامية دائمة، بتفويض رسمي وميزانيه واضحة تمول من الصناديق السيادية، تضم خبراء ومحامين دوليين، مهمتهم رفع بلاغات دورية أمام الجنائية الدولية بحق قادة الجيش ومتخذي القرار في إسرائيل. ورفع دعاوى جديدة أمام العدل الدولية، استنادا إلى الرأي الاستشاري الذي أكد عدم شرعية الاحتلال وإلزام عدم دعمه. وإصدار تقارير شهرية علنية، توضح مسار التقاضي والردود الدولية وعرضها من خلال وسائل الإعلام، مما يمنع دفن القضية واستمراريتها أمام الرأي العام الدولي.

من القول إلى الفعل تلك هي القضية

القمة العربية الأخيرة، كشفت الفجوة بين الخطاب والفعل، بيانات قوية رنانة موجعة، لكن بلا أدوات تلزم العدو بكلفة حقيقية.

لو كانت الإرادة السياسية موجودة على الطاولة، لخرجت القمة، وما سبقها من قمم بحزمة قرارات متدرجة فاعلة من تقييد للغاز والتجارة إلى ممر إنساني ولجنة قانونية، وصولا إلى ملف التنسيق الأمني.

كل خطوة كانت قادرة على ردع الإرهاب الإسرائيلي، وكسر غطرسته، فقط لو توافرت الإرادة والجرأة.

 العالم الغربي نفسه، سجل في اعلامه، وعبر صحافته، أن العرب لم يتجاوزوا دائرة الشجب، بينما الرأي العام، كان يتطلع هذه المرة إلى الفعل أمام عدو لا تردعه البيانات، بل يُردع حين تُفرض عليه كلفة اقتصادية وأمنية وقانونية.

وما لم تتحول القمم العربية من منابر للخطب إلى منصات للقرار ستظل الفجوة بين الشارع والنخب تتسع، والخيار أمام القادة بات واضحا، إما تحويل القمم إلى منصات قرار ملزم، وإما قبول أن تبقى مجرد طقس خطابي، لا يغير شيئا في مسار الصراع.