في البدء، لا بد وأن نثمن قرار رئيس الجمهورية برفض التصديق على قانون الإجراءات الجنائية، ورده إلى مجلس النواب مرة ثانية لإعادة مناقشة العديد من المواد التي وردت به، وحيث إن الشارع المصري لم يكن معتاداً على مثل هذه الإجراءات، والتي لم تتم إلا مرتين منذ تولي الرئيس سدة الحكم، لكن يحسب للرئاسة حالة الفرح الغامرة التي سادت المجتمع المصري والمهتمين بالشأن العام.

ولكن وبحسب بيان منسوب لصفحة منسوبة لرئاسة الجمهورية، بأن ذلك القانون قد تم تصديره إلى رئاسة الجمهورية بتاريخ 26 من شهر أغسطس الماضي، فكيف يكون ذلك على الرغم من كون صدور القرار الجمهوري رقم 368 لسنة 2025 بفض دور الانعقاد الخامس من الفصل التشريعي الثاني لمجلس النواب، إذن فمن قام بتصدير القانون إلى رئاسة الجمهورية، على الرغم من حالة الغياب التي يمر بها مجلس النواب، فهل يجوز أن يكون ذلك من الأعمال الإدارية التي يقوم بها الموظفون، أم أنه عمل متتم لسلطة عمل مجلس النواب؟ وهذه إشكالية شكلية، لا أود الوقوف عندها كثيراً، لكن كان لزاماً، أن أضعها في مكانها.

التساؤل الثاني، وهو متعلق بكون العديد من الهيئات والأحزاب والكتل البرلمانية وغيرها، قد أصدرت بيانات تشيد فيه بقرار رئيس الجمهورية برد القانون مرة ثانية إلى مجلس النواب. إذن فمن كان يروج لهذا القانون حال وجوده كمشروع داخل أروقة مجلس النواب؟ أليست هي ذات الجهات التي امتدحت القرار الجمهوري الصادر بنقد القانون وتفنيد ما به من أوجه قصور؟ أليس في ذلك حالة من التناقض من ذات الجهات؟ إذ كيف يستقيم الفعل ونقيضه. ولكن الأغرب والأشد هو أن يكون من بين تلك الهيئات من سيقوم بنقاش المستجدات التي تطرأ على هذا المشروع، فهل يستقيم الوضع؟ لا أعتقد، والحل المنطقي الأوحد هو تغيير الوجوه التي كان لها أي دور في المشروع القديم، وتجنيبها أي متعلقات على المستحدثات الآتية عليه. لكن ما الحل في حالة نجاح ذات الأشخاص في انتخابات مجلس النواب القادمة، والتي ستنعقد في شهر نوفمبر القادم، وهي على ما يبدو سيكون لها الدور الفاعل في مناقشة مشروع قانون الإجراءات الجنائية.

وإن كان لا بد لنا أن نذكر من جديد، بعد إتاحة الفرصة وفتح الباب على مصراعيه، بأن لهذا القانون من الأهمية بمكان، فلا يجب أن يكون نقاشه أو تمريره على ذات الطريقة التي مر بها سلفه، ولكن لا بد من أن يخضع لعيون ثاقبة متخصصة، بعد أن توارى دور نقابة المحامين، وخفت صوتها في معركة قانون الإجراءات الجنائية المٌعاد.

