تكذب حكومات لندن وفرنسا وغيرها من حكومات الغرب، وهي تعلن الاعتراف، بما يسمى الدولة الفلسطينية، وترفع علم فلسطين فوق مباني البعثات الفلسطينية في عواصم الكذب والنفاق، فبين خريف 2023، حيث بدأت الإبادة الإسرائيلية الممنهجة ضد الشعب الفلسطيني، حتى خريف 2025، حيث بدأت تتجلى مزاعم الحكومات الغربية بالاعتراف بدولة فلسطين، جرت أهوال دونها أهوال، بين الخريفين وقفت أوروبا، وبالأخص فرنسا وبريطانيا وألمانيا كتفاً بكتف ويداً بيد مع أمريكا، تقدم لإسرائيل كل ما يلزمها من دعم مادي وأدبي من السلاح إلى الدبلوماسية، حتى تتمكن من الإجهاز النهائي على آخر قلاع المقاومة الفلسطينية، هذه العواصم- أمام التاريخ- شريك أساسي كامل، في كافة ما ارتكبت إسرائيل من مجازر الإبادة ضد الشعب الفلسطيني على مدار عامين كاملين، ثم في نهاية الرحلة الدموية الوحشية البربرية، ترتدي حكومات الغرب أقنعة الإنسانية، وتظهر على التاريخ بوجه كاذب، تعلن الاعتراف بدولة فلسطين، وهم يعلمون أن مقومات الدولة، أي دولة، حتى لو كانت دولة شخشيخة أو لعبة أطفال، هي مقومات معدومة تماماً، لقد كانت المهمة التاريخية لحكومات أوروبا وأمريكا، منذ ظهرت الفكرة الصهيونية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى يومنا هذا هي غض البصر، ثم التواطؤ، ثم الشراكة الفعلية، ثم الكفالة، ثم الضمان، ثم الرعاية التامة سراً وعلناً للمشروع الصهيوني، حتى تكون أرض فلسطين التاريخية مسرح الجريمة التي ارتكبها، ويرتكبها الغرب، وهي إقامة ودعم وتمكين دولة إسرائيل على أرض فلسطين مع كل ما يلزم ذلك من تزوير التاريخ، وتشويه الحقائق واستباحة دماء الفلسطينيين وأرضهم وتشريدهم وطمس جغرافيتهم، وتهميش تاريخهم وقطع الطريق على مستقبلهم، في خريف 2023 تركت حكومات أوروبا وأمريكا لإسرائيل حرية الفعل، تقتل على مشهد من العالم كله عشرات الألوف من الفلسطينيين في إطار خطة معلنة لتصفية آخر تجليات الإرادة الفلسطينية الحرة، ثم في مطلع خريف 2025 تتنافس عواصم الكذب والنفاق الأوروبي في رفع أعلام فلسطين في حركة تمثيلية، أقل ما توصف به أنها تغطية لواحدة من أبشع جرائم الإبادة ضد الإنسانية، ارتكبتها إسرائيل بشراكة كاملة لحكومات الكذب والنفاق الأوروبية وأمريكا، تغطية على التصفية النهائية للقضية الفلسطينية وضياع الحق الفلسطيني، تغطية على جرائم إسرائيل وتبريرها وتمريرها دون حساب ولا مساءلة ولا تساؤل من أساسه، تغطية تمهيدية لإخفاء وطمس معالم الجريمة من مسرح التاريخ، تغطية تغلق الباب خلف صفحة استثنائية من نضال الشعب الفلسطيني ومعاناته وعذاباته، وتفتح الباب لصفحة من الأكاذيب: افرح يا شعب فلسطيني، هذه لندن وباريس وغيرهما من عواصم الكذب والنفاق، تعترف بدولة فلسطين، وترفع علم فلسطين، لا وقت للبكاء على الشهداء، لا وقت نلوم القتلة، لا وقت نحاسب السفاحين، كل ذلك كأن لم يكن، بل من الأفضل أن تنساه، النسيان هو المقصود، أنت بدون ذاكرة وطنية، سوف تكون أفضل، بدون تحرر وطني، سوف تكون أفضل، بدون استقلال وطني، سوف تكون أفضل، ثم أنت بدون وطن سوف تكون أفضل، وطنك بعضه أصبح إسرائيل حسب اعتراف الأمم المتحدة، وبعضه الآخر أرض محتلة، لكن إسرائيل زرعتها مستوطنات والمستوطنات واقع، ولن، ثم لن، ثم لن ومليون لن تأتي حكومة إسرائيل، تدخل في حرب مع المستوطنين، حتى تخلي لك أيها الفلسطيني بعض المساحات، تكون لك وطناً، واقعياً هذا مستحيل ومحال، أن يتم إجلاء مستوطنين لتعود الأرض إلى أهلها من الفلسطينيين، تقبل يا فلسطيني فكرة أنه من المستحيل عملياً، أن يكون لك بعض وطن في بعض أرضك، انس فكرة الوطن، لكن ممكن نعترف لك بدولة، ثم نرفع لك أعلام هذه الدولة، أما أن يكون لك الاثنان معاً: الوطن والدولة، فهذا هو الصدام الأضخم في التاريخ المعاصر؛ لأن الأرض كلها باتت وطناً قومياً لليهود، كما وعدناهم في وعد بلفور في خريف 1917، ثم اليهود عبر مائة وثمانية أعوام، أخذوا ورقة الوعد، وحولوها إلى وطن لهم، ثم دولة لهم، ولن ثم مليون لن يقبلوا لغيرهم بوطن ولا بدولة، ولو على شبر واحد من أرض فلسطين التاريخية التي هي أرضك يا شعب فلسطين. نحن الغرب في لندن وباريس وغيرهما، نعترف لكم بدولة، لكن نعلم أنها دولة بلا وطن، دولة عاقر عقيم عديم معلقة في أهداب السراب، دولة ورق لا دولة على أرض، دولة خيال لا دولة واقع، الأرض في حيازة إسرائيل، والشعب عليه أن يختار: مواطن درجة ثانية تحت السيادة الإسرائيلية أو القتل أو التشريد الذي أصبح اسمه المخفف التهجير.

