كشف تورط ميليشيات ليبية مرتبطة بحكومة الوحدة المؤقتة في عمليات تهريب البشر، والإتجار بهم عبر البحر المتوسط، عن جانب مظلم في التعاون الوثيق والمزدوج مع دول الاتحاد الأوروبي، خاصة إيطاليا، تزامنا مع توثيق انتهاكات جسيمة في مراكز الاحتجاز، وتنامي نفوذ جهات محلية ودولية في استغلال ملف الهجرة كسلاح جيوسياسي، ما يضاعف من معاناة مئات الآلاف من المهاجرين العالقين في ليبيا.
وكشفت منظمة “إس أو إس هيومانيتي” الألمانية، المتخصصة في عمليات البحث والإنقاذ البحري للمهاجرين واللاجئين في البحر المتوسط، عن رصد زورق، تابع لما يُعرف بـ”خفر السواحل الليبي”، وعلى متنه عدد كبير من الأشخاص، فيما اعتبرته “عملية صدّ غير قانونية” خلال إنقاذ 29 مهاجراً، من بينهم 14 قاصراً .
كما قدمت منظمة “ميديتيرانيا سيفينج هيومانس” الإيطالية، أدلة موثقة على تورط جنود، تابعين لحكومة الوحدة في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وتحديدًا الكتيبة 80 للعمليات الخاصة التابعة للواء 111 بقيادة عبد السلام الزوبي، نائب وزير الدفاع، بشكل مباشر في عمليات تهريب البشر في البحر المتوسط.
أوضحت المنظمة، أن الجنود ألقوا مهاجرين قسريًا في البحر خلال عملية في 21 أغسطس الماضي، ما عرضهم لخطر الغرق، بعد أيام من تهديد السفينة التابعة للمنظمة ومحاولات إرهابها؛ لإبعادها عن مياه الإنقاذ الدولية، وأن هذه الممارسات تتضمن الاحتجاز التعسفي والتعذيب والعمل القسري للمهاجرين المحتجزين في ليبيا.

وفقا لرواية المنظمة، فإن الزوبي، أحد أبرز محاوري الحكومة الإيطالية في إدارة الحدود، يظهر تورطه المباشر في هذه الانتهاكات، رغم استمرار التعاون المثمر بينه وبين السلطات الإيطالية.
وقدمت المنظمة الأدلة المصورة والفيديوهات إلى مكتب المدعي العام والمحكمة الجنائية الدولية، مطالبة بالتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبها جنود حكومة الدبيبة في طرابلس ضد المهاجرين المدنيين وسفن الإنقاذ.
ووثّقت صور ومقاطع مصوّرة، نشرتها صحفية إيطالية، ما وصفته بجريمة مروّعة، ارتكبتها هذه الميليشيات، بينما يُؤكد تورط أجهزة رسمية لحكومة الوحدة، وأن تجارة البشر ليست مقتصرة على الميليشيات الخارجة عن القانون.
ورغم كونه أحد “الخيول” الرئيسية التي راهنت عليها إيطاليا، وأحد أبرز محاوري حكومتها، ومن الذين تتباهى بـ”تعاونها المثمر” معهم في “إدارة الحدود”، فقد حظي الزوبي باستقبال حافل من وزير الداخلية ماتيو بيانتيدوسي، بعد أيام قليلة من تلك الحادثة، في مفارقة لافتة بين استمرار روما، في اعتباره شريكاً استراتيجياً، وبين الاتهامات الحقوقية، التي قد تُعرّضه لمساءلات أمام القضاء الدولي.
ويساهم تمويل إيطاليا خفر السواحل والتعاون مع مسئولين متهمين بالتهريب، في تحويل المأساة إلى “اقتصاد سياسي للهجرة”، تقوم فيه طرابلس وروما باستغلال أرواح المهاجرين كورقة ضغط، بينما تتكدس الجثث على شواطئ المتوسط.