وتكمن الحاجة الملحة في استحداث تعديلات تشريعية لقانون الإجراءات الجنائية، من ناحية كونه هو الذي  يعبر عن الشرعية الإجرائية التي ينبغي توافرها كإطار حاكم لكافة مراحل المحاكمات الجنائية منذ لحظة القبض على المتهم، وصولاً إلى المحطة الأخيرة من المحاكمة الجنائية، والمعتبرة بصدور حكم نهائي في القضية محل المحاكمة، كما تعد شرعية الإجراءات الجنائية إحدى صور الشرعية الجنائية بوجه عام، فهي الحلقة الثانية من حلقات الشرعية الجنائية المتكونة من شرعية الجرائم والعقوبات (الشرعية الموضوعية) وشرعية الإجراءات (الشرعية الإجرائية)، فشرعية الإجراءات الجنائية تشكل مبدأ يكفل احترام الحرية الشخصية في مواجهة السلطة، ويضمن التمتع بالكرامة الإنسانية، فيوجب أن تخضع جميع الأعمال الإجرائية لتنظيم القانون، من حيث شروط صحتها وآثارها، فلا يعد الإجراء صحيحاً، إلا إذا جاء مطابقاً لأحكام القانون، ويقابل في أهميته مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، فإذا كان هذا المبدأ الأخير هو أساس قانون العقوبات، فإن مبدأ الشرعية الإجرائية يحدد الطريق الذي يجب أن ينتهجه المشرع الإجرائي، ويضع الإطار الذي يجب أن يلتزمه المخاطبون بالقواعد الإجرائية. ذلك بشكل أعم وبصورة فوقية لكيفية ما يجب أن يكون عليه قانون الإجراءات الجنائية، كما وأن تعديل قانون الإجراءات الجنائية بشكل عام من الأمور ذات الحساسية المفرطة لتعلقه بكيفية ضمان حقوق وحريات المواطنين، وبالتالي فيجب أن يتم ذلك الأمر على نحو من الدقة والمهنية، بما يضمن أن تكون القواعد الجديدة متماشية بصورة كبيرة مع التزامات مصر الدولية والحقوقية، التي ضمنتها الاتفاقيات والمواثيق التي وقعت عليها مصر، بخلاف ما حدده الدستور المصري من قواعد وجب الالتزام بها، وتحقيقها على أرض الواقع من خلال تضمينها للقواعد القانونية، وإذ أن التعديل الأخير لقانون الإجراءات الجنائية لم يكن كافياً أو وافياً بالمتطلبات التي يفترضها الواقع الحالي، أو المستحدثات التي جدت في الواقع القضائي، وذلك بما يضمن تحقيق أولويات المحاكمات العادلة، وذلك لكونه قد جاء بعد مداولات، دامت أعواما حول رؤية لتعديل شامل لقانون الإجراءات الجنائية، إلا أن ما طالته يد التعديل لم يكن إلا النزر اليسير، فإذا ما أغفلنا عن هذه الورقة وأسقطنا عمداً موضوع الحبس الاحتياطي، وذلك لكونه قد كُتب فيه الكثير، وأنه يحتاج إلى كتابة مستقلة بذاتها، لكن فلا بد وأن نؤكد على أن هذا التعديل قد جاء لتحقيق التزام دستوري، وقع على عاتق الدولة بتوفير محاكم استئنافية في مواد الجنايات، فقد جاء القانون متسرعاً نحو تحقيق هذا الالتزام، دونما النظر إلى آليات تحقيقه، بما يتسق مع المحاكمات العادلة، والتي هي غاية النظام الجنائي.

ومن هذا المنطلق، أعتقد أنه لزاماً على من سيؤول إليه تبعة مناقشة المشروع القادم لقانون الإجراءات الجنائية، بعد أن فتحت السلطة التنفيذية الباب لذلك الأمر، أن يكون لديه من الخبرات العلمية ما يكفي، أو أن يتم عرض المشروع على المتخصصين في العلم القانوني، قبل أن يتم عرضه أو مناقشته، على أن تكون الخطوة التالية لذلك عرض ذات المشروع على المنصات الحقوقية والنقابية العاملة والمعنية بالقانون، ولا يغيب دور الأحزاب السياسية في ذلك الأمر. ذلك إذ أن ذلك القانون لا يهم أشخاص المتهمين أو من هم في حالة تماس مع الجهات القضائية فقط، ولا المحامين فقط، بل أنه قانون متعلق بضمانات متعلقة بكل المواطنين في أشخاصهم ومنازلهم وحقوقهم وحرياتهم.

كما أنه من الأمور ذات القيمة في موضوع الإجراءات الجنائية، ألا يتعارض مع حقيقة شرعية ومشروعية الإجراءات الجنائية، وأن الهدف الرئيسي من وجود مثل هذا التشريع على الرغم من سعيه للوصول إلى العدالة الجنائية، فيما اقترف من جرم، إلا أن ذلك حده أن تراعى الحقوق الأساسية الإجرائية للمتهمين، بما يضمن تفعيل أصل البراءة كأصل عام شامل للمحاكمات الجنائية. والأصل العام أن يكون المشرع حريصاً على صون حقوق المواطنين وحرياتهم المقررة دستورياً، وألا ينال منها متخفياً وراء ستار من ولايته المنصوص عليها في الدستور، إذ لا يجوز أن تتخذ السلطة التشريعية من اختصاصها في تنظيم الحقوق ستاراً؛ لإخفاء نواياها في الخروج بهذا التنظيم عن طبيعة الأغراض التي يجب أن يحرص عليها، حتى وإن حاجج البعض، بأن للمشرع السلطة التقديرية في المفاضلة بين البدائل المتعددة، حين تنظيم الحقوق، إلا أن ذلك محدود باختياره أفضل تلك البدائل لصون تلك الحقوق، وحمايتها على أكمل وجه، دونما إثقال بالقيود، أو ما يجاوز حد التنظيم بشكل عام.