من وعد بلفور 1917، حتى رفع أعلام الدولة الفلسطينية في سماء لندن 2025 تاريخ من مائة وثمانية أعوام، تاريخ لم ينقطع، ولن يتوقف، وسوف يستمر ما دام بقي الغرب مخلصاً لدبلوماسية الكذب والنفاق والخداع، وكذلك ما دام بقي الواقع العربي وفياً، لما هو عليه من ضعف وتخاذل وهوان، لقد أنجزت أوروبا ومعها أمريكا وروسيا- في المائة وثمانية أعوام- مهمة التخلص من الذنب اليهودي وتصديره إلى العالم العربي، لكن الذنب اليهودي بعد ألفي عام من التشرد والاضطهاد والاحتقار في أوروبا، تحول في فلسطين إلى الذئب اليهودي الذي بلغ ذروة وحشيته مع حرب الإبادة والتصفية الوحشية للحق الفلسطيني 2023 – 2025، هذا الذئب اليهودي في العامين الأخيرين لم يتحكم في نوازعه الوحشية، ولم يضبط غرائزه الهمجية، فظهر أمام الضمير العالمي خطراً على الإنسانية، فانطلقت مشاعر الاحتجاج والرفض في كافة عواصم الغرب، يقودها ملايين الشباب الذين راعهم الوجه الهمجي للصهيونية، وبالقدر ذاته راعهم حجم العذاب العلني الذي ينصب فوق رؤوس الشعب الفلسطيني من البر والبحر والجو قتلاً وتجويعاً وحصاراً وتشريداً وإذلالاً، يسحق كل ذرة من إنسانية في أعماقه.

هذه الأعوام- المائة وثمانية- توجز مأساة العرب في التاريخ المعاصر: ففي عام 1916، صدقوا وعود الحلفاء- بريطانيا وفرنسا- ودخلوا الحرب ضد الدولة العثمانية في مقابل الحصول على دولة عربية مستقلة كبرى، تضم جزيرة العرب والعراق والشام كله، ثم اكتشفوا، أن الوعد كاذب، وأن الحلفاء مخادعون، يوم ذاعت أسرار اتفاقية سايكس- بيكو حيث اقتسام أراضي العرب بين الإنجليز والفرنسيين. ثم هاجوا عندما صدر وعد بلفور، لكن عادوا وصدقوا التطمينات الأوروبية، وهكذا تدحرج بهم التاريخ، فلم تنشأ لهم دولة عربية مستقلة كبرى، لكنها إٍسرائيل الكبرى، أما هم- كعرب- فواقعهم الحالي مزري، يدعو للرثاء حيث هم نوعان: 1- دول كبيرة تحت التفكيك. 2- دول صغيرة تحت الابتزاز. دول كبيرة مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا، تم تفكيكها بالفعل، ولن تعود- إذا عادت- قبل مائة عام على الأقل. ثم دول صغيرة تتعرض للابتزاز على مدار الساعة مثل قطر والكويت والإمارات والبحرين. السعودية دولة كبيرة، تكاد تكون قارة لوحدها، لكن مركز الملك فيها لم ينحسم، وليس من اليقين أن يكون ولي العهد الحالي هو الملك القادم، وإلى أن ينحسم الاستخلاف السياسي بصورة قاطعة، فإن المملكة سوف تعيش في شيء من الريبة والغموض وغياب اليقين، ثم هذه الدولة المهمة منذ تأسست 1932، ليس لديها القدرات الذاتية لحماية أمنها القومي دون الاعتماد على قوى عظمى، باتت غير مضمونة. أما مصر- الدولة العربية الأكبر- فمن الخارج محاطة بانهيار الدولة في ليبيا والسودان، وانهيار الأوضاع في غزة، ثم لديها مشاكلها الاقتصادية والسياسية في الداخل. 