وأعقب إطلاق خفر السواحل الليبي المدعوم من الاتحاد الأوروبي النار على سفينة الإنقاذ الإنسانية، دعوة مجموعة من المنظمات الدولية غير الحكومية المفوضية الأوروبية لوقف التعاون مع ليبيا، وقطع العلاقات معها، متهمة بروكسل “أي الاتحاد الأوروبي” بتمويل قوات “مكّنت وشرعنت الانتهاكات”.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تدين فيها تقارير دولية تورط حكومة الوحدة في قضايا الإتجار بالبشر، وتوثق علاقة بعض الميليشيات التابعة لها بعمليات تهريب المهاجرين.
فقد صنف تقرير وزارة الخارجية الأمريكية العام الماضي، ليبيا كـ”حالة خاصة” للسنة التاسعة على التوالي، مشيرًا إلى استمرار تورط ميليشيات متحالفة مع الحكومة في عمليات الإتجار بالبشر، بما في ذلك الاحتجاز القسري، والتعذيب، والعمل القسري للمهاجرين.
وأعربت البعثة المستقلة لتقصي الحقائق في ليبيا عن قلقها العميق؛ إزاء تدهور الوضع الحقوقي في البلاد، مشيرة إلى استمرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الإتجار بالبشر، من قبل ميليشيات متحالفة مع الحكومة.
وتضمن البيان المشترك للاتحادين الإفريقي والأوروبي والأمم المتحدة، إشارات ذات صلة بالموضوع عبر تأكيد المنظمات الثلاث التزامها بمعالجة قضايا الهجرة، وفقًا للمعايير الإنسانية وحقوق الإنسان الدولية، بما في ذلك من خلال فريق العمل الثلاثي المعني بوضع المهاجرين واللاجئين في ليبيا، ما يشير إلى أهمية التعاون بين المنظمات الدولية لمعالجة قضايا الهجرة واللاجئين في البلاد.
وتكشف شهادات أسر المحتجزين عن مطالبات مالية لإطلاق سراح ذويهم، فيما توثق منظمات حقوقية محلية ودولية ظروفًا، وصفتها بأنها أقرب إلى “العبودية الحديثة”، من اكتظاظ وحرمان من الرعاية الصحية والغذاء، وصولاً إلى أعمال قسرية وعنف جسدي ونفسي.
ويرى ناشطون، أن المشكلة أعمق من كونها إنسانية، إذ تحولت بعض مراكز الاحتجاز، ومنها بئر الغنم، جنوب طرابلس، حيث يعيش مئات المهاجرين غير النظاميين، بينهم نساء وأطفال وقاصرون، في أوضاع مأساوية واتهامات متكررة بالتعذيب والابتزاز، إلى بؤر لصراع النفوذ، و”تجارة البشر” التي تغذيها الفوضى الأمنية والانقسام السياسي في ليبيا.
شبكات تهريب عابرة للحدود
ويتعرّض آلاف المهاجرين الفارين من الحرب والفقر في دولهم إلى شبكة معقدة من التهريب عبر ليبيا نحو أوروبا، وغالبا ما تنتهى الرحلات البحرية باعتقالهم من قبل خفر السواحل، أو وقوعهم في شباك مافيات التهريب، بعد دفع مبالغ ضخمة، تبدأ من آلاف الدولارات مقابل الرحلة الواحدة.
وكشف تقرير مصفوفة تتبع النزوح الصادر عن المنظمة الدولية للهجرة، أن عدد المهاجرين في ليبيا بلغ نحو 667,440 مهاجراً، ينتمون إلى أكثر من 41 جنسية، يتركّز أغلبهم في طرابلس (17%)، ومصراتة (11%)، وبنغازي (11%)، وأجدابيا (9%).
وأكد التقرير، أن الأسباب الاقتصادية تظل الدافع الأساسي للهجرة، حيث أشار 89% من المستطلعين، إلى أن غياب الدخل الكافي في بلدانهم كان السبب الرئيس لمغادرتهم، مشيرا إلى مواجهة المهاجرين تحديات إنسانية خطيرة، أبرزها نقص الغذاء والمياه، وضعف الوصول إلى الرعاية الصحية، وغياب السكن الملائم.
