يرتكب شخص ما جريمة، ينكشف أمره لسبب أو لآخر، يتم تقديمه للعدالة، تتم معاقبته وفق الجريمة المرتكبة، إلى هنا تبدو الأحداث منطقية وعادلة، إلا أن بعضًا من الأمور لا تسير على نحو عادل، ففي حال كان لهذا الشخص أسرة وأبناء فإنهم يظلون يدفعون ثمن جريمة الأب لسنوات عديدة، ربما تلاحقهم طوال حياتهم، تعكر عليهم صفو أيامهم، وتحرمهم من وظائف بعينها، أو الزواج بمن يحبون أحيانًا، هكذا كُتب عليهم عبء دفع ثمن جرم لم يرتكبوه.
من طبيبة لـ”متشردة”
“محدش راضي يشغلني”.. تقولها “شوق سيد” 25 عامًا حاصلة على الشهادة الإعدادية ووالدتها متوفية.
“شوق” قُبض على والدها منذ 20 عامًا في قضية إتجار بالمواد المخدرة، وقت القبض على أبيها كانت طفلة عمرها لم يتخطى 5 سنوات، تمنى والدها أن تصبح طبيبة، بالرغم ما كان عليه من إجرام وأخطاء، إلا أنه كان يرسم طريق آخر لها لم يكتمل كما خطط له، فبعد إلقاء القبض عليه اضطرت الأم إلى العمل من أجل الإنفاق على الطفلة بعد إنفاق كل ما تركه الأب، ولم يتبقى أمامها خيارات أخرى سوى العمل في أكثر من مجال، إلا أنه دائمًا ما اضطرتها ظروف زوجها لترك العمل، بسبب المضايقات التي تتعرض لها، فكل من يعرف قصة حبس الزوج في قضية مخدرات يفتعل معها مشكلات لترك العمل، على اعتبار أنها بالضرورة تكون هي الأخرى مجرمة.
بدأت بالعمل في التنظيف لدى طبيب، وبعدها العمل كحارسة لأحد العقارات، وبعدها العمل في تنظيف السلالم لعقار آخر، وماتت الأم بعد محاصرة المحيطين بها ودفعهم لها بالعقاب المجتمعي، وتركت “شوق” بمفردها تشق طريقها لاستكمال البحث عن عمل كما كانت تفعل الأم، اضطرت لإخفاء أمر والدها كثيرًا من أجل البحث عن عمل، إلا أن أمرها كان ينكشف بمصادفات غريبة جعلتها تعاني من قلة ذات اليد إلى الآن.
مجرم رغم أنفه
في حي المعادي عام 2017، تحرش حارس عقار بأحد قاطنيه، وبعد الإبلاغ عن الحادث تم إلقاء القبض عليه، وبالكشف عنه تبين أنه هارب من تهمة سرقة من محافظة أخرى، جريمة ذاع صيتها في الحي الهادئ، وخمدت في هدوء بحبس المتهم، إلا أن النار ظلت مشتعلة تحت الرماد، فـ”مدبولي” الحارس المتحرش ترك زوجته وابنه صاحب الـ 11 عامًا يتعامل معه الجميع على أنه متحرش بالوراثة مثل أبيه.
حاولت الام إقناع سكان العقار أنها وابنها ليس لها علاقة بأفعال الأب، إلا أنهم رفضوا إبقاءهم بالعقار، أو بالحي كله، ظلت تهمة “مدبولي” تلاحق “حسن” من وقت إلقاء القبض على والده إلى الآن، على الرغم من أنه مشهود له بحسن الخلق، وإجماع كل من يعرفه على ذلك، إلا أن أفعال الأب جعلت من الطفل مجرمًا رغم أنفه في نظر المجتمع.
حرمان من الحب
أما “هبة” البالغة من العمر 19 عامًا، فقد حُرمت من الزواج بمن تحب بسبب اتهام شقيقها الأكبر في قضية تحرش عام 2015.
أسرة خطيب “هبة” رفضت إتمام الارتباط بفتاة لها شقيق متهم بقضية تحرش على الرغم من تبرئته أمام القانون، إلا أنهم اعتبروه مذنبًا، وهو ما تسبب في صدمة عصبية لها، دخلت على إثرها في نوبة من اكتئاب شديد ما زالت تعاني منها إلى الأن، ما دعا أسرتها إلى التوجه إلى أسرة العريس في محاولة لإقناعهم ببراءة ابنهم من تهمة التحرش حتى يوافقوا على الزواج.
مقصلة “مواقع التواصل”
جرائم عدة يدفع ثمنها الأبناء أكثر مما يدفعه آباؤهم مرتكبو هذه الجرائم، أيًا كانت الجريمة، فجميعها ندوب في وجه أبرياء، أقصى ذنب ارتكبوه هو انتمائهم لأسرة خرج من بين أفرادها مجرم، وللأسف بفعل التوثيق الدائم لمواقع التواصل لجميع أفعال الأفراد ومصائرهم، وكيفية نظرة المجتمع لهم، أصبح أبناء المذنبين والمجرمين في مرمى نيران المجتمع، تتقلب جرائم أهلهم أمام أعينهم بضغطة زر واحدة، وهو ما تقوله الدكتورة نسرين وجدي أستاذ طب نفسي الطفل بجامعة القاهرة.
وتوضح “وجدي” أن الأطفال مثل البالغين يدفعون ثمن التجارب الحياتية السيئة، لكنهم يدفعون الثمن مضاعفًا، بسبب ما يواجهونه من نبذ ورفض من المحيطين بهم، وهذا ما يجعلهم عرضة لعدد من الاضطرابات والأمراض النفسية، بعضها مزمن يدوم معهم لفترات طويلة.
وتقول إن أشهر هذه الاضطرابات هو الصدمة النفسية من سوء معاملة المجتمع لهم، وهو أكثر الأشياء التي تتسبب للأطفال في صعوبة النوم، أحلام مخيفة وكوابيس، مع الأخذ في الاعتبار أن الأعراض قد لا تظهر مباشرة بعد الأزمة لكنها من الممكن أن تظهر بعد أيام أو أسابيع، وأحيانًا بعد سنوات، أيضًا اضطراب الخوف الدائم، وكراهية الآخرين ونمو روح العدائية والعنف تجاه المحيطين، وحالات التبول اللاإرادي وضعف التركيز، هذا بخلاف ظهور بعض الأعراض الفسيولوجية مثل الصداع وآلام المعدة وارتفاع معدل ضربات القلب، والأمراض المزمنة باختلاف حدتها من طفل لآخر.