اعتلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منبر الأمم المتحدة أول أمس وألقى خطابا ناريا فيه من المتناقضات والكلام الفارغ ما يجعله خطابا استثنائيا في تاريخ الأمم المتحدة وتاريخ رؤساء أمريكا.
ويعد هذا الخطاب واحدا من أطول خطابات الزعماء في هذه الدورة، وتكلم في قضايا داخلية كثيرة، فشتم الرئيس السابق بايدن واعتبر أن أمريكا تشهد حاليا “عصرا ذهبيا” بعد مرور ثمانية أشهر فقط تحت قيادته، وتتمتع “بأقوى اقتصاد، وأقوى حدود، وأقوى جيش، وأقوى صداقات، وأقوى روح من بين جميع الأمم”.
وهاجم أوروبا بسبب سياسة الهجرة وما سماه الحدود المفتوحة وخص عمدة لندن المسلم بهجوم خاص، واعتبر أن عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين يدخلون بلاده “انخفض إلى الصفر”، بعد أن تدفق إليها ملايين الأشخاص “تحت إشراف إدارة” الرئيس السابق جو بايدن “من جميع أنحاء العالم، ومن السجون، ومن المصحات العقلية، ومن تجار المخدرات”.
كما رفض مصادر الطاقة المتجددة، واعتبرها “مجرد مزحة، وغير فعالة ومكلفة للغاية”. وقال إن التأثير الأساسي “لسياسات الطاقة الخضراء الوحشية” لم يكن مساعدة البيئة، بل” نقل النشاط الصناعي من الدول المتقدمة التي تتبع القواعد الجنونية المفروضة إلى الدول الملوثة التي تنتهك القواعد وتحقق ثروات طائلة”.
وبعد أن قال الرئيس ترامب في بداية حكمه إنه سينهي الحرب بين روسيا وأوكرانيا في أسابيع قليلة، ولم يحدث، وقال منذ شهرين إنه سينهي حرب غزة الأسبوع القادم ولم يأت الأسبوع القادم، ومع ذلك ادعى إنه أنهى حروبا وهمية بالقول إنه أنهى 7 حروب “لا يمكن انهاؤها”، وقال إن الأمم المتحدة لم تساعد في انهاء أي من هذه الحروب رغم إمكاناتها الهائلة، “لكنها لا ترقى إلى مستوى هذه الإمكانات”.
وعاد ترامب وزور الحقائق فيما يتعلق بحرب غزة ونسى أو تناسى أن من رفض مقترح مبعوثه “ويتكوف” هو إسرائيل وليس حماس التي قبلته، واعتبر أن الدول التي اعترفت من جانب واحد بالدولة الفلسطينية أعطوا “مكافأة كبيرة لإرهابيي حماس على فظائعهم، بما في ذلك 7 أكتوبر، ولرفضهم إطلاق سراح الرهائن أو قبول وقف إطلاق النار”.
بالنسبة لترامب وإداراته لا توجد جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي في غزة ولا تجويع واستهداف للمدنيين إنما يوجد فقط أشرار حماس والإرهابيين.
إجمالا يمكن القول إن خطاب ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة دل على حجم الكارثة التي يعيشها العالم في ظل إدارته، فمنذ قيام الأمم المتحدة وحضور الزعماء الأمريكيين للمنبر الأممي لم يتوقف، وكانت هناك كثير من دول العالم تختلف مع الرؤساء الأمريكيين في التوجهات السياسية وفي ممارسات كثيرة قامت بها وكانت القضايا محل الخلاف واضحة وتعكس الفارق بين رؤية دولة استعمارية كبري وبين كثير من شعوب العالم النامي ودول الجنوب وحتي بين بعض الدول الأوربية، أما حاليا فالموضوع دخل في طريق العشوائية والكلام الفارغ وتحويل الأكاذيب والتضليل إلى حقائق وكيف أصبح رجل أعمال وتاجر رئيسا لأكبر دولة في العالم وصار “يفتي” في العلوم والأدوية ويقول إن الأمم المتحدة لا قيمة لها رغم إنه يخطب من على منبرها.
إن المعركة الحقيقية الآن تدور بين المؤسسات الداخلية والخارجية وترامب، فهي تحاول أن تردعه أو توقفه عند حده وهو يحاول أن يطوعها وفق تخاريفه. معركته مع القضاء والإدارة والإعلام في أمريكا واضحة وكراهيته للأمم المتحدة ومؤسساتها لا تقبل الشك وأن مشكلته الأساسية هي مع القانون الذي لم يؤمن به إنما اعتبر القوة والتدليس هي سلاحه.
إن منظومة ترامب في الحكم والإدارة تقوم على رفض مؤسسات “الدولة العميقة” وكراهية الموظفين والخبراء العاملين فيها، واستبعاد أو على الأقل تقليص دور العلماء وخريجي الجامعات الكبرى، فالرجل ليس بينه وبين أصحاب الشهادات العليا والتعليم الرفيع “أي عمار” وبدأ في تسريح جانب منهم تحت مبررات مختلفة مستغلا تلك النظرة الشعبوية التي تصورنا إنها موجوده فقط في بلادنا العربية بتحريض أصحاب التعليم المتوسط والكفاءات المحدودة على النخب الأكثر تعليما وهو الخطاب المعروف في كثير من بلدان العالم “بالمعادي للنخبة”.
إن ترامب لم يعاد النخبة لصالح الفراغ أو “لا نخبة” كما يدعي البعض، إنما جاء بنخبة أيضا، فشهدنا مستوى وزرائه وكيف يتكلمون وما هي علاقتهم بالعلم وكيف ينظرون للعالم الخارجي وللدول النامية والعالمين العربي والإسلامي وأصبحنا أمام نخبة جديدة تختلف عن سابقتها في أنها أقل تعليما وأكثر وقاحة.
خطاب ترامب في الأمم المتحدة مليء بالتناقضات والكلام الفارغ وأكد مثل كل مرة على أنه دائما يستهدف الطرف الأضعف (المهاجرين في الداخل والفلسطينيين في الخارج)، وموقفه من حرب غزة كان لصالح الطرف الأقوى بعد أن اعتبر أن المواقف الأوربية “مائعة” والعربية ضعيفة، وحل الدولتين الذي طرحه الجميع غربا وشرقا كأساس للتسوية السلمية وقرارات الشرعية الدولية التي انتهكتها إسرائيل بالاستيطان ونيتها ضم الضفة الغربية وتهجير ولو جانب من سكان غزة، ومع عجز الأمم المتحدة عن فرض أي تسوية سلمية على إسرائيل، أو حتي إصدار مجلس الأمن لقرار بوقف إطلاق النار جعل ترامب يتصور إنه يتحرك في الفراغ في ظل ضعف المؤسسات الدولية والضعف ولو المؤقت للمشاريع البديلة لإدارته.
إن المعركة الحقيقية هي بين مشروع ترامب الفوضوي الذي يعتبر القوة فوق القانون وبين أنصار مؤسسات القانون في الداخل والخارج، ورغم ما يبدو إنه تقدم لترامب إلا أن مشروعه يظل خارج العقل والفطرة الإنسانية السليمة بما يعني إنه بالقطع لن ينتصر في المستقبل المنظور.