كما أظهرت النتائج ارتفاع نسبة البطالة إلى 22%، مع معاناة أكبر بين النساء (34%) مقارنة بالرجال (20%)، علما بأن التحويلات المالية التي يرسلها المهاجرون لأسرهم في بلدانهم الأصلية، تمثل مصدر دخل رئيسيا لتأمين احتياجات أساسية مثل الغذاء والإيجار والتعليم.
واعتبر اجتماع كبار المسئولين بشأن ليبيا، الذي ترأسته الولايات المتحدة على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، “توحيد مؤسسات ليبيا السياسية، أمراً أساسياً “، لتمكينها من الدفاع عن سيادتها وحماية حدودها، ومنع استخدام أراضيها لانتشار تهديدات مثل الهجرة غير الشرعية وتهريب الأسلحة.
المقاربة الأوروبية
بموازاة أوضاع المهاجرين الصعبة داخل ليبيا، تكشف دراسة أن المقاربة الأوروبية اتسمت بطابع أمني دفاعي ،أكثر من كونه إنساني أو تنموي.
فمع تفاقم الفوضى في ليبيا بعد 2011، تحوّلت البلاد إلى معبر رئيسي للهجرة غير النظامية نحو السواحل الأوروبية، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى عقد اتفاقيات ثنائية وبرامج تعاون مع السلطات الليبية، تركز على وقف التدفقات وضبط الحدود، دون معالجة الأسباب العميقة للهجرة.
ويعكس هذا النهج مفارقة لافتة بين أوروبا، التي تحتاج إلى اليد العاملة الأجنبية لمواجهة أزماتها الديموجرافية “السكانية”، وتشدد في المقابل القيود وتجريم أنشطة إنقاذ المهاجرين في البحر، ما حول ليبيا إلى “منطقة عازلة”، يتحمل فيها المهاجرون الثمن الأكبر من ابتزاز واستغلال، بينما تبقى المأساة الإنسانية قائمة دون حلول مستدامة.
واعتبرت دراسة قانونية، أن ضعف الإطار التشريعي أساس في معاناة المهاجرين اليومية، حيث إن القوانين القائمة لا تتوافق مع المعايير الدولية.
ويلعب نفوذ روسيا دوراً متزايداً في ملف الهجرة، ويمتد لاستغلاله كأداة ضغط على أوروبا، سعيا لترسيخ نفوذها على المتوسط وتعويض خسائرها الاستراتيجية، وهو ما يحوّل معاناة المهاجرين إلى ورقة جيوسياسية في صراع النفوذ الدولي.
ويلقي هذا الملف بظلال كثيفة على المشهد السياسي والاجتماعي والأمني والاقتصادي في ليبيا، التي تحولت إلى منصة لعبور المهاجرين غير الشرعيين معظمهم من الأفارقة، البحر المتوسط باتجاه الشواطئ الأوروبية.
وساهم انعدام الأمن واستمرار الفوضى منذ سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2011، في تزايد عدد الحالمين بالهجرة، مع قرب الشواطئ الليبية بنحو 300 كيلو متر من السواحل الإيطالية.
وتعمقت هذه الفوضى بوجود حكومتين، إحداهما تحظى باعتراف دولي، وهي حكومة عبد الحميد الدبيبة، ومقرها العاصمة طرابلس، وتدير منها غرب البلاد بالكامل، أما حكومة الاستقرار الموازية المكلفة من مجلس النواب برئاسة أسامة حماد، ومقرها في بنغازي، تدير شرق البلاد بالكامل ومدنا في الجنوب.
وهكذا، يبقى ملف الهجرة غير النظامية في ليبيا أكثر من مجرد أزمة إنسانية، بعد تحوله إلى ساحة مفتوحة لتقاطع النفوذ والابتزاز، وأيضا لورقة مساومة في أيدي ميليشيات محلية وفاعلين دوليين.