منذ الوعد 1917 حتى الاعتراف 2025، مائة وثمانية أعوام، لم يتوقف الشعب الفلسطيني عن النضال، منذ اندلعت أولى ثوراته المجيدة 1920، والتي تواصلت بصورة فريدة على مدى عشرين عاماً، فلم تهدأ إلا مع قيام الحرب العالمية الثانية 1939 ويومها عادت بريطانيا لخداع العرب، إذ أصدرت الكتاب الأبيض، وأبدت احتراماً للحق الفلسطيني، وكادت تتنكر لوعد بلفور، أكثر من مائة عام والشعب الفلسطيني في ثورة دائمة، لا تهدأ حتى تفور من جديد، ثوراته تزامنت في بداياتها مع ثورات الحداثة والاستقلال والهوية الوطنية، مع ثورات مصر وإيران وتركيا عند خواتيم الربع الأول من القرن العشرين، الشعب الفلسطيني- في هذا المضمار- جزء من التيار الأوسع للشعوب المتحضرة في الإقليم من إيران إلى مصر إلى تركيا، ففي العام 1920، كان الشعب الفلسطيني من أهم الشعوب المتحضرة التي أعلنت ثورتها، بمجرد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها. 

كذبة وخديعة ومنافقة الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطينية لا موقع لها من الأرض ولا محل لها من الإعراب، هو طرح تضليلي معكوس، فلو كانت أوروبا الكذابة صادقة، لكان الترتيب المنطقي هو: خطة عملية لإقامة الدولة على الأرض بالفعل، دولة حقيقية على أرض الواقع، تتكون من أرض عليها شعب، ولها حكومة ذات سيادة، وتكون للأرض حرمة وللشعب كرامة وللسلطة فاعلية، ثم بعد ذلك نرفع عليها لافتة الدولة وأعلام الدولة، بعد أن تتأكد حقيقة الدولة واقعاً فعلياً على الأرض، وليس قولاً طائراً في الهواء. أوروبا الكذابة كمن يعلن افتتاح دكان برفع لافتة باسم الدكان، لكن دون وجود دكان ولا مكان للدكان ولا بضاعة ولا بائع ولا مشتري.

الحقيقة التي لا ينبغي التغافل عنها هي: 1- إسرائيل في مرحلة توحش وأوروبا التقليدية- فرنسا وبريطانيا وألمانيا- معها ظاهراً وباطناً، فضلاً عن أمريكا. 2- الشعب الفلسطيني هو الشعب الوحيد في العالم الذي يحترف الثورات، ويبذل الدماء والأرواح ويقدم الشهداء بعشرات الألوف في رضا وإيمان. 3- الحل الوحيد الذي لم يتم تجريبه في المائة وثمانية أعوام هو تجريب التقارب بين القوى الحضارية الثلاث: إيران، مصر، تركيا، أو هضبة فارس، وادي النيل، هضبة الأناضول. هذه هي مفاتيح المبادرة الممكنة لإعادة التفكير في الشرق الأوسط وفق منطق سليم، منطق الأشياء، منطق أن هذا الشرق له أصحاب، وإسرائيل فيه من الدخلاء الغرباء، وكذلك من يكفلونها من أوروبا وأمريكا، كلهم دخلاء غرباء، لا مكان لهم فيه، ناهيك أن تكون إسرائيل كبرى، وناهيك أن تظل أمريكا هي من تقرر مصائر الإقليم.